البوح والمكاشفة في ما تصرح به المرأة : غادة السمان مثالاً

قبل عدة سنوات كنت قد كتبت المقال أدناه،

تبقى غادة السمان شاهدة على زمن كل شيء كان فيه اكثر نقاءاً واحتراماً. هذه المرة تبدو الرسائل بينها وبين نزار مختلفة عن توقعات الجمهور الذي يتوقع هيام الشاعر امام ذكاء الانثى الطاغي في غادة. فكما صرحت على صفحتها ومن قرأ الكتاب الاخير ان المراسلات ليست مراسلات عاطفية. فلقد كان نزار ابن خالتها. ولكن الجمهور يحب الفضائح ويتوقعها لكي يهاجمها وتكون غادة مرّة أخرى أضحية خوفه وارتيابه الكونيّ من امرأة قويّة.

مضحك هذه المرة الخروج للدفاع عن نزار قباني وهو الذي اخترق كل الأدبيات في العشق وحوّل المرأة الى جسد تجتاحه هواجسه، فتلمّسنا نحن معشر النساء كلماته بصوت كاظم الساهر وتمنّينا لو كنّا زاوية لتلك الأبيات.

انتظر عمل المبدعة الكبيرة غادة السمان لأفهم أكثر زمناً كانت العلاقات فيها اكثر احتراماً، وكان الكلام فيها أكثر قيمة، وكانت علاقة المرأة فيها بالرجل بمنزلة أكثر اتزاناً بوجود امرأة مثلها.

 

البوح والمكاشفة في ما تصرح به المرأة

أثارت المراسلات التي نشرتها غادة السمان، من أحد معجبيها السابقين زوبعة من الانتقادات، وراح الكثيرون بين محلّل ومبرّر، معارض ومؤيد، بعرض وجهة نظره في الموضوع. 

مما لا شك فيه أن موضوع الخصوصية هنا موضوع مهم، بين ما هو حق للمرسل والمرسل اليه. قد يكون النقاش طويلاً. ولكن، في كل الاحوال هي مالكة لهذه الرسائل ولها حق التصرف فيها. السؤال الذي يبقى عالقاً بهكذا حال، هو أن الاخر بالحالتين ميت، لا يملك الخيار. نحن لا نعرف ان كانت هذه المراسلات هي كل ما كان يرسل لها من قبل الأشخاص المعنيين، ام أنها كانت تنتقي ما تقرر ان ينشر. بوحها هنا، مهما كان علنياً ومستحباً، يبقى منقوصاً، لأنه لا يمثل الا طرفها واختيارها من تلك الحكايات. 

من منا لم يقرأ او يعبر من خلال مراسلات غسان كنفاني لغادة السمان الذي جعل منها ديفا ووحياً للعشق في مخيّلات الكثيرين والكثيرات. 

ولكن للحظة خطر ببالي، ماذا لو كانت هذه المراسلات، قد كشفت من المرسلين أنفسهم. لو باحوا بعشقهم لها . هل كنّا سنصاب بحالة من الصدمة من جرأتهم بالعشق والبوح به للآخر ونشره (فضحه)؟   

ما قامت به غادة السمان بالحالتين يعبّر عن قوّة بغض النظر عن نواياها، وبنواياها بالحالتين تفكير وتصرّف عهدناه طبيعياً بالرجال، فاستهجنّاه من امرأة. 

وقد يكون تحفّظي هنا …. 

فنحن عادة ما نترك للرجال التحكم بخبايا النّساء، فهم من يحبّون ومن يكتبون بالعشق. هم من يصفون لوعة الحبّ والحنين والاشتياق. هم من يناشدون ويبكون على أطلال المحب. هم من يكوون بنار العشق ولوعته وسطوة المعشوق عليهم. 

الرجال في أدبنا هم من يفهمون احتياجات المرأة ويحللون مشاعرها ويفهمون جسدها. 

الرجال (المفتونون) في تراثنا وديننا وتقاليدنا هم من يفتون في امور المرأة الدقيقة منها والعامة، فعندهم الأجوبة والفتاوي المقدسة باذنهم عن كل ما يتعلق بالحياة الجنسية، ويفهمون جسد المرأة بالحيض ويملون عليها كيفية الاغتسال ويرشدونها بالتعامل مع هرموناتها وعندهم الجواب لمكامن أنوثتها بالمفاتيح لأقفالها المؤصدة. 

في حالة غادة السمان، ما جرى يبقى في سياق المقبول لأن العاشق الكاتب الرّجل تغزّل واشتاق وانتظر. 

فلو رأينا نفس الكلمات تخرج منها لكان الانتقاد عليها سيكون مضاعفا وسيتم اتهامها بالفسق والانحلال. 

قرار غادة ان تنشر ما كتب لها، حرّرها من ان تكون سلعة لهواجس الرجال، حتى لو كان ذاك الرجل عاشقا حقيقياً او حبيباً حالماً. باللحظة التي قرر فيها ذاك الرجل او غيره البوح لها ومبادلتها مشاعره، أصبح كل ما يخرج منه اليها حقّا لها. وكأنها هنا حُكم عليها العيش في ظلال علاقات مع رجال متزوجين (الحديث بالحالتين عن رجال متزوجين) .

 بلا شك، ان الحوار هنا سيأخذنا الى مكان آخر في فهم المسألة وتحليلها، والمساءلة كذلك. فلهؤلاء الرجال عوائل من زوجات وابناء 

 القاريء لغادة السمان يعتبرها جريئة الطرح ولقد أخذ عليها منتقديها بانها تتناول مواضيع الجنس، الا انه لا يمكن أبدا قراءتها، سواء أحببنا او استسغنا كتاباتها أم لم نحب ولم تعجبنا، التأكيد أنها كاتبة مخضرمة أديبة. وما نراه من جرأة في مواضيعها لا يخدش الحياء ولا يدخل في المحاذير والممنوعات. ومع هذا الانتقادات عليها في هذا الشأن لاذعة. 

اما لو نظرنا الى كاتب آخر، فلو قرأنا يوسف زيدان وتوصيفه للعلاقات ما بين الرجل والمرأة وتصويره لمشاهد تعتبر جنسية في مشاهد مختلفة من كتاباته، لرأينا انه تعدى حدود المقبول في حال غادة السمان بكثير، ومع هذا لم نقرأ نقدا على هذا، على العكس تماماً، نسمع إشادات من قبل الرجال والنساء على بلاغة توصيفة وعظم نقله للمشاعر الإنسانية. 

ماذا عن مراسلات مي زيادة وجبران خليل جبران؟ 

ولكن ان بقينا في سياق غادة السمان وقصص مراسلات المحبين لها، نرى ما يتم تداوله كذلك الآن وفي نفس الإطار، ما ادعاه في حينه ناصر الدين النشاشيبي عن حب غادة له . والذي أقرّ في أحد حواراته انّ فصل كاتبة الليل في كتابه “المرأة تحب الكلام” كان عن تفاصيل علاقته بغادة السمان. وبدا النشاشيبي مستاء عن كنفاني الذي كان قد شبع موتاً حينها لنشر رسائل غادة له. 

في المكانين هنا، كان ناصر الدين النشاشيبي شهيراً بعلاقاته الكثيرة متفاخراً بها بكتاباته المختلفة ويعلنها بلا توجس ولا تحفظ. والقارئ منا لا يجد في هذا حرجاً او عيباً. فناصر الدين لم ينشر مراسلاتها الساخنة على حد تعبيره له (بعد) (ولقد توفي قبل وصوله للمراسلات المحفوظة في بيته بلندن- على حسب قوله حينها)، الا أنه استباحها في كتابة فصل عنها معلناً للجميع انّها هي المقصودة. ولم يجد القراء حرجاً ولا عيباً في هذا. ولم يجد هو عيب في ان يتكلم عن علاقاتها هي المتعددة مع آخرين. 

أمّا هي، فبلحظة إعلانها عن علاقة ما، توجّست العيون واحتجّت العقول. ولم افهم بالحقيقة لم كل هذا التحسب والانزعاج ؟ 

واليوم، نشترك جميعا في تجريم او تأنيب غادة السمان في مكاشفتها لعلاقة، لا تدعي بها انها كانت بريئة منها، فهي كانت تتلقى الجوابات وتفتحها وتقرأها وتحتفظ بها كل هذا الزمن، حتى بعد زواجها وبعد مماتهم! فيما تقوم به مكاشفة لنفسها على الرغم من اتخاذها القرار لوحدها، وهنا الاخر مرة اخرى ليس مؤهلا وليس موجودا اصلا ليعترض او يقبل. قد تكون هذه العلاقات شكلت أرقاً لها، او لربما أرادت التحرر منها، وهذه طريقتها في التعامل مع أمورها الخاصة. 

او لربما نحن جمهور الشعوب المفصومة نخاف من هكذا بوح يكشف خبايا علاقاتنا المزيّفة. اولئك الرجال المتزوجون المغرمون في امرأة اخرى، الم تدفع هذه الاخرى كذلك ثمناً لهذا؟ لم لا يحق لها التباهي؟ أو لربما التحرر؟

لو قرأنا ظروف كتابة غادة وتوقيتها وحاولنا فهمها كإنسانة وكأديبة عاصرت ذاك الزخم الفكري وشهدت على ذاك العصر، لالتمسنا لها ربّما العذر وشكرناها على جرأتها وتضحيتها. ففي الذكرى العشرين لرحيل الاديب والمفكر الشهيد غسان كنفاني، قررت الأديبة السورية غادة السمان مشاركة العالم رسائل غسان كنفاني لها. “وفاء” على حد تعبيرها، “ليس فقط لعاطفتي الغابرة المتجددة أبداً نحوه، بل وفاء لرجل مبدع من بلادي اكتمل بالموت لأنه ;كان أكثر صدقا من ان يسمح له عدوّه بالحياة والكتابة والاكتمال بالعطاء”. 

“غسان كنفاني الذي شكل موته خسارة عربية على الصعيد الأدبي لا تعود”، كما تضيف غادة السمان، “كان مناضلاً حقيقياً ومات فقيراً.” 

ارادت غادة السمان ان تلبّي رغبتها الدفينة “بإطلاقه (غسان) كرصاصة على ذاكرة النّسيان العربيّة… والأسباب كثيرة وعديدة أهمها وبالتأكيد ان غسّان كان وطنياً وشهيداً حقيقياً، وتكريمه هو في كل لحظة تكريم الرجال الانقياء الذين يمشون الى موتهم بلا وجل لتحيا أوطانهم، ولتخرج القيم والمفاهيم من صناديق اللغة الرّثّة، الى عظمة الفعل الحي.”

وتضيف: “لا أستطيع الادعاء – دون ان اكذب – انّ غسان كان أحب الرجال الى قلبي كامرأة كي لا أخون حقيقتي الداخلية مع اخرين سيأتي دور الاعتراف بهم- بعد الموت- وبالنار التي أوقدوها في زمني وحرفي.. ولكنه بالتأكيد كان أحد الانقياء القلائل بينهم.” 

شكّلت رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان عواصف شديدة، لم تتوقف أبداً. ويبقى التساؤل بشأنها كما كان في البدء، مثيراً لتساؤلات أكثر، يوقفنا أمام حقيقة واحدة قدّمتها غادة السمان أمامنا كما هي: غسان كنفاني الإنسان، مسقطة عن قالب شهادته  القدسية لتكشف الإنسان الذي عاشه. 

فالإنسان بانسانيته هو أهم وأجلْ ما يمكن أن يكون. وفي كل مرة نكسر القوالب المقدّسة لشخصية ما، يرقي ويكبر شأنه وأهميتة كتلك التي صاحبت غسان كنفاني، تتكشف امامنا قيمته أكثر.. فإنسانيته تلك هي التي جعلته بهذا السمو. وإنسانية المرء هي بكون جسده المناضل وفكره العظيم جزءاً من رجل من شحم ودم ومشاعر. مشاعر كثيرة ملأها الحب. 

غسان كنفاني الرجل الذي أحب غادة، هو نفسه غسان كنفاني المناضل الاديب المفكر الشهيد. 

“نعم كان هناك ثمة رجل اسمه غسان كنفاني” 

One comment

اترك رد