رسالة أسير
نسير في معظم الوقت في حياة نظن أننا من نسير خطاها ، ناسين بأننا لسنا إلا جزءا من منظومة وضعت بإحكام لسنا إلا مسيرين فيها ، بلا خيارات أو اختيارات .
نمشي وكأن العالم من حولنا هو ما ندركه كل يوم من أولاد وأصدقاء وزملاء . مكان عمل، منزل، ساحة، شارع مزدحم ، حديقة .. فلان أنجب ،فلان ترقى ، فلان مرض،فلان اعتقل ،فلان سافر،فلان مات
لنجد أنفسنا فجأة وبدون سابق إنذار مقحمون بعوالم لم نكن حتى نعي وجودها . نرقبها، نترقبها ، نراقبها عن بعد محتفظين بمسافات بيننا وبينها . احيانا نعطي دروسا ومحاضرات بها عن بعد.
لنصبح فجأه بداخلها قصرا بطواعية خاشعة متواضعة . تأتي بنا كالصاعقة . لا نعرف متى دخلنا وكيف . والى اين نذهب . ومن تلك اللحظة كيف سنكون.
هذا ما فعلته تلك الرسالة بي. فتحتها بتهكم ، غير معنية كثيرا حتى بالنظر فيها . فعادة الرسائل المحلية تكون من الحكومة ولا تبشر بخير. استغربت كتابة اسمي على العنوان بالعربي. فالرسالة مكتوب عليها بانها ارسلت من اسرائيل .
استغربت عندما وجدت انها كتبت بخط اليد . للحظات ظننتها مرسلة بالخطأ حتى رأيت إسمي يتردد فيها . لأنظر إلى التوقيع من أسير . عندها استطعت تفكيك الكلمة التي لم أفهمه على الظرف عند العنوان ، كانت كلمة سجن تلك التي لم أعرف قراءتها .
لحظات تحولت لساعات استمرت لأيام وأنا أفكر في تلك الرسالة . من هو ذلك الأسير ، لما بعث لي أنا . كيف عرفني . من أين .
ولكن من داخل تلك الأسئلة التي لم تكن بالأصل هي ما استثار مشاعري . ربما أردت للفضول أن يكون هو سبب انفعالي . إلا انني أحسست وكأن عالما كاملا عرفت عنه طوال حياتي اقتحم وجودي وفرض نفسه علي. خلال السنوات قمت بشخصنة موضوع الأسرى ، اجلالا واحتراما وتقديرا لما يقدمه اولئك في سبيل حلم وطن . إلا انني وبوعي كامل رفضت الاقتراب . لأن موضوع الأسرى يبكيني على حالنا الفلسطيني كموضوع اللاجئين والشهداء . فهؤلاء هم ضحايا القضية الفلسطينية وليسوا أبطالها . حرمانهم ومعاناتهم وخساراتهم اعتلى على قممها القيادات واغتنوا واغتنموا منها … بينما استمرت وتستمر معاناتهم .
فشرف اللجوء والشهادة والأسر ، هو شرف يستحقه فقط صاحبه … ولسنا …كلنا أو أي منا ، حتى لو كان هذا والد أو أخ أو زوج او قريب من بعيد أو قريب جزءا من بطولته .
فالكلام في حقهم لا يزيدنا إلا وهنا وضعفا وبؤسا مهما حاولنا تزيينه ببلاغة أو ثناء .
إلا أن تلك الرسالة دقت على مكان ما بداخلي . ذلك الواجب البسيط الأضعف الي على ما يبدو حتى في وهنه مهم بطريقة ما لأولئك المظلومين القابعين في ظلم يلحقه ظلم ..
أكتب كلامي هذا ، أشعر بنفسي متناثرة في أرجاء زنزانة لا أقدر حتى على تخيل أبعاد محتوياتها . وسادة صلبة قذرة . غطاء لا يدفىء قرص برودة ولا ييبرد حرقة صيف. رطوبة تمر مع كل نفس تعيش بداخل العظام تتربع في أرجاء الحيطان . حائط كتبت وتكتب عليه الآمال والأحلام ويعد عليه الأيام والأشهر والسنوات . صور لأحبة حقيقيون ووهميون . عالم وعوالم تبنى وتحاك وتهدم في عبق الأيام والسنوات.
أحاول الإستفسار عنه أكثر ، من هو، ما هو حكمه ، متى سجن، هل سيخرج . تفاصيل لا تعني الكثير وسط الاف من الأسرى القابعين في سجون الاحتلال فداء لوطن قابع فينا كتلك الزنزانة . وطن نحلم بفك قضبانه وكسر قيوده .نحلم بالتحرر اليه الا اننا مأسورين فيه.
شاب لابد ، كغيره من الآلاف الذين أمضوا شبابهم لسنوات وعقود ، شابوا وهرموا منتظرين يوم يروا فيه حرية دخلوا يحلمون بها ويتمنوا لو يخرجوا ليحيوها.
محكوم لمؤبد او اثنين أو ثلاثة لا يهم . فسنوات السجن وأيامه سواسية .كأيام هذا الوطن الأسير وسنواته .
من الأسير الحقيقي ؟ أنا من أنسج بكلامي عالم أحلم به بوطن يبكيني حاله وأحواله ؟ أم هو ، من ينسج بخياله وطن وأناس يستطيع أن يبنيهم ويهدمهم بمزاجه وبخياله في كل يوم وفي أي لحظة.
هو من يملك الوقت كله بينما أتزاحم انا علي ايجاد وقت في عالم لا قيمة له.
شعب يمر به الأسر والاعتقال وكأنه فريضة .فخمس الشعب الفلسطيني مر بتجربة الاعتقال السياسي ما بين سجن اداري ومؤبدات وصلت الى العشرات . فوصل عدد المعتقلون منذ ١٩٦٧ الى ما يزيد عن ثمان مئة الف . ولا يزال حوالي ٥٠٠٠ معتقل ينتظر الإفراج عنه منذ اوسلو .