تخطى إلى المحتوى

في رثاء جدي

تحديث

قبل خمسة اعوام طلب مني والدي كتابة رثاء لجدي. منذ ذلك العام وهو يطلب مني في نفس الموعد مذكرا بيوم وفاة جدي رثاء اخر. عندما سمعت ان اليوم يصادف الذكرى ال٤٣ لوفاته ، قلت في نفسي، يا الهي، كل هذه الذكريات لرجل لم اعاصره الا ٦ سنوات من عمري. إصرار والدي على رثاء والده في كل عام ، يجعلني في كل مرة اتذكر كمِّ الدفء الذي يملأ داخل والدي. اليوم تحديدا وبينما كنت اجالس جدتي، مرت امامي صورة له هي نفسها التي علقتها في بيتي عندما اقامت عندي جدتي في محاولة لجعلها تشعر وكأنها في بيتها. رمقت جدتي الصورة المعلقة على الحائط المقابل لمكان جلوسها في بيتها مطولا وسألتها عن زمن التقاطها ، كانت نظرتها الى الصورة بتأمل شارد لم افهمه . اكتفت بابتسامة مقتضبة لتقل ..هييييييه زمان … الله يرحمه.

في رثاء جدي

طلب مني والدي الذي يبدو انه اكتشف موهبتي بالكتابة مجددا ، وقرر انها وظيفة يمكن توظيفها لمصلحة ما مناسبة له … ومن ضمنها كتابة رثاء لجدي…

والدي ، الرجل الوحيد الذي صمد في حياتي ولم يتركني بالرغم من خيبتي من توقعاتي منه وغيره في أزمة “العقد” ، الا انه الوحيد الذي كان وبقي دائما ، وبعيدا عن كلام الغزل والمديح ، فبقائه دائما كان أقوى وأهم دعم وحب شعرته بحياتي.. بطريقة ما ، حياتي بها حبين من نوع غريب ، ولكنه طبيعي ، ولأسباب كثيرة ربما ، أربط الكثير من حياتي في كل ما جرى معي في العشر سنين الاواخر…

الموضوع جدي…

اليوم يصادف الذكرى ال٣٧ لوفاة جدي ، وبالصدفة كذلك الذكرى السنوية لوفاة خالتي ، التي كانت حياتها كموتها مثل نسمة الهواء العليل ، التي تمر بك بدون ان تشعر ، فقط تحيطك ببعض الشعور الجميل الذي لا تستطيع ان تلمسه او تعبر عنه ولكنه يغبطك ويجعلك تشعر بأن العالم مكان جميل وأجمل بسبب مرور كهذه الانسانه فيه.

توفي جدي وأنا طفلة صغيرة .. ٣٧ سنه تقول بأني لم اولد بعد ( هذا شعور طبيعي للتنكر من سنوات الاربعين في حالتي )… ولكن هذا الرجل كان دائما حاضرا في طفولتي … كثيرا لا اعرف كم من الخيال ما اشعره حياله … فطفولتي مرتبطة بالكثير الكثير من ذكريات نسجتها معه .

فأنا الحفيدة الاولى ، من الاناث ، ولا بد اني كنت غالية جدا عليه ، او من أعطاني اسمها هي الغالية ، ولم تكن جدتي بهذه الحاله… نادية ، سيدة مصرية حضرت في ذكرياتي وكأني اشاهد مسلسلا مصريا . لا اعرف ما هو نوع الجبروت الذي كان يحمله جدي لإحضار سيدة بهذه القوة الى عائلته وتقديمها بطريقة مليئة بالحب والاحترام والتقدير . فنادية كانت “صديقة” جدي التي تفتخر جدتي بها ، ويتم تداول اسمها بالعائلة وكأنها شيء طبيعي . ام هي جدتي شديدة الحكمة التي ظنت وامنت ان ما لا سلطة لها فيه لا تستطيع ان تحاربه فصادقت هي كذلك بخيالها وواقعها نادية..

ربما من اجل هذا ايضا ربطتني بجدتي علاقة استثنائية …

علاقتي بجدي بدأت من إسمي ، ولربما رافقتني لهذا اليوم .. ولا اعرف كم هي نعمة ام نقمة التشابك بطريقة ما مع اسم وصاحبته اختيارا ام قصرا لا اعرف … هناك ما يجذبني بحياتي التي اعيشها دائما نحو تلك المرأه التي لا اعرف .

الهذا ايضا احب مصر والمصريون ؟ لا اعرف .

الا ان جدي وذكرياته تتشابك مع حياتي هذه … فمعه بدأت أعيش ما انا عليه اليوم … ذكريات لا اعرف سمعتها منه ام ما كانت تحكيه لي امي … بالنهاية لا يمكن ان اتذكر ما قيل امامي عند مولدي وايامي الاولي واول خطواتي ..

ذكرياتي مع جدي تبدأ من بيتنا الشتوي بأريحا .. فبذاكرتي رسمت بأن هذا البيت تم شراؤه من اجل ميلادي . بغض النظر ان امي التي كانت تحب أريحا ، وكان جدي يحبها كثيرا . الا انني حبكت رواية البيت واهميته بقدومي . بالنهاية ، لم يكن اجمل من هكذا حبكة . العائلة تنتظر الحفيدة الاولى ( الحفيد الاول غير مهم ، فلا بد ان لهذه العائلة بالرغم من ذكوريتها المعلنه الكثير من المناصرة الحقيقية للمرأه ، فجدي كان داعما لتعليم بناته بطريقة ملفتة بالمقارنة مع زمنه )

وترافق هذه الذكرى نداءه على امي بعد شوائي وانا “باللفة”وزيت الزيتون تحت شمس آب اللهاب (مثل رددته جدتي دائما) : “تعالوا قيموا هدي البنت قبل ما تيجي القطط تاكلها ” . نعم كنت لا اتجاوز بضعة الايام او بضع شهور ، ولكني اسمع صوته ، واشعر بتلك القطط تقترب من جسدي الصغير الذي لا يتجاوز بعض الكيلوغرامات الممسوح بزيت الزيتون … لا بد ان الرائحة كانت مثيرة لتلك القطط.. طفلة برائحة الشواء..

طبعا اذكر صوته من خلال صوت امي وجدتي اللاتي رددن هذه القصة لسنوات وسنوات حتى ندمت امي المسكينه على هذه الرواية التي استغللتها انا ضدهم … حقيقة .. من يلف طفلة رضيعه بزيت الزيتون ويضعها تحت شمس أريحا الحارقه في آب… ليس اي شهر آب … وقد يكون ايلول ، ولكن لا بد ان الشمس لا زالت حارقه هناك .. ولكن ما يعني روايتي هو آب شهر مولدي..

وتقفز ذاكرتي الي عمر السنة ، عندما كنت أمشي … وعلى ذمة امي اني مشيت عند بلوغي التسعة اشهر.. اذكر بيتنا في واد الجوز ، وجدي بمدخل البيت وتلك الحلقة الدائرية من الحديد التي كان يربطني بها لكي لا أهرب… كنت دائمة التجول بالحي منذ نعومة اظافري …نعم.. كنت اجول الحي زاحفة ام ماشية غير مهم ، المهم ان الجيران من أقصى الحي كانوا يحضرونني الى البيت …وكان جدي ينادي : ” جيبولي حبل عشان اربطها ” ..وفعلا كان هناك حبل ربطت فيه قدماي البريئتين ..

لا استطيع الا ان اضحك وانا اسرد هذه الذكريات .. فلا بد لتلك الطفلة في حينها الشعور بالمأساة … حقيقة… من يربط طفلة بريئة لم تجتز السنة من عمرها بحبل ..او ربما جنزير لا اعرف..

ولكن لان جدي هو المسئول عن هذه الذكرى فلا اريد تجريمه اكثر .. يكفي ربط بحبل خفيف.

واكبر وامشي واركض ، واذكر امي تلاحقني من اجل الذهاب الى النوم وانا اختبى وراء كنبة جدي في صدر غرفة الجلوس.

كانت كنبة السلطان . في خيالي كانت كبيرة فخمة لا يجرؤ احد علي الاقتراب منها او الجلوس فيها او حتى تحريكها … غيري انا ..

كم رافق هذا المقعد حياتي كمكان للاختباء والامان .. كنت اركض اليه وارمي نفسي في حضن ذلك الرجل العجوز (كلمة عجوز ستكون مضحكة بالنهاية).. كنت اشعر بالقوة فجدي سطوته تفوق سطوة امي وصوتها و”بابوجها” (شبشب بالفلسطيني) . فكان وصولي الي حضن جدي في ذلك المكان كمن يصل اخر نقطة في سباق ليعلن فوزه.. لدى وصولي هناك ، ان وصلت بدون السقوط في قبضة امي وبابوجها فاكون قد وصلت الي بر الامان والحماية المطلقه… في طلب لن يرفض بالحمايه الدوليه .. وكانت امي تبتعد لدى وصولي معلنه انسحابها … حتى انها لدي وصولها لخط الجبهة المتكون من كل غرفة الجلوس التي يتصدرها جدي ، كانت تعلن استسلامها وبطريقة اعجازية كان البابوج يرجع الى قدميها . حتى انها كانت تسكت وتبدو وكأنها راضية… في حضن جدي كان الامن والقوة والعنفوان الذي اكبر فيه … كنت اشعر بأني بحجم جدي وبأن مقعد السلطان هذا يصنع مني اميرة.

جدي ومقعده السلطاني .. كان مركزا لصناعة القرار والضبط والربط في هذه العائلة .. الكل كان يصبح صغيرا امام ذلك المقعد الا انا .. فكنت اكبر فيه … ابي واعمامي وامي المدللة حتى وجدتي القوية الجبارة في عيوننا كلهم كانوا يصبحوا كالأقزام في حضرة ذلك المكان .

كان اذا ما جلس عم سكوت على المكان امتد الى بيتنا .. كانت تتوالى النساء كالجواري امامه لتقديم صحون الفاكهة وما طاب من الطعام الذي كنت كذلك اتفرد في تناوله معه .

كنت انتظر ظهوره مساءا او عصرا على تلك الكنبة لأختلس الوصول اليه من قلاع امي الموصدة .

كلماته لامي بينما اتراكض دلالا او هروبا لا يهم : ” البنت هاي مش بنت معيشه” لا تزال ترافقني….

وذهبنا في يوم ما الى اريحا ، وكنت كذلك الحفيدة المختارة ، مع ابن عمي الحفيد الاول لقضاء عطلة الشتاء مع جدي وجدتي ..كان جدي يأخذ مقعده الدائم هناك ايضا .. الا انه بأريحا كان متواضعا . لم يكن لديه مقعد السلطان الكبير … او ربما كان بداخل المنزل .الا ان اريحا بالنسبة لذاكرتي كانت دائما في محيط ذلك البيت الذي كان يبدو لي كالقلعة .. كان اكبر البيوت وغرفه اوسع الغرف .. بالنهاية كل غرفة من غرفه كانت تسع العائلة بأكملها ، ابي وامي واخواتي الاربعه والخمسه والسته ..كلنا كنا نقيم بتلك الغرفه ولم تكن ضيقه . وعمي وزوجته وابنائه الخمسه كذلك .. الا انه في تلك الفتره كان البيت لنا نحن فقط ، انا وجدي وجدتي ووالدة جدتي ذات الشعر البرتقالي وابن عمي وعمي الصغير وعمتي الصغرى … كنت اتراكض بين التسلق على شجرة البرتقال واسرق بعض البرتقالات التي كانت تنزل من شجرات عمي وابن عمي لاضعها في سلتي وبين الركض الى حض جدي الجالس على ذلك الكرسي تحت احد اعمدة منصة شجرات العنب التي كانت عملاقة كذلك .. فكانت قلعتنا عبارة عن بيارات برتقال وحمضيات وكروم عنب … لاكتشف بعد اكثر من ٣٠ سنه بان هذه القلعة وتلك الكروم لا تتجاوز مساحة الدونم من الارض مجتمعة .

مشهد قادم ..سيحضر معي لسنوات وسنوات قد تغلقها هذه اللحظة او قد تستمر بها … مشهد مهما كان خيال تلك الطفلة الساكنة حيا او متشعبا او خصبا ، تبقي حقيقته منحوتة بداخلي وكأنه مشهد سينمائي حقيقي .. وكأن وهل الموقف كان أصعب من ان يفهمه عقلي الصغير حينها ، فاحتفظ فيه كما كان .. موقف تبطيء فيها حركة الناس من حوله … حراك بطيء ،ركض بطيء كركض المرأة العجيبة في ذلك المسلسل ، صياح تراه بعينيك متناثرا في فضاء السماء ..دموع تتبعثر في الهواء وتنتشر كالمطر . ويتوقف المشهد في رأسي واحاول استرجاعه بواقعه في كل مرة ..الا انه عبث.. فالمشهد نفسه يعيد نفسه بنفس الطريقة ونفس البطء ونفس الصراخ المكبوت … ولا زلت هناك وسط ذلك المكان طفلة مستغربة من المس المفاجيء الذي صاحب كل الكبار في ذلك المكان ..

جدي لا يزال يجلس على كرسيه تحت الكرمة ..انظر اليه ليرى ام جدتي ذات الشعر البرتقالي العجوز المجنونه تتنطط رامية ما كانت تجمعه من الخبيزة على مقربة من بوابة قلعتنا ، تتنطط بالشارع تصيح .احدهم يركض الى الشارع المقابل ، الى الجيران يكلم عمي بالهاتف .. عمي وعمتي نزلوا عن الشجره ولا يزال البرتقال بسلاله ، ورأسي يتوجه الى عدد البرتقالات التي سأسرقها لادعي فيما بعد باني من قطفها امام جدتي.. الا ان جدتي اختفت .. هرع وجزع وقفز من قبل الكبار غريب .. لحظات كثيره تمر وطابور من السيارات يقف امام البيت وعمي يترأس القافله.

اذهب لأضحك مع جدي الجالس هناك والسيجارة لا تزال مشتعلة بيده .. يصيح احدهم قائلا : لا تذهبي. ولا اذهب . ابقى متسمرة في مكاني .ارى جدي الجالس هناك من بعيد . احاول ان اقول له ان يتدخل . ولا زلت اهزأ منهم . من هذا العبث الغريب والضوضاء الذي داهم المكان .. وصيحات تلك الجده العجوز وهي تتنطط صارخة : ” الحج مات الحج مات ….”

والمشهد الاخر يغلق في بيت العائلة القديم . بيت عمي .. جدي بإحدى الغرف مغطى ،نائم .جميل هادىء كما اعرفه .. وأبي تتساقط الدموع من عينيه يغزارة وقهر لم ارها قبلا ولم ارها ابدا بعد …

امي تتبطب عليه او احد اخر لا اعرف .. احداهن تقول له : “البكاء عيب.. انت رجل” .

المكان كان مصاحبا للدموع والبكاء والنساء في المطبخ تبكي وتطبخ وتقول : ” الله يرحمه كان صغير” .

رحل جدي العجوز عن عمر لم يتجاوز ال ٥٢ سنه .

عمر اقتربت انا حفيدته المدللة الاقتراب منه ، ولا يزال هو بذاكرتي ذلك الرجل العظيم الكبير .. يشبه سانتا احيانا وان كان لله هيئة في رأسي ، فهي في هيئة ذلك الرجل..

قد تكون روايات ذهني عن جدي تشبه الخيال العلمي .. وبها الكثير من عالم مركيز ربما …شيء ما بين الحقيقة والخيال … الا انها كبرت معي بصورة ذكرى لرجل لم يمت ابدا بداخلي وصاحبني بطريقة جميلة وغريبة ربما ، لاني بالحقيقة لم اعرفه كثيرا .. وبالحقيقة انه رجل لم تمنحه الحياة الكثير لنكون ذكريات معه …الا انه بقي حاضر بالكثير من الاقتضاءات التي لم يستطع احد ملأها من بعده..

رحل … وبقي ذلك المقعد السلطاني فارغ. لم يتجرأ احد الجلوس عليه….غيري . لان جدتي لم تسمح لاحد غيري بالجلوس عليه …

رحل ، وبقي الكرسي موجود .. وصوته في فضاءات رأسي يدخل الى اذني وهو يغني لي (ربما كان يغني للاطفال الاخرين كذلك) الكعبة قلبي هاويها من الانوار اللي فيها .. واستمريت بالهروب من امي لذلك المقعد . وبطريقة سحرية ما .. استمر ذلك المكان بحمايتي لبعض الوقت من سطوة بابوج امي .

ويبقى جدي ذكرى باقية من زمن أشعر بأني كبرت ونضجت وترعرعت واصبحت فيه أميرة بمملكة كان هذا الرجل امبراطورها … وكأن احدا لم يعي هذا غيري انا .. وبقيت اعيش مع نفسي بداخل ذكريات اتلذذ بالرجوع اليها .. ذكريات كنت فيها طفلة فعلا .. عشت فيها تلك الطفلة فقط حينها ..مع رجل رحل من دنيا الكبار وبقي هائما بخيالي كالله …وكبرت ولا زلت اربط صورة الله بهذا الجد…

3 أفكار بشأن “في رثاء جدي”

  1. عمو ناديه …بل حبيبتي ناديه
    أسعد الله اوقاتكم جميعا
    كم هاجني الشوق و انا اقرأ ما خطته اناملك
    من قال ان عمي مات .. فقد صدق .. و هذه سنة الحياه … و لكنه باق في عقولنا و قلوبنا
    ويحق لك ان تفتخري بان لك جد مثله
    و تفتخري اكثر لانه انجب اباكي الذي كان بارا بوالده
    واسماكي باسم فتاه … عشقها القلب و تعلق بها الفؤاد
    بارك الله فيك و لك ومتعك بموفور الصحه و قمة السعاده

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading