تخطى إلى المحتوى

انفاق القدس

Tunnels copy

Tunnels-2

Tunnels2
أنفاق القدس
كنوز التاريخ أم فرض سيطرة لصناعة تاريخ

تناولت بعض مواقع الإعلام مؤخرا خبرا عن حدوث انهيار في محيط ساحة البراق (الحائط الغربي) المتاخم للمسجد الأقصى. الوقوف عند الخبر وإثارته مسألة مهمة للغاية حتى ولو أن الموضوع يتعلق بساحة البراق وليس بساحة الأقصى.الحقيقة أنه يجري أعمال بناء في الجهة المذكورة والذي يتضمن بناء مبنى من طابقين.وهناك أعمال حفر بالجهة الغربية من تلك الساحة والذي من الممكن أن يؤدي إلى انهيارات . من الجدير بالذكر بأن تلك المنطقة مليئة بالآثار المتبقية من حارة المغاربة التي أزالها الاحتلال عن بكرة أبيها في حزيران ١٩٦٧ . والمنطقة مليئة بالقصور الأموية التي لم يتم إكتشاف جميعها بعد..
فمنذ الكشف عن الحفريات تحت البلدة القديمة في القدس في أوائل الثمانينيات (1981) والتي كانت تجري بطريقة سرية للغاية، بدأت الحرب الدائرة تأخذ موقعا تدحرج إلى القاع بحثا عن تاريخ يثبت قدم ويهدد كيان.
يشتمل مشروع الحفريات الدائر على خمسة مشاريع وهي: أنفاق الحائط الغربي والتي تؤدي من الحائط الغربي ومحاذاة الشمال ومن تحت بيوت الحي الاسلامي (طريق الواد) إلى بداية إلى طريق الآلام ( فوق المدرسة العمرية)، وأنفاق هيرود والتي تبدأ من سلوان وتنتهي بالبلدة القديمة (هذه الأنفاق عبارة عن قنوات للصرف الصحي كانت تمر تحت المدينة بعصر هيروديس)، ونفق ينتهي إلى مغارة سليمان على مشارف سور القدس ويمر تحت الحي الإسلامي كذلك، ونفق يبدأ من الحي الإسلامي ويتجه شرقا نحو الحائط الغربي (حائط البراق)، ونفق آخر في سلوان تحت ما يسمى بحديقة داهود.
أهم ما يلفت في هذه الحفريات بأنها تجري في معظمها تحت جمعيات يمينية استيطانية متطرفة (إلعاد، عتيريت كوهنيم) وجمعية تابعة لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بشكل مباشر (مؤسسة تراث الحائط الغربي) وسلطة الآثار التابعة لبلدية الإحتلال بالقدس.
صاحبت الأساطير الدينية الحفريات منذ القرن الماضي، وكان أهم اكتشاف لنفق في تاريخ المدينة قد تم على يد عالم الآثار البريطاني تشارلز وارين في الستينات من القرن التاسع عشر ، حين اضطر لإخفاء الحفريات المتاخمة للمسجد الأقصى خوفا من الحكومة العثمانية.
واستمرت الحفريات سرا خلال السنوات الماضية، بالرغم من الشكاوى الرسمية التي قدمت من قبل الأوقاف الإسلامية وأصحاب البيوت التي كانت الأشباح تتسابق ليلا على نبش ترابها. وبعد مرور ما يقرب من عقدين أعلن نتانياهو (كان رئيسا للوزراء في حينها كذلك) افتتاح أنفاق الحائط الغربي المحاذي للمسجد الأقصى والذي يمر بالأساس في معظمه من تحت حارات الواد (الحي الإسلامي) المأهولة بالسكان المسلمين.
كان ذاك الافتتاح شعلة اندلاع الانتفاضة الثانية، التي توقفت خلالها عملية السلام الوليدة أو ما يسمى بعملية السلام وانتهت بحصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وموته (أو لنقل مقتله إن صحت رواية البعض ) لاحقا. إلا أن النفق افتتح بعد إغلاقه مؤقتا ليصبح لهذا اليوم من أهم المعالم السياحية الموجودة في المدينة.

لن تستطيع التفكير بأخذ جولة بداخل الأنفاق قبل أن تدور بجولات متداخلة كالأحجية التي تزداد تعقيدا كلما اقتربت بذهنك من الوصول لحل لها . فلا بد أن تقف مشدودا إن كنت متفرجا فقط إلى الصراع الدائر بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، كل يشدك إلى طرفه ليقنعك بصدق قضيته وروايته .
فالرواية التوراتية تخبىء تحت الأقصى التابوت الذي يحمل سر أمناء الهيكل منذ موسى .
والأقصى يحمل قصة إسراء نبي المسلمين والذي عرج منه للقاء الأنبياء بالسماء.

وإن كنت جزءا من هذا الصراع ، مثلي ، فإنك لن تستطيع إلا أن تتوغل بدون الحاجة إلى أي عملية شد من أي اتجاه بمكنونات الأمور. فلن تحتاج لرواية تثبت قصتك أو تصنع لك تاريخا. ولن تحتاج لتبرير ما تفعل وما لا تفعل . فأنت ابن المكان وجزء من صناعة هذا التاريخ . فما يشدك هو تاريخ أنت محوره وصانعه حتى أصبحت جزءا من هذا المكنون الكبير ، الذي من الصعب ادراكه …فقط تستطيع أن تعيشه وتندمج في ماهيته السحرية…
هذه هي القدس …
على أرضها التي تمشي فوقها أو تلك التي تحتها ، أم الفضاء الذي عرج إليه الأنبياء …. تأخذك عنوة إلى مكان لا تستطيع فيه لمس الشعور ولا إدراك أي من المحسوس.. فقط تصبح جزءا من هذا السحر السرمدي الذي لا يزول.
كنت ولا زلت أشكك في نوايا الإحتلال بما يضمرونه وما يعلنونه لنا كشعب . والقدس معركة مختلفة، تتضاعف وتتوالى وتتشابك بأساليبها، والاختلاف على موضوع الحفريات كذلك . فللإعتراض وجوه سياسية واجتماعية حقيقية تعزز من فرض إسرائيل سيطرتها وتفردها في صناعة الواقع وفرض زمام قوتها كيفما تشاء . وفيه تهديد حقيقي على السكان الذين يعانون أصلا من تهميش إقتصادي واجتماعي في أماكن تخلو من الخدمات الحقيقية والعادلة.
ومن ناحية أخرى ما تكشفه الأنفاق يشكل اكتشافا مهما لتاريخ المدينة والذي لا يجب أن يخفى. وما يجري من حفريات على الرغم من خطورته وهدمه للكثير من التاريخ الذي لا يعلمه بهذه الحالة إلا من يحفر، وهو المحتل . فإن الحفر يحدث في محيط الأقصى وليس تحته . وأساساته محمية بجدار حول المنطقة لم تؤثر به الزلازل السابقة.

أذكر تفاعلي وغضبي الشديد قبل بضع أعوام عندما كنت أمشي في طريق الواد بدءا من طريق الآلام عندما وجدت أن الحجارة الرومانية الضخمة قد أزيلت واستبدلت ببلاط مستحدث . رحت مسرعة لأستاذي الذي كان يمشي ورائي مع مجموعة الطلاب لأشكو له وهل المصاب ، فكيف أن هذا الإحتلال اللعين لا يكتفي فقط بسرقة الأرض واحتلالها بل يزيف أيضا التاريخ . لا بد أنهم سرقوا تلك الحجارة الرومانية لوضعها في مكان سيختلقون من خلاله رواية كاذبة جديدة. نظر لي أستاذي نظرته الهازئة الطيبة الدائمة قائلا: “رويدك ، لا تزعلي نفسك كثيرا. فتلك الحجارة التي تحبين لم تكن وليدة ذلك المكان أيضا . فلقد تم تجميعها في الثمانينات كغيرها ووضعت فقط لسد الفراغ لا أكثر .”
في تلك اللحظة انهارت أحلامي بذلك التاريخ. ففي كل مرة أمشي من تلك الطريق أقف عند تلك الحجارة واسترجع عبق تاريخ لا أعيه …
حينها كنت في بداية برامج الدراسات المقدسية ، وكانت المحاضرات مع أستاذي صاحب النظرة الهازئة الطيبة تذكرني دائما بجهلي. كنت أدخل إلى محاضره “القدس عبر التاريخ” جاهلة وأخرج في كل مرة وبكل فخر أكثر جهلا. كنت أظن أن وعاء المعرفة الذي أحمله تجاه القدس ممتلئ، وكنت أتفاجئ دائما بنقص ما يحويه وعائي.
في يوم طلب منا أستاذنا زيارة النفق، وفي البداية اعترضت بشدة متسائلة كيف نذهب إلى مكان هبت بسببه إنتفاضة كلفتنا عشرات الشهداء ومئات الجرحى والأسرى وآلاف المنكوبين . وليس هذا فقط،فهذه الأنفاق وجدت لهدم الاقصى وإيجاد الهيكل المزعوم ..
هدم الأقصى والهيكل المزعوم ……
رحلات جديدة مع دراسة تاريخ المكان في محاولة لغض الطرف عن ما يكبلنا من خناق يجبرنا فقط على لفظ الأنفاس من أجل البقاء .
كان أهم دروس هذه المرحلة ، أن الهيكل المزعوم لم يكن أبدا مزعوما . فلقد كان هناك هيكل وهيكلان .

عندما تبدأ جولة النفق يأخذك كما فوق النفق كل إلى روايته . هذه المرة إلى رواية من كان هناك حتى قبل التاريخ. الجولة تبدأ بمعلومات عامة عن المكان ، يقول لك فيها الدليل الإسرائيلي في لحظة ما قبل أن تبدأ تلك الجولة بأن ما يجلس عليه الأقصى اليوم هو ما كان تحته الهيكل الثاني. وإن كنت مسلما ، لابد أن يقشعر بدنك حينما ترى يد الدليل أمامك يزيل مجسم الأقصى ويضع مكانه الهيكل .
ويقول لك الدليل الفلسطيني همسا ، إن الرواية الإسرائيلية تقول أن هناك الهيكل المزعوم.
تشبه هذه الغرفة غرف غسل الدماغ إذا ما كان لغسل الدماغ غرف . فقبل أن تبدأ جولتك الإستكشافية والتي لا تحتاج للدليل، فأنت ترى بعينيك ما كتبه التاريخ من تخليد يفوق قدرة الإنسان على التدوين والتأريخوالتزييف .
قد يكتب كل ما يريد ، قد يتشاجر العالم من فوق ومن تحت كيفما استطاع.. إلا أن حقيقة المكان تغلب على أي واقع يريد أي أحد أن يثبته.

أدرك جيدا نوايا الاحتلال البغيضة في تلك الحفريات . فهم يحفرون تحت الأرض ليهزوا وجود من فوق الأرض.
يستثنون من حفرياتهم وينكرون ويخبئون ويشوهون ويعيدوا طمس ما لا يناسبهم من موجودات .
يبسطون سيطرتهم تحت الأرض كما هي فوق الأرض.
يحاولون تغيير التاريخ وتشويهه .
إلا أن الحجارة لا تكذب..وما كشفته الحفريات لا يستطيع طمسه استرجاع التاريخ .
وأن هناك تاريخ لا يمكن طمسه مهما طال الزمان حتى ولو تم تدميره..مؤقتا
فهناك شهادات حفرت لتبقى
فالطبيعة بجبروتها لم تستطع محو ما صنعه التاريخ في هذه المدينة المقدسة.
تأخذك القدس تحت أرضها ، كما فوقها ، لطبقات من “الأقداس” التي تشعر بها وكأنك تعبر في رحلة داخل التاريخ رغم أنف كل من يحاول كتابة تاريخ يغير فيها التاريخ.
تنزل أو تصعد في لحظات ويصبح النزول في طبقات المدينة صعودا مقدسا كاسم المدينة . تشعر بالتاريخ يعبر من خلالك وأنت في كل زاوية وممر وحجر وصخرة أو عامود. تشم فيه رائحة الزمن الماضي الباقي بما كان رغم تغير الوجوه .
من قدس إسلامية تبدأ من عثمانية وتنزل بك إلى مملوكية وعباسية وأموية وراشدية عمرية إلى قدس بيزنطية ورومانية هيرودية وهيلاينية .
وبينما لا يزال الدليل يأخذك في مسح إلى روايته … تستمر المدينة بأخذك في جولة عبر تاريخ في عصور لا تزال تتفتح أمامك نزولا داخل أنفاق تستشعر في ملامستها ما كان زلزالا مرة ، ما كان قناة لمياه المدينة أو قنوات صرف صحي . ما كان خندقا وما كان مخزنا للخمور في زمن وللزيوت في زمن آخر . ما كان ممرا لقاعة تأخذك إلى رواق قصر ، وما يأخذك إلى اسطبل خيول .
حتى الحجارة بألوانها وأحجامها وبروزها تدخلك في دروس تاريخ لم تكن لتعرف عنه إلا ما تراه عينيك .
تستمر في المشي قدما … ولا تعرف ما الذي يأخذك ومن الذي يقودك ، هل هو الدليل أم الجاذبية الخارقة المحبطة بالمكان ، إلى أن تجد نفسك فجأة وبعد ساعات تبدو بنفس اللحظة بحجم لحظة وبحجم زمان لا يقاس واقفا أمام بداية ما يعرف بطريق الآلام تحت فضاء يحمله بلاط الشارع المصاحب لسليمان القانوني… زمن يبدو حديثا مقابل ذلك الزمن الذي خرجت للتو منه .
تخرج لتفكر صارخا لا متأملا ، مدركا ولأول مرة …
بأن القدس ليست مجرد مدينة يقتتل على السيطرة عليها مدع تراكض عليه التاريخ منذ نشأة الأنبياء ، وبين وارث لتاريخ عمر وأدرك مكنونات هذه المدينة التي وازت بقدسيتها أقدس مقدساته وحرماته .
بأن القدس ليست مجرد مدينة بنيت فوقها مدينة…
وليست حضارة بنيت من خلالها حضارات
ولكن القدس تاريخ … مر من خلالها حضارات وشعوب وأمم ..احتضنتهم بالرغم من نزاعاتهم . وأبقتهم ..بل وخلدتهم بالرغم من المذابح التي اقترفوها … وصنعت منهم وبهم تاريخ مدينة بطريقة سحرية يصعب فهمها تاريخ انسانية … تبدأ منها ، إن لم تستمر الحضارات لتبقى علامة فارقة في صناعة التاريخ … بالرغم من بشاعة أصحابه بمعظم الأحيان .. إلا أن المدينة كالرب أو الأب الحكيم تضفي قدسية روحها على المكان دائما وأبدا على ما يبدو …

1 أفكار بشأن “انفاق القدس”

  1. تنبيه Pingback: انفاق القدس | nadiaharhash

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading