الفساد والارهاب …وجهان لعملة واحدة …

الفساد والإرهاب …وجهان لعملة واحدة

لم أكن لأتوقع ان تأخذ رحلة نيجيريا ذلك المنحنى الدرامي من حيث المؤتمر. ولا اعرف ان كان ما حدث ممكن حدوثه في مكان آخر بنفس الطريقة . ولربما نعم. فنحن نشاهد ونسمع قصص احتيال واجرام تملأ الافلام والمسلسلات التي لا بد انها تأتي من الواقع . الا ان اهم ما حدث كان بمثابة تجربة حية للواقع النيجيري الذي أسفر عن خسارة الحكومة الحالية وسقوطها المدوي . فجود لاك لم يجلب الحظ الا لنفسه ولزمرة منظومة الفساد التي تضخمت في عهده لدرجة عيشها لمجموعة من الاكاديميين والباحثين الاجانب الذين جاؤوا للعاصمة ابوجا لبحث السلام وسبله في افريقيا ، لنصبح نحن انفسنا تجربة تتكلم عن الواقع الذي يصرخ به الانسان النيجيري النزيه الذي يتمنى الحياة العادية . ذلك الانسان العادي الذي يعرف انه في اكبر دول القارة الافريقيا واغناها واكثرها موارد، من الممكن ان تجعل الدولة من اغنى دول العالم . ومع ذلك يعيش مطأطئا رأسه لما تعيشه بلاده من تجاوزات اصبح الفساد فيها هو العنوان الرئيس ، وفقر يملأ قرعات الشوارع ، وكهرباء تنقطع كل عدة ساعات وارهاب تحت قناع اسمه بوكو حرام.

لم أكن لافهم ذلك العنوان الذي استوقفني لايام عندما كنت اشاهد محاورة للكاتب النيجيري العالمي وولي سويينكا الذي كان تحت عنوان : ” بوكو حرام : الفرخ الذي نتج من بيضة الحصانة” .حيث اصر الكاتب والاكاديمي المعروف على ان بوكو حرام هي نتاج الفساد الحكومي الذي يحمي البعض ويحصنهم . وبوكو حرام ليست سوى وليد لتلك الحصانه . واسهب سويينكا في عرض الحوادث والقضايا التي تؤكد عن ضلوع الحكومة في دعم هذا التنظيم الارهابي من خلال اولئك “المحصنون ” . لم اكن لاستوعب ما قيل تماما لو لم اعش بنفسي هذه التجربة . ولحسن الحظ ان الشعب قد قال كلمته الاخيرة .

فما نعرفه عن نيجيريا بالاعلام المنتشر علينا انها تنقسم الى شمال وجنوب بالاساس حيث يسكن المسلمون بالشمال والمسيحيون بالجنوب . والجنوب هي الاغنى بالموارد . فالنفط كله بالجنوب. وما يخبرنا به الاعلام ان الشمال المسلم يشتهر بالزراعة وتربية المواشي . ومن المعروف عن نيجيريا(اعلاميا) ان الشمال المسلم هو من استمر بنهج العبودية حتى بداية هذا القرن. والكراهية الموجودة ما بين اصحاب الدينين يضمرها المسلم ويعلنها المسيحي هناك.

ولكن لعل اول ما يسقط كل ما يمكن ان نفكر اننا ندركه عن نيجيريا هو عندما نعرف ان هناك ٤٠٠ لغة يتكلم بها الشعب النيجيري. والمقصود هنا لغة وليس لهجة . فهذا كفيل بأن يخبرنا عن الكم الهائل الذي يندرج عن هذا العدد من القبائل والاثنيات العرقية . وما لا يقوله احد بالعلن هو ان حقيقة التعداد السكانية ليست مناصفة بين المسلمين والمسيحيين . بل ان المسلمين يشكلون اكثر من ٦٠٪ بينما المسيحيون وكل الاثنيات الاخرى يشكلوا اقل من ٤٠٪ . وعلى عكس ما يتم تداوله عن الارهاب الاسلامي العالمي ، ووجود بوكو حرام “المسلمين” ، الا ان بوكو حرام ليست الا ذراعا للمتنفذين من الحكومة “المسيحية” لبسط نفوذ اكثر ونهب لموارد الدولة الطبيعية والبشرية والتي بطبيعة الحال تحولت الى مجموعة فاسدة تنهب بالشعب وتسيطر عليه بالبلطجة الامنية والعسكرية والارهابية. ولعل تداول الاعلام خبر محاولة وزيرة النفط الحالية اللجوء السياسي ورفض طلبها من كل الدول هو احد مؤشرات فظاعة الحال. فلقد وجد في احد بيوتها مبلغ ٥٠٠ مليون دولار نقدا. وقصص كهذه وغيرها كثيرة يتداولها الشارع والصحافة النيجيرية كل يوم.

ولست هنا بصدد عمل الافضلية او المفاضلة بين الديانات ، الا انه من المهم الاشاره الى ان المسلمون واعون لاغلبيتهم وهم الاكثر تعليما وثراءا بالاصل . اي ان النخبة الاجتماعية بالاصل هي بالشمال المسلم . الا ان ما جرى في ذلك المؤتمر جعلني اتوقف عند هذه النقطة . فبينما كان بوكو حرام عنوانا متكررا للكثير من المحاضرات والعروض ، كان الارهاب الحقيقي يتداول علينا من قبل المنظمون التابعون للحكومة الحالية . فكما يجري في البلاد الدكتاتورية كبلداننا ، هكذا الحال هناك . فرئيس المنظمة رجل دين “قس” وقور. ومارغريت المنظمة مستشارة في فرع ما في مكتب الرئيس (رئيس الدولة) . ولقد نجحت باستعمال موقعها الرسمي وذلك القس لاغواء الغرب الاكاديمي في احتضان هذا المؤتمر. فبالنهاية لاي وكل متطلع على ما يجري في نيجيريا ، يبدو الخطر الدائم والاكيد هو بوكو حرام . وليس من ادنى شك بذلك . الا اننا في ذلك الموقع كنا وكأننا وقعنا في جحر عقارب . فبدءا من الفندق المتاخم للكلية الحربية التي اصر المنظمون (هي واحدة…مارغريت الجبارة) ان الاختيار “المؤقت ” لذلك الفندق كان لقربه من الكلية ، فهكذا نكون في امان اكثر من الخطر المختم القادم من بوكو حرام. ولوهلة ساذجة اشترينا جميعنا ذلك الادعاء ظاننين ان اهل نيجيريا ادرى بها. الا ان ما جرى من خديعة وعملية نصب واحتيال منظمة وغوغائية بنفس الوقت كان كفيل بأن يرينا ما يعاني منه الانسان العادي الذي لا حول له ولا قوة . فتحول وجودنا هناك في مرحلة تلو المرحلة من كذبة لخداع لارهاب كلامي وجسدي وصل الى التهديد.

وجدنا انفسنا محاصرون وكآننا في شراك منظمة اجرامية . بين فندق يبدو وانه يتم استخدامه لاغراض لا تشبه الاقامة الطبيعية في الفنادق ( فمما لم يترك مجالا للشك لا بد وان الفندق يستخدم لاعراض الدعارة . ومما تعلمناه فيما بعد ان هناك علاقة ما بين ولايات مهيمنة تتبع لها “مارغريت”شهيره بتجارة البشر ومتورطة كذلك بتجارة الاعضاء ) . وبين اكاذيب استمرت حول الوعودات بفندق ودفع تذاكر ونفقات تم الاتفاق عليها مسبقا وتفاقمت وتدحرجت ككرة الثلج التي سرعان ما هوت وتراطمت في كل الارجاء . لا اعرف كيف كانت ستنتهي بنا الامور لو نجح الحزب الحالي في الانتخابات . ربما لم تكن لتحدث حالة النصب الجماعي التي حصلت . الا ان كل ما جرى كان يشير الى سوء ادارة واضح وفساد مستتر . استمر بالتفشي حتى ظهر اخيرا عندما وجد الكثيرون من المشاركين انفسهم محتجزون في ذلك المكان بلا تذاكر عودة ونقود. فالمعظم جاء معتمدا تماما على المستحقات المتفق عليها ، خصوصا بالتحذيرات المسبقة بكافة الوسائل على عدم استخدام بطاقات الاعتماد . حتى ان هناك بنوك ترفض استعمال بطاقاتها الائتمانية هناك وتبطلها فور الاستخدام خشية القرصنة .

في كل مرة تبادلنا النقاش مع نيجيريون مقيمون ،كانت الكلمة الاولى لهم : ” مارغريت وامثالها هي ما كنا نعاني منه طوال السنوات السابقه”.ولحسن حظي معرفتي وجود صديق نيجيري على الجهة المقابلة من الازمة . وبطريقة غريبة بدت ، الا انه كما للشر شباكه كذلك الخير. فتحولت التجربة المرعبة التي عشناها الى تجربة جميلة برؤية الجانب الاخر من الصوره . فاصرت سيدة نيجيرية تدعى مايرو باستضافتي وعائلتها والتي بالصدفة وتوافقا مع مبدأ ان للخير اطراف كذلك ، فلقد ربطتها وعائلتها علاقة بصديقي النيجيري وعائلته. مايرو طبيبة نسائية ، تركت الطب لتعمل مع النساء الفقيرات في القرى المجاورة لتصبح من اهم نساء المجتمع المدني نفوذا وتدير مؤسسة بيل جيتس للتنمية المجتمعية. وزوجها رجل مسلم متزن ، درس بالقاهرة ، وبعد حديث قصير على الغذاء استأذن بعدها لاضطراره للسفر بسبب الانتخابات ، حيث انه يشغل منصب الامين العام للحزب الفائز . الا انه ترك لي العنان في التجول في مكتبته القيمة ليومين . لأرى بذلك البيت الاسلام الذي احن اليه . كانت العائلة كلها تجتمع على اداء صلاة المغرب معا مهما كانت الظروف. بانشغال كامل لام واب ناجحين جدا بعملهما وبالمجتمع ،كان الايمان يغلب على ارجاء جدران ذلك المنزل. فعشت في تلك الايام وكانني في بيتي . حنين لدين افتقدته مع مرور الايام وقسوة المسلمون والدعاة في وطننا . ايمان خالص لدين احببته في قلبي ونبذت من ييتربصون منه باسمه وشوهوه وشوهونا ولا يزالوا.

في تلك الايام رأيت معني الغنى الذي يغلب العلم فيه على المال رغم رخاء الحال . رأيت كيف ان المعاملة هي الدين . وبين اسلام سمح انتصر في تلك الدولة العملاقة وبين مسيحية انهزمت . بدا لي وبوضوح شديد ، وتاكيد لكل ما امنت فيه سابقا . ان الديانات الحقيقية برسائلها بريئة من كل اولئك الذين يلوحون بالله الخاص بهم وبطريقتهم . اكانوا مسيحيون ام مسلمون . فلربما كسرت هذه التجربة ذلك الفهم الخاطيء للارهاب الاسلامي الذي يتم غسل ادمغتنا فيه في كل يوم بين داعش وبوكو حرام … لاتأكد مرة اخرى بأن هؤلاء ولاءهم لمن يدفع لهم مقابل اجر اجرامهم ….الاسلام بريء منهم . وبكل تأكيد يتم استخدامهم من اجل تشويه الاسلام اكثر .

لقد يفهم البعض كلامي تهجما وتحريضا على المسيحية ، التي لا احتاج ان ادافع عن نفسي امامها ، لاني احترم كل دين احتراما خالصا كما احترم ديني . الا انني تعمدت الاشارة بذكر المسيحية في هذا المجال ، للتأكيد على ان المشكلة في الحكومات المختلفة لا تمت لدين بصلة لو كان الرئيس او الحكام اصحاب دبن ملم او مسيحي او غيره . المشكله بمن يديرون امور الشعوب وينهبوها ويعيثون في شعوبهم واراضيهم فسادا ، ونري هجوما كاسحا شاملا اذا ما كانت تلك الحكومات مسلمة ، ونهرول لانتقاد الاسلام وحكمه . بينما نغض الطرف ونكتفي بلوم الحاكم فقط اذا لم يكن مسلما . كما هو الحال اليوم في نيجيريا. فزمرة الحكومة الحالية التي اسقطها الشعب بالانتخابات الجديدة ، رفعت شعارات الدين ولا تزال ، وانهكت الشعب المنهك اكثر ولا يزال شعار الخلاص والسلام والمحبة هو عنوان حملتها الانتخابية.

اترك رد