فتاة القيروان…تجسيد للمرأة بدور همشه التاريخ حتى اصبح معدوما

فتاة القيروان…تجسيد للمرأة بدور همشه التاريخ حتى اصبح معدوما

في بحثي الدائم عن إيجاد تفسير ما لحال المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية ، من إقصاء واضح في الدور السياسي والقيادي من جهة ، ومن تحديد وجودها من خلال دورها كزوجة او أم ، نبشت في التاريخ الإسلامي من زاوية تبتعد عن تلك التي تأسسنا عليها في المدارس . فتاريخ العرب والمسلمين في مناهجنا الدراسية ، لا يعدو كونه تاريخا مفبركا ،لا يمت للحقيقة الا بأطراف منها ، والمنهجية في إقصاء البعض وفرض البعض واضح ، ناهيك عن الفكر المرجو غرسه في الانسان العربي من تحديد وتوجيه في إطار مغلق وموحد. ورحلة البحث في التاريخ العربي الإسلامي لا تنفصل ولا بأي شكل عن البحث في دور المرأة عبر هذا التاريخ . يبدأ ذكر المرأة ودورها من خلال الشخصيات النسائية التي ذكرت في القرآن ، فبدءا من حواء والسيدة مريم ، زليخة( امرأة العزيز) وأخت موسى ، وبلقيس (ملكة سبأ)، وهناك امرأة نوح وامرأة لوط. وهناك زوجات النبي عليه الصلاة والسلام الذين لم تذكر اسماءهن ، كما لم يذكر اسم حواء ، وتمت الإشارة الى سارة وهاجر زوجات ابراهيم عليه السلام وغيرهن. والمثل الآخر للمرأة تعلمناه من خلال زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام عبر السيرة النبوية . فبرزت من بين الزوجات السيدة خديجة والسيدة عائشة .وتراوح دور المرأة بين القديسة الصالحة في الأمثلة المتداولة ، والمخادعة المراوغة . فنشأنا بتقسيم تلقائي بين الصالح والطالح واستمر هذا التقسيم في رؤيتنا للمرأة اما بدور صالح بحت (مريم العذراء ) او مراوغ تدميري بحت (زليخة “ان كيدهن عظيم”) . حتى وصل الينا التاريخ بتعاليم تخص المرأة وتحددها وتقرر ماهيتها وأفعالها وصفاتها وكيفية التعامل معها ، وكأنها مخلوق لا ينتمي الى الصفة الانسانية المطلقة التي تخص كمال الرجال.
في مكان ما ، بقصد ومنهجة او بصدفة وتلقائية ، اندثرت المرأة من ذكرها بالتاريخ وجلست في مكان لم يراوحها منه . فذكرت المرأة في نسيبة المازنية ودورها في الفتوحات ، وكانت قبلها ذات النطاقين ،اسماء بنت ابي بكر ، وفاطمة الزهراء بنت الرسول. وفي مشهد الشر كانت هند بنت عتبة وزوجة ابي لهب . ثم تعرج التاريخ لنساء كن امهات خلفاء او ازواجهن ، فاشتهرت زبيدة زوجة هارون الرشيد وبعض زوجات الخلافات اللاحقة مما كان لهن من تأثير ، وكان هناك شجرة الدر وست الملك .
أسرد هذه الشخصيات بينما تعود ذاكرتي الى ايام المدرسة . وبغض النظر كم تغيرت المعلومات وكبر النضج المعرفي عندي ، الا ان هناك امور تتعلق بتاريخ الاسلام كالنقش في الذات . ولا أظن ان هذا غريب . فنحن ننشأ على ختم هوية ما لنا ، وهذه الهوية هي في كوننا عربا ومسلمين (اذا كنا مسلمين ) . والموضوع طبيعي وعادي ،لطالما يصقل ماهيتنا للمستقبل . ولكن المشكلة ان هذا الصب يشبه الصب الاسمنتي . فتحول قالبنا المعرفي الى منحوتات تبدأ وتنتهي المعرفة فيها ومن خلالها.
وهنا تكمن المفارقة ، تسقط فرضيات المصادفة عن النهج الذي اتبعه القائمون على صناعة التاريخ العربي الاسلامي ، وإذا اخذنا المرأة كمثال ، ونتأكد ان ما تم العمل على منهجيته وبإحكام بدأ فعلا منذ الكتاب الاول في مادة التاريخ المسمى “تاريخ العرب والمسلمين” . فالمرأة بدأ دورها بحواء التي وعلى الرغم من كونها السيدة الاولى في البشرية الا انها كانت منقوصة ، فهي من ضلع آدم ، ولم نكتف بهذا، فهي التي تتحمل مسؤلية خروجه من الجنة وما نحن عليه اليوم من ضياع على الأرض. فمنذ تلك اللحظة التصق بالمرأة صفتين اصبحتا العلامة المميزة لها : منقوصة الخلق فالعقل والتدبير، وعند استعمال عقلها فهي تقتصر الحكمة وتعتمد على الغواية . فبدأت من إغراء آدم بأكل التفاحة ، وكانت امرأة العزيز التي راودت يوسف عليه السلام عن نفسه ، وامرأة نوح التي أصرت على كفرها … وفي المقابل كانت هناك النساء الصالحات من مريم وخديجة وعائشة وفاطمة عليهن السلام . ولكن ما جرى بعد هذه الحقبة مع المرأة هو ما كان ولا يزال مسألة بحثي . وكأن المرأة بعد تحديدها في القرآن والسيرة النبوية ، انتهى دورها . فلا يمكن الطعن بنساء كتلك بعد ذكرهن في أعلى مدارك القدسية أو عكسها في الإسلام (آلقرآن والسيرة النبوية) . وكل ما عرفنا فيما بعد أدوار ثانوية للمرأة كان للرجل دائما دور البطولة المطلق ، سواء كان الخليفة او الأمير او القائد الشجاع او الفاتح الغانم او الشيخ الزاهد او الحكيم او الشاعر والعالم . واقتصر دور المرأة على كونها زوجة او محظية لخليفة او امير او قائد . وفي الحالات النادرة في مرور النساء كشجرة الدر وست الملك نرى المرور سريعا ونرسم لتلك النساء صورة ذكورية يملأ صفاتها الأخرى الحقد والانتقام . وطبعا الاغواء والإغراء. فوراء كل انهيار خلافة إمرأة كانت ام خليفة او زوجته او جارية . ووراء كل اغتيال كانت امرأة تقف وراء الستار تدس السم وتحيك المكائد. وفي المرة التي خرجت فيها المرأة عن دور المغنية او الغانية كانت رابعة العدوية وتربعت على عرش القدسية التي لن تنالها امرأة بعدها والخنساء في رثاء ولدها التي فجعت بموته .
وفجأة وبعد بحث حفيف ، وقعت يداي على سلسلة تحت عنوان “روايات تاريخ الإسلام” لجيرجي زيدان . ولإحباطي الحقيقي كنت قد تركت السلسلة بين كتبي الأخرى المدرجة تحت روايات عربية دينية لسنوات . وإذ بي أكتشف كاتبا ومؤرخا أحسست بالخجل من نفسي لجهلي به . جرجي زيدان لبناني المولد ومصري المعيشة . ولد سنة١٨٦١ وتوفي سنة ١٩١٤. وعلى ما يبدو ولقد ظهر امامي جلي العين في الموسوعة “المغبرة” على رفوف مكتبتي انه أخص في رواياته التاريخية نساء ابحث عنهن . ومن رواياته “فتاة القيروان” . وهنا تخرج معضلة في هذا لا يمكن انكارها ، ان كتاباته في هذا الصدد تسمى روايات ، فاعتمادها التإريخيغير مبتوت فيه . الا انه وبصفته الشخصية والمعرفية وبكونه مؤرخا كانت مصادره بالطبع موثوقة . ففتاة القيروان يعتمد في وقائعها التاريخية على تاريخ ابن خلدون، معجم الياقوت، تاريخ المقدسي، اليعقوبي، المقريزي وتاريخ ابن خلكان . فرواياته في النهاية ليست فنتازيا تاريخية حبكها خيال كاتب روائي . إلا ان القراءة في كلماته بين وصف وحبكة يفوق الملاحم في فنتازيا التاريخ من دقة التعبير والوصف المفعم بالحراك . ومن الجانب التاريخي ، فهي إثراء معرفي حقيقي ، خصوصا في ما نعرفه عن تاريخ الخلافات الاسلامية . فتاريخ العرب والمسلمين في المدارس حدد لنا الخلافات بالراشدين والامويين والعباسيين والعثمانيين. وكل ما علمونا اياه من خلافات اخرى كانت وكأنها سهوا ، فنعم كانت هناك دوله فاطمية ولكن لم يكن من المطلوب فهمنا ان الفاطميين والسلاجقة والمرابطين والموحدين وغيرهم كانوا ايضا خلافات في زحام تلك الخلافات العريقة . فالرواية هنا تتضمن ظهور دولة العبيديين الفاطميين في إفريقيا ومناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي ، إلى إخراج مصر من الدولة الأخشيدية . التكلم عن بزوغ الشيعة وتحكمهم يبدو واضحا وملفتا في القراءة ، وكأن الكاتب يعيش معنا اليوم ليرى ما نحياه من فرقة شيعية سنية . وفي سذاجتي هذه ، تكمن كذلك حدودنا المعرفية . ففي المدارس لم يعلمونا مدى الفرقة بين الشيعة والسنة وتم تحديد الشيعة بصورة نمطية (شريرة) كتلك التي أطرت للمرأة . ألأحداث التاريخية في الرواية في اواسط القرن الرابع الهجري وتزامنا مع فتح المعز لدين الله الفاطمي بقيادة جوهر الصقلي لمصر سنة ٣٥٨ هجري. فتبدأ من القيروان ، إحدى المدن الاسلامية التي اختطها العرب بعد الفتوحات كالبصرة والكوفة والفسطاط ، على يد عقبة بن نافع سنة ٦٠ هجري على مقربة من تونس. في القرن الرابع صارت القيروان قصبة بلاد المغرب وتقاطر الناس من كافة الأنحاء لإعمارها، فقطنها العرب من قريش ومصر وقحطان ، واهل خراسان واصناف البربر والروم وغيرهم . عليها بنى الفاطميون حصنا مستديرا يسمى “المنصورية” و “صبرة” وكان مستقرا لهم ولأهلهم ، على غرار ما فعل المنصور ببغداد قبل ذلك بقرنين. كان اول الخلفاء الفاطميين عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق من نسل الحسين بن فاطمة الزهراء.
المعز لدين الله هو حفيد القاسم الملقب بالقائم بأمر الله وبن المنصور ابو طاهر الذي خلفه بعد وفاته المتوفي سنة ٣٤١ هجري. وفي عهده فتحت مصر على يد قائده جوهر الصقلي. وفي هذه الحقبة كانت هذه الرواية . ابطال الرواية المعروفين في التاريخ الذي تعلمناه وبكل تأكيد هم المعز لدين الله وجوهر الصقلي . وقد تكون القراءة الاكثر تفصيلا في هذه الحقبة ذكرت وبلا شك حاكم سجلماسة وكافور الإخشيدي حاكم مصر والحسين بن جوهر الصقلي الذي كان قائدا كوالده.ولربما عرج التاريخ في طريقه الى ام الأمراء زوجة المعز. فعادة ما ذكر التاريخ النساء امهات الخلفاء وزوجاتهم إذا ما كان لهن تأثير. فعلى غرارها مثلا كانت زبيدة زوجة هارون تجسد دور ام المؤمنين كما تجسده اليوم الملكات . فأحيانا اتخيل ان الشيخة موزة في قطر هي النسخة المعاصرة لزبيدة .او ما نراه من حريم السلطان في الدراما التلفزيونية ولكن لم يذكر التاريخ لمياء ، وان ذكرها فليس بدورها الذي كان من شأنه فتح مصر وبلا أدنى ريب. فلمياء ، فتاة القيروان كانت ابنة الامير حمدون حاكم سجلماسة المنهزم للمعز لدين الله ولقد خطبها جوهر الصقلي لابنه الحسين لكي يضمن ولاء جماعات حمدون المحاربة الى جانب المعز. تجرى احداث القصة كعادة القصص العربية الاسلامية وسط مكائد ومؤامرات لإطاحة حكم واسترجاع آخر . وتكون الفتاة بداية هي الطعم لإسقاط دولة المعز. الفتاة لم تكن فتاة عادية ، فهي تقود معارك مع ابيها ووحيدته ، وحيك الخطط التي اندس فيها والدها لم تكن بغيابها او فرضت عليها . الا ان لمياء في هذه المعركة الحاسمة التي انتهت في فتح مصر من قبل المعز لدين الله كانت قد مرت في مرحلة تغيير وولاء مطلق للمعز لاعلاء كلمة الله من خلاله لما رأته من أخلاق واخلاص وتفاني منه ومن زوجته وقائده وولده . فالمفارقات بين البذخ في حياتها السابقة والبساطة التي تجلى بها حكم المعز وحياته في داخل داره . الايمان المطلق برسالته وتوحد كلمة اصحابه والتفاني مقابل الاسراف والترف في الخلافات الممتدة بين مقارنات بهارون الرشيد وزوجته في بغداد ، والدولة الاخشيدية في مصر التي كانت بالغة البذخ والثراء والجاه في قصورها ، وجوع وفقر وتواضع في حال اهل مصر .
الدور الذي لعبته لمياء في كسب المعركة الاخيرة التي نقلها لنا التاريخ بالفتح التاريخي لجوهر الصقلي لمصر ، كان دور مهما أعطى المرأة في السرد التاريخي والانساني للاحداث ، تغاضت عنه كتب التاريخ على مر الزمن. فلمياء امرأة فتية ،فارسة شجاعة . ذكاؤها مبهر ودهاؤها كان ايجابيا . دبرت الامور وخاطرت بحياتها وتفانت بإخلاص كبير بما آمنت به ومع اندفاعها وشدة دهائها لم تكن (شريرة) حتى عندما بدأت مشوارها بتهاوي قرره لها الرجال في حياتها من والدها وخطيبها سالم وعمه الذان كانا يخططان للاطاحة بالمعز.
لأول مرة امر برواية ،كتبها رجل ، وكانت بطلته الخفية امرأة تقوم كبل ادوار البطولة مجتمعة.
والاهم … هذه رواية حقيقية …يجب التذكير بها . لأن المرأة لم تخلق لتكون الضلع الناقص او المكمل من الرجل او فيه . ولم تكن هي اصل الغواية والمكائد .
المرأة ، خلقت كالرجل لإعمار لهذه الدنيا . اخفاقاتها كإنجازاتها ليست حكرا لجنس الانثى . كما الرجل، انجازاته واخفاقاته لا تخص الجنس الذكري .

اترك رد