مهاترات وطن: ثورة المقاهي
قبل شهر وبمطار احدى الولايات الامريكية ، توقفت امام مشهد بقي في ذاكرتي، لشاب اشترى امامي قطعة شوكلاتة ، ناول البائع عشر دولارات، وعند إرجاع الباقي انتبه بأن سعر القطعة باهظ الثمن . فسعرها في السوق معرف والسعر بالمطار كان باهظا لدرجة مبالغ فيها . فقرر الرجل إرجاعها وابتسم في وجهي قائلا : آسف لهذا التعطيل ولكن المسألة مسألة مبدأ، وقبولي بشراء قطعة اعرف ان سعرها الحقيقي اقل بكثير من هذا السعر هو مشاركتي بعملية سرقة ستصبح بقبولي مشرعة .
واليوم بينما كنت اتفق مع صديقة لي على مكان نلتقي فيه واقترحت سرية رام الله . فقلت متعجبة: ما لنا بالسرية . بالنهاية نحن ‘عواجيز’ لهكذا مكان وهناك الكثير من الناس . فقالت : لا انه مكان عائلي والارجيلة هناك ب١٧ شيكل . فأنا اشعر باني شريكة في تفشي الفساد عندما اسمح لنفسي بشراء نفس ارجيلة ب٣٥ شيكل وعصير ب٢٠ وفنجان قهوة ب١٥ شيكل . نحن الزبائن من نشارك في هذا الشره في انتشارهذه المقاهي والمطاعم.
أردفت قائلة : نحن بحاجة لثورة ضد المقاهي والمطاعم في رام الله . فنحن نشجعهم بقبول هكذا أسعار .
فكرت بكلامها واستحضرني موقف الامريكي بالمطار . وقلت في نفسي ، كم من الثورات نحتاج ؟ وهل اعلان مقاطعة المطاعم والمقاهي الباهظة يغير من الواقع ؟ هل في تمردنا على سعر الارجيلة وفنجان القهوة وكأس العصير حل ممكن؟
في مدينة تنتشر فيها المطاعم والمقاهي بانتشار عدد العائلات ، وتكاد تكون المكان الوحيد للترفيه عند المجتمع في ظل غياب واضح لما يمكن ان يكون هدفا لافراد المجتمع بشكل عام . وانتشار المطاعم والمقاهي يعكس واقعا مجتمعيا يتحدد في فئة معينه لا تمثل الشعب باكمله لسبب بسيط ان أفراد المجتمع بشكل عام لا تتعدى مرتباتهم الشهرية الخروج الى مقهى لارجيلة وعصير وفنجان قهوة مرة بالأسبوع . او فاتوره عشاء في مطعم لبضع أشخاص .
في بلد لا يتعدى الناتج القومي فيه ان يكون الا الانسان المستهلك لما لا ينتجه الوطن. تبدو المطاعم والمقاهي وكأنها مركزا للدخل القومي . فيعمل المواطن صباحا ليرفه عن نفسه في مقهى او مطعم باخر الأسبوع او اليوم على حسب معاشه او وضعه . مما لا شك فيه ان المجتمع المتواجد بالمدينة منتشر على حسب امكانياته بين المطاعم والمقاهي . وفيما بينهم ما يبدو او كان بالأصل متنزها وتحول للتدفق المجتمعي نحو الخروج لمطعم او مقهى آلى مطاعم عائلية تتنافس بالاسعار العالية مع دخل لا يزال محدود للشريحة العظمى .
انتشار المطاعم والمقاهي ، وشح المصانع وانتشار العمارات الشامخة وقلة الموارد وانعدام الفرص امام الكثير من الشباب وازدياد البطالة يعكس صورة المجتمع في انحداره نحو مجهول لا يبشر بآفاق خير. فالهوة الظاهرة بين حقيقة وضع معظم المجتمع من قلة موارد ودخل ، والانتشار الواضح لما يظهر طبقة فاحشة الغنى في بلد تعيش على المعونات من اجل دفع رواتب موظفيها يبدو كمن يمشي على ارض متصدعة تنتظر زلزال.
الا ان موضوع الثوره على المقاهي والمغالاة في الأسعار يبدو في مبادرة صديقتي ودعمي لها كموضوع مقاطعة البضائع الإسرائيلية . ننظر الى أنفسنا بينما تحولنا الى سلع استهلاكية نبيع ونشتري بانفسنا وبغيرنا .نعيش على الاستهلاك فنأكل مما لا نزرع ونلبس مما لا نصنع . فحق عَلينا الويل .
وللحقيقة ، ان الجلسة في “”السرية” اعادت لي بعض التوازن في النظر لما أراه دائما كفقاعة رام الله . رأيت المجتمع الذي نسيت وجوده في زحام المطاعم والمقاهي الأخرى . أعاد الى ذاكرتي تلك الأيام عندما كانت رام الله وجهتنا بالمناسبات العائلية بمنتزهاتها ومطاعمها الصيفية كالبردوني .
في ظل هذه الطبقية الدخيلة على المجتمع الفلسطيني ،والتي باتت تشكل هويةرام الله ، بدت السرية وفي زحام الناس وتلاقيهم بكل الاتجاهات من أعمار واهداف بين شباب وكبار وكأنها تشير وبقوة ان المجتمع موجود. ان البساطة لا تعني بالضرورة كما وصفت لي بنات اختي بأن من يتراودوا لهذه الاماكن هم ” كتش” . ذكرني التجمهر والتلاقي هناك بأيام المدرسة ، وتعللنا بالذهاب الى المكتبة في النوتردام بالقدس من اجل لقاء صدفة مع اولاد مدرسة الفرير .
رجعت بأفكاري الى موضوع الثورة .وان كانت حاجتنا لثورة على المقاهي والمطاعم والاسعار . ام ان الموضوع بكل بساطة ، ان الاماكن مفتوحة لمن يريد الذهاب اليها وبالأسعار المطروحة. هل تجمهر المجتمع في اماكن كالسرية ومتنزهات البلدية بين البيرة ورام الله وحديقة الاستقلال يفرز طبقة متوسطة عامة ، والمطاعم الاخرى والمقاهي تحدد معالم الطبقة السلطوية ؟ فإن كان الجواب نعم ، فهل هذا خطر؟
الخطر الاكبر والوحيد يبقى في غياب وعي محدد الاتجاه في هذا المجتمع . فالشعور بالاكتفاء والرضا بعدالة اجتماعية قد يكفل الكثير من التوازنات . قد يبعدنا عن مفهوم الثورات والتعطش لها . الا ان المشكلة في عدم التوازن الواضح فيما نراه ونحياه . فالربط بين ارتفاع الاسعار والمغالاة الغير مبررة بين ما اعرفه كمستهلك من قيمة السلعة امامي وبين سعرها المطروح.. لا يتوقف عند سعر فنجان القهوة والعصير . فالمؤسف ان النسيج الجديد الاجتماعي يأخذ هذا الطابع من المغالاة . يعيش المجتمع بين قطبي طبقة سلطوية نعيمها مستورد ، وبين طبقة تفرعت في المجتمع من غرس أصيل ينمو ببطء وبانتظام بالرغم من تزاحم الأغراس الجديدة فيه.
نحتاج الى اعادة بناء في نظمنا الداخلية كأفراد لنستطيع ان نتغير نحو مجتمع افضل. ما يجري اليوم في حياتنا هو حالة من الفردية المجتمعية حولت كل منا الا مجتمع بذاته لا يعنيه ما يجري خارج دائرته. إعادة البناء الداخلي هو الثورة الحقيقية . الوقوف امام حق في قضية مبدئية حتى ولو كان الموضوع قطعة شكوكلاته او نفس ارجيلة وفنجان قهوة ، هو الثورة . الثورة لا تأتي الا من رحم مجتمع تربى على فكر. فكر يكون فيه الوطن هو الانسان في المجتمع . قيمته الفردية تترابط لتكون قيمته المجتمعيه . لا الفرد على حدة هو كل ما يمثل لنفسه وللمجتمع.
نحتاج لثورة بالافعال حتى ولو كان بالاعتراض على سعر فنجان قهوة في مكان نعتقد لاي سبب ان السعر فيه مغالاة . تحدث الثورات عندما يبدأ الفرد بالتجاوب مع محيطه ويتفاعل مع ما يجري فيه . حتى ولو كان تحت اسم ثورة مقاهي.
فالمقهى والمطعم بوجودهم ثورة من نوع آخر كذلك . فهم تحدي لواقع غير طبيعي بحلة طبيعية. وكأن كثرة المطاعم وتدفق الناس اليها يعطي مؤشرا حقيقيا لاصرار المجتمع بالرغم من ظروفه الغير عادية ان يكون عاديا . كغيره من المجتمعات العادية.