تخطى إلى المحتوى

المقاومة بين التخريب والتخوين

المقاومة بين التخريب والتخوين
تستمر الأجواء بنبض مختلف أرجع الى وجداننا معنى آخر للحياة. بالرغم من الألم والأسى بفقدان كل هؤلاء الشباب . بالرغم من الخوف من غوغائية ووحشية الاحتلال التي تقترب من كل بيت فلسطيني بلا استثناء . الا ان هناك شعور ، لا اعرف ان كان شعور يختص به ابناء جيلي ممن خرجوا من هبة الانتفاضة الاولى . عندما كان التحرير حلما آمننا بقربه . عندما كانت فلسطين التي نسعى اليها هي تلك الخارطة التي كنا نعلقها حول رقابنا نتزين فيها متفاخرين. لا اعرف ان كان هاجسا ما اشعره عند رؤيتي للشباب الذين كنت اصغرهم بالانتفاضة الاولى اليوم وهم يحملون الحجارة يواجهون فيها آليات الاحتلال الغاشمة بكل عنجهيتها . اعترف ان تلك الفتاة بداخلي التي لم تتجاوز الخامسة عشر حينها تستيقظ وتتمنى ان تكون في هذه المواجهات. الانتفاضة الاولى كانت حلم حياة لتلك الفتاة نحو وطن خالي من الاحتلال. لم احمل حينها حجرا ولكني تمنيت لو شاركت في مظاهرة او خرجت في مسيرة . كبرت وظل الحجر الذي تمنيت حمله رفيق طريق يصبو الى التحرر حتى عندما اضمحل الوطن بين حواجز وجدار ومساومات اضاعت الارض والوطن ولم يتبق من ذلك الحلم الا حجر وانسان يستمر في حمله وكأن الفلسطيني جيلا بعد جيل يخرج من رحم صخرة تلد طفلا يحمل حجر.
يخرج اليوم الشباب من كافة الأعمار يصرخون نفس الصرخة تلك الرافضة للظلم محاولة رجم عنجهية آلة ظلم تقتل وتفتك فينا شعبا وكأنهم في كل مرحلة يتربصون لفئة عمرية ما ، ضمن خطة لم تكف اسرائيل عنها منذ قيامها ، وهي التطهير العرقي للشعب. فمع كل فلسطيني يُقتل تزهو الصهيونية بهدفها . ما نشهده اليوم لا يختلف عما جرى قبل سبع عقود واستمر ويستمر الى هذه اللحظة. الاعدامات والقتل البارد للشباب لا يمكن فهمه بطريقة اخرى . فهم يتربصون للشباب والاطفال لقتلهم. كل فلسطيني اليوم هو مشتبه به وقتله هو انجاز ،لا يهم ما يحصل بعده.
وان كان هناك قرب بين ما حدث قبل عقدين بين الانتفاضتين ، هو ان الهبة هي هبة خالصة للشعب ضد الظلم . هبة لا يحركها فكر سياسي من اي اتجاه . هبة تخرج من وعي الفلسطيني الرافض للخنوع والذي يئس الظلم والبطش المستمر. الا ان ما يجري يستدعي التوقف كثيرا . اعترف باني لا استطيع ان افكر كهؤلاء الشباب . ولكني لا استطيع الا ان اتنبه لمدى وعي الشباب في المواجهات عما يجول في خاطرهم. أتساءل ما الذي يتوقعه الشاب والفتاة عند خروجهم لنقاط التماس نحو الجنود ؟ قبل الخوض بأي كلمة اخرى ، استثني من تساؤلاتي اولئك الشباب الذين يخرجون في سبيل الموت . اولئك الذين يحملون نعوشهم على ظهورهم ويعرفوا بانهم لن يرجعوا . اولئك ذهبوا الى مكان اخر بوعيهم .لا يمكنني الخوض فيه وتحليله ليس الموضوع الآن.
الشباب الذين يواجهون بالحجر في المظاهرات ولاقرب الفكرة اتكلم عما يحدث في محيط الجامعة هنا. وجود مكتبي في بؤرة الاحداث جعلني اتفكر كثيرا فيما يحدث. اولا بجدوى ما يحدث ، وثانيا بمدى وعي الشباب بهدف خروجهم.
لا انكر ان السبب المباشر واضح وضوح الشمس. واقولها واعترف، بأن نبضات قلبي تختلف باللحظة التي ارى فيها شابا يحاول دك الجدار بمطرقة ، وآخر يحاول تسلقه لرفع العلم الفلسطيني .واولئك الذين يخرجون من الارض وكأنهم حجارتها بلحظة يبدو فيها المشهد فيها كرمي الجمرات على ابليس في الحج. لا انكر اني في تلك اللحظات يعود نبض الحياة الي بطريقة تعيد الي الحياة التي لا يزال فيها حلم الحرية هو الحلم. ولكني سرعان ما استيقظ للواقع المرير . لمدى وعي هؤلاء الحاملين حياتهم بتلك اللحظات على اكتافهم بأن رصاصة غاضبة قد تودي بحياتهم الى الأبد. بين نفيرنا العام الغاضب بين احقية للتعبير عن انفسنا برجمهم بالحجارة وبين قوة السلاح التي يحملوها ليفرغوها في صدور ابنائنا . عند الركض امام لحظة الالتحام تهب الحياة في الجميع ولا تزال تشتعل في فتيلها حتى يجد الشاب نفسه في مواجهة تمحي الخوف منه وتعيده لمواجهة عمياء. كل تلك اللحظات بين طلقات الغاز المسيل للدموع والمنهك للاعصاب وبين كل تلك الاعيرة المطاطية التي لا ترحم من تصيب من هول الرعب في اقل مصائبها وبين الرصاص الحي والقنابل التي لا نعرف لها اول من آخر. حتى اصبحنا نميز بين الطلقات وبين انواع الرصاصات والقنابل. اتكلم عن هذه اللحظات التي نفقد جميعنا فيها وعينا . فلا نعود نفكر بشيء الا اللحظة . ولا يسعني الا ان افكر واتساءل ما هو مدى استعداذنا لهذه اللحظات التي صارت يومية. ما هي المسوولية المترتبة على هؤلاء الشباب وعلينا نحن ككبار . كيف نحتوي هذا الموقف الذي اصبح في ظل هذه الهبة موقفا طبيعيا الى امر اقل خطورة واكثر نفعا؟
لا زلت اشعر بالرعب من مشهد الشباب المستنشق للغاز على مقربة مني وليس في حوزتي ما اقدمه . ارعبتني فكرة عابرة بماذا لو اصيب شخص لا قدر الله بعيار ناري ونزف؟ في المواجهات السابقة اخترقت الرصاصة المطاطية زجاج مكاتبنا وكان ستر الله لبعض الزملاء هو الحامي لمأساة اقتربت لهذه الدرجة. فكرة تحويل الحرم الجامعي لساحة معركة ، لا استطيع تقبله في وعيي الخارجي ، مع تفهمي المطلق له في وعيي الداخلي. فالوضع المثالي يقول بأنه لا يجوز انتهاك الحرم الجامعي مهما حصل . والحرم الجامعي ليس مبنى ولا نافورة او حديقة او صف . انه المكان الذي يمثلنا . كلمة حرم تفيد حرمة المكان . الناس يأمنون انفسهم فيه . فعندما يتحول الى مكان معركة لا تعد هناك حرمات . فالمواجهة التي كانت تتعلق بمئة شاب او فتى في الخارج تصبح مواجهات ضد عشرة الاف شخص بالداخل. من واجبنا سواء كنا مشاركين بالمواجهات او لا ان نتأكد من عدم وصول جيش الاحتلال الى الداخل.
ولست في صدد التباهي او رمي النصائح. ولكن لا بد من الوقوف نحو ما يحصل والبحث في طريقة لمعالجته للتقليل من المخاسر المحتملة. الموضوع في المخاسر لا يتعلق بزجاج حطم ولا ابنية تأثرت او حجارة تكسرت . المخاسر الكبرى هي في تحويل المكان بلا وعي من مكان قد يلجأ اليه الشباب من اجل الحماية في حالة الخطر الى مكان يصبح هو مركز المواجهة. نحن بهذا نعرض الالاف لخطر محتم ، ان كانت الضحايا بالخارج كانت بالعشرات تصبح وبلا مبالغة بالداخل بالالاف. الجامعة اولا ليست مؤهلة للتعامل مع هكذا طوارىء. فالجامعة بالنهاية هي مكان تعليمي وليست مستشفى . مما لا شك فيه ان هناك داعي لعمل المزيد من اجل التعامل مع هكذا طوارىء . الا انه وبلا ادنى شك ، بأن أمن الجامعة يقوم بعمل بطولي بجدارة عند اشتعال المواجهات . وكلمة حق وفخر حتى اقولها ، بأن موقفهم امام هذه الزمة يؤكد ان الانسان الفلسطيني حي. ترى الامن في الازمة يقف بكل ما اوتي من مقدرة ان يحمي اي شاب وكل شاب من اي خطر يقترب. الا ان الموقف اكبر بخطورته مما يستطيع افراد الامن القيام به . فالمواجهات بلحظة تصبح مستحيلة وتخرج من كافة الاتجاهات. ما استدعاني على الكتابة اليوم هو لحظة لم تفارقني عندما هرب الشباب نحو المبنى من الغاز والطلقات وكان الكثير منهم بحالة اختناق. من ناحية كانت محاولات المساعدة من جانبنا محدودة اشبه بالمعدومة. فانا على سبيل المثال لا عرف حتى هذه اللحظة ما الذي يجب ان افعله عند استنشاق الغاز . ولا اعرف ان كان ما نقوم به هو صحيح . وان كنا بحاجة لما يقينا من استنشاق الغاز من ادوات فلم نقم حتى اللحظة بتوفيره . والمسؤولية هنا تقع على الجميع . فما يجري اليوم ليس من مسؤولية الادارة . فادارة الجامعة مثلا تقوم بكل ما تستطيع القيام به لاحتواء تدهور الوضع عند وقوعه ، وهنا اشدد ان هذه اللحظة تعني فقط حماية الشباب من الاصابة او تجنب الاعتقالات . فخروج الشباب من كل الاتجاهات من البلدة او الجامعة أمر محتم. ما يحرك الشارع اليوم ليس فصيلا ولا كتيبة . هناك شعور عام يغلب كل الأطر وهو ما يحرك ما يجري على الارض. ولكن بلحظة ما واثناء مراقبة ما كان يجري . ولا انكر بان مشاهدة المواجهات ومنذ سنوات اعطتني خبرة ما بما يجب وبما لا يجب ان يكون . في مشهد ما وبينما كان الشباب يتدفقوا الى المكان ، وفي لحظة هدوء ما تحدثت الى المجموعة وقلت لهم انه من الافضل ان يزيلوا ما يغطي وجوههم او ما يظهر اشتراكهم بالمواجهات لحظة دخول الجامعة. فهذا اكثر امنا لهم . اجابني شاب بحدية قائلا : نحن اهم من المكان . فقلت له بترو : انت طبعا اهم من المكان . ما اقصده بالمكان بهذه اللحظة هو الحماية. لثامك يقول اذا ما مر الجندي بان المواجهة تخرج من هنا ، وهذا يعطيه سببا للاقتحام . والاقتحام يعني المزيد من التنكيل والاخراب والاصابات . الجامعة يجب ان تكون حصينة من دخولهم . وهم يبحثون عن اي لحظة تسمح لهم بذلك . فعلينا الا نعطيهم هذه الفرصة. لم يرق كلامي له ولمن حوله ، وبلحظة شعرت وكأنني في موضع الخيانة . لم يكن كلامي خارجا من الصدى فلقد شاركني فيه الزملاء من الامن خاصة ، وهمس في اذني احدهم قائلا : لا تقولي اكثر فهم في لحظة نطقنا سيخونوننا اذا ما تكلمنا في هذا الاتجاه.
بينما تفهمت كذلك موقف الشاب الذي يخشى اذا ما ظهر وجهه ان يتم الوشي به . ولكن حاولت استدراك المنطق بتلك اللحظة معه بأن الوشي خطر ولكن الخطر الاكبر بهذه اللحظة هو الجندي في المواجهة . لا اعرف ان كان تحسبه اناني جدا ام تحسبي انا هو الاناني. خوفي على الجامعة التي تمثل شعوري بالامن او عدمه بتلك اللحظة امام خوف عام بمحاولة حصر الخسائر ، امام موقف حق من جانب الشاب بخطورة ستعرضه لمغبة ما بعد اللحظة.
ما جرى من تحويل الجامعة لساحة حرب فيما بعد … كان ابعد من محاولة منطَقة اي امور . في لحظات طويلة اصبح الجميع في نفس المكان من الخطر ، ومحاولة النجاة بكل وأي طريقة متاحة صار هو كل ما يمكن التفكير فيه .
لحظات يتزاحم التفكير فينا وينعدم المنطق بغياب التفكر والتخطيط والتحسب المسبق.
وننتهي من اللحظة بمشاعر متخبطة من جهة واصابات باختناقات نصبح جميعا فيها ضحايا وجلادين . نلوم بعضنا ونخون بعضنا الاخر. وقد يكون اللوم جائز وقد تكون الخيانة متسربة فيما بيننا . ولكن نستمر في عدم التفكير وحساب اللحظة القادمة التي يجب ان تكون حياتنا فيها هي المفصل . أمن المكان يتعلق بأمني كفرد وكمجتمع جامعي. حمايته والحفاظ عليه هو الحصن الذي يمكننا من مواجهة الاحتلال ضمنا وفعلا في هكذا ازمات .

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading