تخطى إلى المحتوى

تجديد الفكر

جيل بعد جيل ،نردد نفس المطلب بالحاجة الى تجديد الفكر . ونردد شعارات تنادي وبشدة نحو تغيير فكر تحجر بداخل رؤوسنا فأصبح كالصوامع المنحوتة في صلب أدمغتنا . نعي تماما حاجتنا لتغيير هذا الفكر. ذاك الفكر. فكر ما … ولكننا تهنا ولا نزال في تعريفنا لما نريده من تغيير.

ولربما قبل الخوض بالسؤال عن ما هية التغيير الذي نريد. علينا التوقف لبرهة امام مواجهة سؤالنا بلماذا نريد التغيير. يبدو اننا على يقين ما ان هناك حاجة للتغيير وذلك لحاجة العصر الذي نعيشه للتغيير. فالكل متغير امامنا وحولنا ومن ورائنا الا ما ترعرعنا عليه فتشبث بنا . وحاجتنا للتغيير بالفكر لا يمكن ان تكون سهلة في تفكيكها . فنحن نتاج لموروث فكري تتغلغل به الموروثات الثقافية التي تتأصل فيها العقيدة الدينية ،فتشكلها تشكيلا محوريا .فكل محاولة فكرية للتغيير تصطدم بجدار العقيدة المصفح بالاسمنت المسلح بعقولنا.

وما من شك ان الموروث الثقافي العقائدي النسيج يشكل بنهاية الامر هويتنا القومية التي نسجت نفسها فوق ذاك النسيج فتداخلت اكثر حتى تعقدت . فما تلبث تفك احد الخيوط حتى تتشابك بك خيوط اخرى اكثر تعقيدا.

فبين منظومة فكرية مبنية على العقيدة الدينية كأساس للموروث الحضاري، الثقافي منه والاجتماعي بأقل تقدير. ومنظومة فكرية مبنية على القومية كأساس لتعريف الهوية الحالية . لا بد ان حالة التيه التي تصومعت بداخلنا تدريجيا اصبحت اكثر تصلبا واقل فاعلية. اكثر تصلبا لانها مدعومة بحماية ذكورية قبلية طائفية ، اصبحت يوما بعد يوم اكثر تطرفا . واقل فاعليه ، لانها لا تناسب العصر الحالي. لا من جانب متطلبات الحياة التي جعلت العالم قرية صغيرة من جهة ، ومن سرعة حراك التطور الانساني التي لم تعد الموروثات هذه ما تشكله. فحراك العالم مع الثورة الاكترونية لم يعد بمقدور احد التحكم بسرعته وعدم الانضمام له.

علينا ان نقف وقفة جدية وحقيقية امام حاجتنا لمنظومة فكرية متجددة حقيقية. منظومة فكر لا يراوغ بين العقيدة والسياسة ويراوح بينهما. منظومة الفكر الذي نحتاجه هي تلك التي تحتاج عملية هدم كاملة لما يقبع في عقولنا من صوامع جهل فكري بات عتيق ومهتريء.

المنظومات الفكرية التي ترتكز على موروث ليست بالضرورة سيئة او مضرة. ولكن استهلاكنا لها واساءتنا ادت الى اهترائها . فاصبحت ركائز القيم التي تبنى عليها اخلاقيات المجتمع موروث تحيطه تصرفات حددت قبل اكثر من الف سنة لاسباب وظروف واحتياجات ومتطلبات كانت بكل حالاتها واحوالها مناسبة لذلك العصر . ولا تعني باي شكل من الاشكال انها بالية ولا تستحق الاهتمام بها . ولكنها ابدا لا يجب ان تكون ركيزة ما يشكل حياتنا اليوم ، وبالاخص بالطرق المتبعة.

قد نختلف بالمسميات . بين موروث ودين وعقيدة وغيرها. ولكن هذه الامور بلا ادنى شك تشكل الكثير من ماهيتنا المهمة . فنحن نتاج لكل هذه الامور . كيف نتكيف معها هو المهم .

وبين التكيف وبين بناء صوامع نشكلها لتكون هي الطريق الوحيد تكمن الازمة.

عملية الهدم المطلوبة لا تشمل هدم لما شكل ما هيتنا من موروث حضاري يشتمل لكل ما سبق . ولكن يتوجب هدم ما سكبنا في هذه الامور من تماثيل ومنحوتات تحجرت بداخلنا فاصبحت هي الدليل والطريق والغاية التي نعيش بها ولاجلها.

ولكي نستطيع ان نميز بين ما يجب ان نبقيه وبين ما يجب علينا التخلص منه يجب علينا التجرؤ القيام بعملية الهدم. فما هو صالح سيعاد استخدامه ، وما هو عير نافع سيتناثر.

من اجل الوصول الى هذا علينا ان نعيد الهيبة للتفكير. فالفكر تحول في زمننا الى كفر.

والفكر لكي لا يكون كفرا يجب على الانسان ان يكون حرا. الحرية هي مفتاح الفكر المتجدد. والكلام بالحرية ليس بالكلام السهل لمجتمعات تعيش تحت وطء الدكتاتوريات المبطنة في احسن احوالها بالذكورية كنهج حياة. كيف نصبح احرارا فنحرر فكرنا وبالتالي نجدده؟

هناك الكثير من العمل اللازم.. يبدأ بنا نحن.كل واحد فينا . كل شخص يدعي الاخلاص بالحاجة لتجديد الفكر. في ظل وقت يخلو من الامثلة الحقة والتجارب الجماعية الناجحة . نحتاج وبشدة بالعوده الى انفسنا وبصورة شخصية. علينا ان نبدأ بانفسنا . ومحاولة التواصل مع ذواتنا وبدء فك كل تلك المعيقات التي تجنبنا التحرر من كل ما يكبلنا من معتقدات . العلم نور..ليس مجرد مصطلح. ففيه كل ما نحتاج الوصول اليه لكي نقف مع انفسنا على باب الحرية. والعلم ليس كتاب نقرأه ولا شهادة نتسابق من اجل تعليقها على جدراننا . العلم بنوره هو الانفتاح لما يجري حولنا وتقبله واستيعابه ومحاولة الارتقاء نحوه واليه.

الحرية سقفها السماء .. وهكذا الفكر . ولطالما سقف فكرنا عقيدة دينية او قومية قبلية فلن نتحرر.

وطالما تحررنا في ضحد هذه الموروثات تماما فنتنكر لها ،فاننا ايضا لن نتحرر.

ما نحتاجه في التجديد في فكرنا ، او في منظوماتنا الفكرية،ان وصلنا الى مرحلة فهمنا ما هية التفكير وارتقينا لقيمة الفكر هو التمكن من التفكير لانفسنا ومن اجل انفسنا . وهذا يتم فقط من خلال التواصل المباشر اولا مع ذواتنا . علينا ان نعرف ما الذي نريده وما الذي لا نريده .ما الذي نحتاج الى تغييره وما الذي نريد تطويره ولماذا. هناك حاجة لتغيير نهج الاليات التي نفكر بها .الحاجة الى تأصيل النقد والشك بدلا من اليقين والمطلق. لا يوجد نهضة فكرية ومجتمعية لا تقوم على تأصيل الشك والنقد والتأويل. وبلا ادنى شك تبدأ عملية التغيير ان اردناها فعلا بتغيير مناهجنا الدراسية المبنية على التلقين والحفظ والترديد والتي تمنع التفكير وتحدده ضمن قوالب مصنوعة خصيصا لتثبت ذكورية المجتمع لتحكم السيطرة على الافراد وعلى المجموعات تلقائيا من خلال منظومة تم نهج العمل فيها منذ عقود وعقود من الزمن ادت تدريجيا الى صد كل ابواب الفكر وتحديدها في منهج دراسي ملامحه واضحة ومحصورة. والمناهج لن تتغير لطالما نحن نقبلها كأهل. وليس مصادفة ان ما يجري بالبيوت وبالمدارس متصل. فالنظام نفسه . نحن نربي ابناءنا وفق نهج ابوي مبني على الطاعة. التربية اصول عقاب وثواب. وتأتي المدارس لتؤكد على هذا .من خلال حشو معلومات وتاريخ مقتطع مبتذل يحتوي على بعض الحقائق والكثير من الاساطير . يكرس الاهتمام على بعض الجوانب ويعدم تماما الجوانب الاخرى . وكأن التاريخ فقط نحن. ابتدأ بنا وينتهي بنا .

التغيير لن يآتي الا اذا ما قررنا نحن التغيير.

لن يتم تغيير المناهج لطالما نقبل بها . ولن نتوقف عن القبول بها ولو تذمرنا منها لطالما نرى انها تحكم السيطرة على ما نستطيع ان نتحكم به كأهل. لطالما تناسب طموحنا كاهل لنا الطاعة وحقوقها وعلى الابناء واجبات الطوع لنا . ولن نستطيع تغيير هذا لطالما بقي جل طموحنا بانتاج ابناء بنسخ مطورة عنا .

الحرية هي ان نحرر ذواتنا من قيودها ونسمح لانفسنا ان نكون ما نرقى ان نكونه بلا قيود الواجب والحلال والحرام. الحرية ان نزهد بانفسنا بزهدنا بابنائنا . بان نتركهم ليكونوا هم. لا ما نريده نحن لنا من خلالهم.

الحرية بالفكر هي بالقيام بما نقوم به ايمانا بتجديد المجتمعات نحو ارتقاء مفيد وبناء . ان تكون معضلة اخلاقية مبنية على ما يحفزنا اليه عقلنا لا ما نهابه من عقاب او عذاب. هناك استبداد متأصل يتم ممارسته علينا ونمارسه نحن كطريقة وحيدة للتعامل مع امور حياتنا .

كل تلك الاهتراءات المكونه لما نحن عليه لا تصنع فكرا ولا تساعد في خلق اجيال افضل. علينا البدء بالتغيير الذاتي الشخصي الصادق …بعد ذلك نستطيع ان نفهم ما ذا نريد من تجديد الفكر وما يحمله من مغزى .

ان التجديد في منظوماتنا الفكرية لا يمكن بوضع نخاف فيه من الشك ونمنعه ولا نجعله جزءا من حوارنا الحياتي .ان بالشك والنقد والاستمرار بعمليات التأويل لما يحيطنا هو جزء مهم من تجديد اي فكر . مواجهة الاستبداد الذي يعيش فينا ويرعبنا هو بداية تحريرنا من انفسنا ومن القيود التي تكبلنا.

 

 

 

2 فكرتين بشأن “تجديد الفكر”

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading