تخطى إلى المحتوى

“كلية شميدت للبنات ” :التقاء شارع ،مدرسة، وذكريات حياة

 

تمر بنا سنوات العمر ونكبر ونهرم ،الا ان ذكريات كثيرة من زمن ماضي مرتبط ارتباطا وثيقا بطفولة زاهدة حالمة حاشدة تبقى حاضرة وبإصرار ترفض ان يمر بها الزمن.

لا بد ان هذا الارتباط بالذكريات الماضية طبيعي وعالمي . لا يقتصر على شعب او ثقافة او مكان بحد ذاته . الا انه من الممكن ان تكون الحياة في القدس تصاحب بعض الاختلافات . فالمدينة ليست كغيرها من المدن عند مرور الزمن بها . فالتغير الحاصل فيها يفوق التغيرات المتداولة والمتعود عليها ، من بناء جديد او شارع او تحويل في مسار هنا او هناك ، او زيادة عدد سكان او تطور ما . ما يحدث بالقدس يشبه الانفجار المترتب على بركان او هزة ارضية شديدة . ما حدث بالمدينة من تغيرات على كل الاصعدة في العقود الاخيرة يشبه تلك الاحداث الطبيعية الكبيرة . تقلب موازين المكان والزمان وتترك الناس في حالة غير مفهومة من التعامل مع الواقع المفروض. فالكل ينتهي في حالة من التيه والتشبث في بعض ما كان من ذكريات .

هذه الذكريات وكأنها موروثنا من هذه المدينة . هي ما يؤكد ملكيتنا لها في خضم التداخلات التشعبات والتغيرات الكثيرة . ما كان لنا من ذكريات ترتبط بالمكان الذي لم تستطع قوى التغيير الحاصل المساس به . مدرستي .

كلية شميدت للبنات .. يشبه الاسم في ترديده الاهمية التي تشكل موقعه في القدس. وسط كل التغييرات الحاصلة الا ان المدرسة تقف شامخة وسط القدس وكأنها مؤشر دائم على الوجود بالرغم من كل التحديات . ذلك الوجود الصحي المتكامل المتماسك المترابط مع تطورات العالم المحيط والبعيد. منارة تتوسط القدس فعليا وذهنيا . وكأنها تتحدى بمن يدخلها الكون ،فيأمن نفسه ومحيطه ، ولا يخرج الا انسانا يتحدى بنفسه ما يحيط ذاك الصرح من تحديات .

اعترف بأنني عشت ولا ازال بحالة من الانتقاد الشديد لهذه المدرسة . لربما يرتبط الشعور بحالة التمرد التي كبرت عليها . تعلمت بهذا الصرح ان اكون قوية وان اتحدى الصعاب واننا بكوني ابنة “شميدت” فلن يكون لاحد ان يتميز بما احمله من ميزات زودتني بها المدرسة اكاديميا وثقافيا وتربويا. ذلك الشعور بالولاء كان يضعني بحالة ارق دائم. هذه الثورة بداخلي لم تتكون من فراغ . تكونت هناك في كل مرة كنت اتساءل واختبر واحاول ان افهم .

الا انني في مرحلة ما ، شعرت بنقمة مرافقة لحالة الثورة المتصاعدة بداخلي. فالمدرسة بكل ما فيها شكلت بداخلنا لربما حصنا متينا كان من سيئاته اننا نشأنا في حالة عزلة عن المجتمع الحقيقي.

لقد تربينا على اخلاق وتصرفات وعادات وادبيات لا تشبه بالضرورة ما هو موجود بالفعل بالمجتمع الخارجي المحيط. هذه الحالة من العزلة ادخلتني بحالة غضب لسنوات . هذا الشعور بالاغتراب . وكأنني في واد والمجتمع من حولي بواد.

الا انني وفي كل مرة امر فيها من ذلك المكان . في كل مرة يذكر فيها اسم المدرسة . في كل مرة اصادف خريجة سابقة او طالبة لم تتجاوز العقدين من عمرها . في كل مرة انظر الى بناتي كطالبات. اسمعهن يتكلمن عن حياة المدرسة . في كل مرة تمر احدى بنات صفي من اروقة ذاكرتي ، يعود بي شريط كامل الى زمن لا يزال حاضر وبقوة بداخلي يمنحني شعور بالانتماء والقوة والاحقية ، واشعر بنفسي صارخة : “انا ابنة هذا المكان . هذه المدينة لي.”

فأشعر بكل تلك المشاعر التي رافقتني بغضب وتمرد تذوب امامي وتتحول برفق الى مشاعر امتنان وولاء شديد لكل لحظة فائتة في تلك السنوات .

شعور يختلف عن كل شعور بما يصاحب الطفولة . شعور يرتبط وبطريقة غريبة وبعمق كأنه محفور بكياني وذاكرتي بالمكان . فتبدأ سلسلة الذكريات الممتدة من بداية شارع نابلس ، زحام الصباح ، ابناء مدرسة المطران ، اصوات النداء على الباصات ، قفزنا سريعا من السيارة للحاق بالحصة الاولى قبل دق الجرس الذي كثيرا ما صاحبه في حالتي قضاء الساعة الاولى  خلف قضبان التدفئة المركزية المتاخم لحائط الادارة بعقاب كان يمتزج بين الاذلال والمتعة . تلك القوانين الصارمة ، من اسفل القدمين الى قبة قميص المدرسة. لون الحذاء والجراب وطوله . طول المريول وابراز شارة المدرسة وطريقة ضبط الشعر . ويا ويل من لم تقف بالصف باعتدال او كان هناك صف من لون غير الابيض على جرابها . تلك القصص المريبة لفتيات كن اكبر منا تم اقتناصهن من “مس انجيل ” ساعات الخروج من المدرسة وضبطهن بشعر مفلوت او محاولات لوضع المكياج . تلك المصائب التي كنا نقترفها عندما كنا نتسرب نحو حواف السور لننادي على “حنا وا باسل فريج” ليسربوا لنا السندويشات . كل تلك الانظمة والتعليمات الصارمة . لن انسى ذلك اليوم التي ضبطتني به مس انجيل وانا اكتب فيه على اللوح بالصف بعد الدوام  اثناء دوريات ضبطها وتشييكها على الامور . ضربتني يومها على مؤخرتي واذكر انني بولت على نفسي من شدة الخوف.

في كل مرة كنا نخطيء بترديد كلمة بالالمانية كانت تقوم فيها “الاخب اوتا” بضربنا بحافة الممحاة الخشبية. تلك كانت اهون العقابات . “الاخت جلوغدوندس” التي كانت تحمل العصاة الخشبية وقصص ترهيبها كانت مزيج من الخيال والسخريات .

ومع هذا كنا كلنا متوحدات في نشيد يطربنا يقوم الاستاذ “جورج حرب” بترديده امامنا وكأنه رئيس جوقة يصاحبه “السير فاهيه” بالاوكورديون حول ساحة المدرسة الممتدة مرددين جميعا : “يا فتاة شميدت سيري….في ركاب العلم نورا ….. وعلى الدرب اثيري ….يا فتاة اليوم حربا”

كبرنا وهذه الكلمات تشكل هويتنا . كبرنا وانتماءا ما ، مسؤولية كبيرة على عاتقنا تجاه الوطن تشكل مفاهيم الوطنية وحب الوطن والانتماء له تسطر حياتنا .

حبنا لبعض واهتمامنا . تمردنا وشعورنا بالظلم احيانا وتظلمنا احيانا كثيرة . كنا نشعر بعنصرية ما تمارس علينا ، او اضطهاد ربما . الا اننا خرجنا الى العالم بحب لبعضنا وتفهم لاختلافاتنا يشكل ما يترك المجتمع المقدسي تحديدا مترابطا اليوم . بطريقة ما ، كلنا تمسكنا بديننا ، وكلنا بطريقة سحرية ما ،احترمنا ما يحمله كل دين وتفهمناه واحتضنناه .

هناك مكان ما ، يتوسطه هذا الصرح في قلب القدس واعتمد بفخر واصرار ان يخرج منه منارات لهذه المدينة تضيء فيه ظلمات الوطن بين متاهات شوهها الجهل والطمع والفساد ، وطرقات حجزها وحجبها الاحتلال .

بتمردي وغضبي ومقاومتي لكل ما لم احب في تلك المدرسة ، الا ان كل لحظة منها ، بكل معلمة ، بكل موقف احببته ولم احبه .كبرت لاكون انسانه افضل . بتلك اللحظات اللا منتهية مع زميلاتي، صديقاتي ، بكل من له علاقة بهذه المدرسة ..هناك حبل رصين متين من التواصل والارتباط الممتد كأسوار المدرسة الحاضنة لما يخرج من المكان وما يقابل المدينة من سور وبوابة عريقة . ذلك الالتقاء الممتد بين شارع نابلس وباب العامود (دمشق) ، وكأن هذا الصرح كتلك المسميات التي اصبحت من عبق التاريخ لا يفهمها الا من عاصر ذلك المكان وكان لسنوات ممتدة ليصبح حفريات دائمة في ذاكرة الانسان منا … ليكون القدس على ما هي عليه من ايجابيات وشموخ بالرغم من كل التشوهات الحاصلة والواقعة.

 

 

 

 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading