تخطى إلى المحتوى

اسمي آدم-إلياس خوري وأولاد الغيتو -مقال ٧ ايام

 

IMG_5801هناك من الكتب ما يوقف الأنفاس. يوقف تدفق الزمن. تتوقف عنده حركة عقارب الساعة. تصبح الكلمات التالية من كل بداية جملة وفقرة وصفحة هي المحدد الوحيد لما سيكون عليه الزمن القادم.

صحيح أن هناك عوامل تؤثر على قراءتنا مع كل قرار بقراءة كتاب. تكون نفسية، اجتماعية، سياسية، وقد تكون كتابا سابقا وغيرها الكثير. إلا أن الكتاب. ذلك الذي يحبس الأنفاس هو فقط ذلك الكتاب الاستثنائي، الذي تكون قد وصلت إلى لحظة به، لا يهمك إن كان اخر كتاب تقرأه، ولا يهمك إن لم تنهه أبدا. كتاب يحفر بذاكرتك إلى الأبد، وتتوجها في حالتنا على عرش أفضل كتاب قرأته.

أولاد الغيتو للكاتب الكبير إلياس خوري هو أحد هذه الكتب.

على الاعتراف أولا ببعض الأمور. قد تكون مخجلة ومفاجئة. لم أقرأ قبلا لإلياس خوري. بعض رواياته من جملة الكتب التي احتفظ بها بمكتبتي، لقراءتها في زمن لن أجد فيه ما اقرأه (هناك بعض الكتب تحت هذا التصنيف في رأسي، كتب قيمة، مهمة بشهادة الجميع). إلا أن علاقتي بإلياس خوري ككاتب، محسوب على الادب الفلسطيني، تشبه علاقتي بمحمود درويش، وكذلك علاقتي بهامات أدبية كبيرة، ظلمتها بيني وبين نفسي لشعوري باستهلاكها من قبلنا نحن الجمهور العربي. لا أحب محمود درويش، الا انني عندما اقرأه “مضطرة” أكاد لا أفلت الكلمات وتصاحبني بلا مبالغة لأشهر تراودني كمراودة العشاق لكلام المحبوب. وهناك شق ما، أعرف أن كاتب أو أديب بهامة هؤلاء لا يحتاجني كقارئة، فلقد تم إنصافهم من قبل القراء سواء محبين أو منتقدين. باب الشمس كان ضحية لي، من حيث استهلاكه من قبل الناس، ولربما لأنني شاهدته فيلما.

مع بداية هذا العام، كان هناك كتابان يلحان على قراءتهما، ولم أكن على استعجال. أحدهما أولاد الغيتو. ومن أجل الصراحة أكثر، فلقد كانت محاولتي باقتناء الكتب أشبه بالمحاولة الهويسة. فأحيانا أشعر بأنني من أولئك المصابون بداء اقتناء الكتب لا قراءتها. فهناك على رفوف مكتبتي من الكتب ما قد أحتاج لعمر آخر لقراءتها. ففي كل مرة بطريقي للمكتبة من اجل كتاب بعينه، اخرج بما لا يقل عن خمسة كتب اخرى، بين ما يرشحه صاحب المكتبة، وبين ما تلتقطه عيناي، وبين ما تذكرت لتوي من عنوان كنت قد سمعت عنه.

الكتاب الجيد، هو ذلك الذي يستحوذ عليك من أول فقرة. لا يوجد مراوحة ولا مساومة في هذا. والجيد هنا، لا يعني أنه الأفضل بعيون الجميع، أو إن تركيبه من حيث توازن اللغة وتركيب المصطلحات والمعاني والحبكة والصياغة هي الافضل. إنه ما يفعله بك الكتاب من استحواذ على كيانك، بغض النظر عن الفحوى والتركيب.

وفي هذه الحالة، مهما اختلفت الآراء عن الكتاب لا يهم، فيكون الاختلاف نابعا من اختلاف الأذواق. وفي الحالات الكثيرة التي لا تخلو من حياتنا هي الحقد والغيرة. فلا يمكن الاختلاف على جودة عمل.

بعد ما يشبه بالمقدمة الطويلة هذه. أريد أن أقول بأن أولاد الغيتو استحوذ على كما استحوذ على النفري في المواقف والخطابات من قبل، وكما استحوذ علي محمد شكري بالخبز الحافي، وكما استحوذ علي يوسف زيدان بعزازيل، وكما استحوذ علي حسين البرغوثي بالضوء الأزرق، وكما استحوذ علي جان جينيه بأسير الحب وغسان كنفاني بعائد الى حيفا وماركيز بعشت لأروي. وليس مصادفة تذكري لهذه الاستحواذ بالتسمية تحديدا، فهناك ما ربطني وكل من تلك الكتب بأولاد الغيتو من الصفحة الأولى. أعترف أن بي هذا الهوس كقارئة. يصطف “عشاقي” من الكتاب امامي عندما أقرأ كتابا يستحوذ علي وأدخل واياهم في حوارات نقدية. ما اكتبه بهذه اللحظات من عبارات هو حالة استفزازية خلقتها الاربعون صفحة الأولى من الكتاب. بين تلك الاسئلة التي تحيطني من كل جانب. ما الذي يجري؟ من الكاتب ومن الراوي؟ أهي قصته هو ام قصة اخترعها؟ هل الاشخاص حقيقيون ام من نسيج خياله؟ وبين تلك العبقرية بالصياغة، هناك أدباء لا يمكن الا الانحناء وكلماتهم، أخذتني المقدمة وعلى فورها الى عزازيل والنبطي، إلى تلك المقدرة على صياغة الكلام بحرفية الأديب. هناك مكان ما لا يمكن وصفه بأقل من العبقرية عند صياغة العبارات. تأخذك المتعة إلى الكلمة نفسها. تستحوذك العبارة، تفكر فيها، تتأمل في المعاني، كتلك التي تحملك بها عبارات النفري. وتنسى أو تتناسى. توقف زمن القراءة والزمن المحيط بك وتسبح مع الكلمات في فضاء المعاني. ليس معاني الكلمات بل معاني الحياة نفسها.

لم يشكل كتاب أولاد الغيتو تحديدا، كل هذه الأهمية عندي. أهمية تضاهي كل ما قرأت من روايات؟ الجواب بكل بساطة بسيط، لأن إلياس خوري يشكل علامة مهمة لي كفلسطينية في هذا الزمن. نحن نعيش في زمن التشويه. تشويه تاريخنا كأمة، وكقضية، وكوطن. في يوم ما، لا بد سيأتي جيل يبحث عن الحقيقة. جيل يحتاج أن يفهم. جيل يحتاج أن يبحث عن الحقيقة، وبكل أسف سيتوه في متاهات الواقع الذي لا أعرف كيف سكون مآله بعد جيل أو جيلين. وبين أدب تم زج الكثير فيه، سيكون من الصعب فهم ما كنا عليه، فسيصبح صعب فهم إمكانيات مستقبل أفضل.

نعيش في زمن اختلفت فيه معايير الأدب والسياسة والثقافة والتربية. زمن اختلفت فيه حتى الحقائق. زمن نشهد كيف تباع وتشترى فيه الولاءات والمواقف. زمن نشهد فيه بيع الأرض والتنازل عنها. زمن لم تعد أبدا عبارة “الخيانة اصبحت وجهة نظر” غريبة أو مستحيلة. فكذلك الأدب والتعليم والثقافة. تلك الأمور التي طالما حاولنا الارتقاء بها ظل هناك أمل في ديمومتنا. في مصائرنا. في موتنا وفيما تبقى من حياتنا.

الحكاية الفلسطينية …. تلك التي تروى بصدق، بغض النظر عن الحقيقة المحيطة بها. الصدق به نجاة، حتى ولو كانت القصة المروية فيها ما لا يعجبنا. أو كانت ترجح كفة حقيقة لا نريد التعامل معها. الصدق ينجي حتى ولو اختلف الكاتب عنا في رؤيته. الصدق ينجي في وقت لن ينفع به الا الحقيقة. هكذا كتاب به حقيقة. حقيقة صادقة بغض النظر عن فحواها. فيها صدق كاتب مر عنه الكثير من التجارب والناس والقصص، وتقلبت بين اصابع يديه الالاف من الكتب والرقائق.

وصلنا اليوم كفلسطينيين إلى مكان لم يبق لنا فيه الا نحن. نحن البشر. بغض النظر عن انتماءاتنا ودياناتنا. ما تبقى من فلسطين هو انسانها. آدم …انتماءه وتراب هذا المكان.

 

7 أفكار بشأن “اسمي آدم-إلياس خوري وأولاد الغيتو -مقال ٧ ايام”

          اترك رد

          اكتشاف المزيد من نادية حرحش

          اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

          Continue reading