تخطى إلى المحتوى

الاقي زيك فين يا علي …الاقي زيك فين يا سهيلة

ليست مصادفة أن نجلس في مسرح في القدس لنشاهد مسرحية أو فيلماً يتكلّم عن حالنا الفلسطينية . فقصّة رائدة طه هي قصّة والدها الذي قام بعملية خطف طائرة من بلجيكا إلى مطار اللّد، كتلك التي قامت بها مجموعة ميونخ في نفس العام ١٩٧٢.
زوجات، أمّهات، أخوات، أبناء…في وقت يذهب الشهيد حقيقة وتبقى الحسرة مُستمرة إلى الأبد
زوجات، أمّهات، أخوات، أبناء…في وقت يذهب الشهيد حقيقة وتبقى الحسرة مُستمرة إلى الأبد
كم تتشابه وتتشابك قصص النضال الفلسطيني…
كم هو صعب أن يضعنا شخص أمام أنفسنا ويتعرّى أمامنا ويُعرّينا….
قد تكون قصة رائدة هي بالكثير من محاورها وتفاصيلها قصص عائلات الشهداء. إلا أن بها قصة امرأة تعدّت كل حواجز الخوف ووقفت أمامنا بعرض ٍميلودرامي من دون أي شكّ عبقري… قوّته بحقيقته أولاً وبلا تحفّظ الموهبة الواضحة والاستثنائية من البطلة.
فالوقوف على المسرح والحديث المُتواصل بهذا الفيض يتطلّب الكثير من المقدرات ولكن ما غلب،صدق الإحساس وحال البوح المُفرطة، لدرجة خجلنا نحن الجمهور الساكِن من جُرأتها أمام الخنوع الذي صار يُشكّل ماهيّتنا…
بدأت القصة بما جعل الأفواه تفتح في ذهول انتهت منه إلى مشهد تملأه الإثارة في عرضها لعلاقتها بياسر عرفات . إلا أن ذلك المشهد لم يغب عني حتى بعد انتهاء المسرحية.
لم أفهم لما اختارت حادث التعدّي الذي لم تسمه باسمه كمُقدّمة لحوارها. كم مرة يتم اغتصاب الإناث في حياتها وكم تتستّر هي على سفاحّها خوفاً من الفضيحة. كم مرة نخلق من قصص أضحيتنا تبريراً للآخرين حولنا…، وكم مرة يستمر الجاني مُتجنّياً مُستبيحاً بلا سؤال ولا عتاب أو مُساءلة…
لا أعرف إن كانت قد تحرّرت ببوحها بتلك اللحظة… فلقد كان هناك ما هو منقوص… إلا أن الجاني لابدّ ارتعب إن كان جالساً بين جمهورها. لابدّ من أن كل متعدٍ شعر بأنه هو المقصود…. وما أكثرهم…. يا ويلنا ما أكثرهم. وكم نتستّر نحن الضحايا عليهم، خوفاً منهم وتخوّفاً على مَن هم قريبون منا .
قد تكون بمقدّمتها هذه أرادت أن تُدخلنا إلى استباحة الرجل لعالم المرأة التي كانت بحالتها يتيمة. المرأة التي خلع سندها ولم يبق لها في هذه الدنيا راع، حتى ولو كان راعيها القائد الأعظم.
اليُتم…. ذلك الانكسار الذي لا يفهمه ولا يعي مدارك أوجاعه وحرقته إلا مَن عاشه. فلا أحد يعوّض مكان الأب أو الأم حتى ولو اجتمعت الأمّة على العناية بك.
لم تنته الاستباحة هناك… في محاولة قطف ثمار فتاة يتيمة تحوّلت إلى إمرأة يافعة. فالاستباحة بدأت منذ لحظة رحيل الشهيد بطوابير الرجال الكثر المُعزّين الأكفاء لكفكفة دموع الأرملة الحزينة… قصة تتردّد مع كل إمرأة وقفت بمفردها ولو للحظات، بطلاق أو بترمّل، حتى ولو كان الميت الشهيد البطل الحاضر إلى الأبد.
ترفع أعلام الشهادة ويسقط الحياء من المُلتفين الكُثُر كالضِباع… ما أقسى المنظر وَيَا لكثرة تكراره .
طبعاً، لم يغب علي بطل المسرحية عن المشهد القادم ، فهو الشهيد البطل. لربما يكفيه هذا المجد الأبدي. قد تكون وصيّة علي من إبداعات المشاهد التي يكفي أن تقرأها لتُعطينا بكلمات أبيها الشهيد درساً حقيقياً بمعنى الوطن والوطنية… كلمات تهزّ السامع، قاصياً كان أو دانياً… كلمات مؤلمة… مؤثّرة… نعيشها اليوم كما عاشها هو وقتها ..ولقد استفحلت فينا كثيراً……
“سنُحاسب كل مَن يتلاعب بقضيتنا”
“سنُبعد كل المُندسّين في ثورتنا ”
لربما يجب أن يكون العنوان ألاقي زيِّك فين يا سهيلة ؟هناك قوة بالنساء يبدو أنها تغيب عنا نحن النساء. محورنا يبقى الرجل البطل. فبهذه القصة رأيت ثلاثة أبطال: تلك الأرملة الصامته التي لم نعرف عنها الكثير. وكأن الفاجعة لم تخرج أبداً من حياتها. وهذه الطفلة التي تحوّلت إلى الفنانة التي كانت واقفة أمامنا لتخبر بكل جرأة معنى الشهادة التي تبقى وأصحابها على الأرض. المُعاناه حتى في أحسن أحوالها عندما تكون العائلة محظوظة كهذه العائلة التي وجدت مَن يحتضنها. وهناك سهيلة الأخت ( أخت الشهيد) التي تصرّفت فوق مستوى الرجولة والقيادات مجتمعة ولم تأبه. هذا الصمود، الإخلاص ،القوة، في الوصول إلى حبها المُخلص لأخيها، الذي ظلمته الحياة بخطفه بريعان عمره وظلَمَه الموت في عدم دفنه. وكأنها زجّت بيدها إلى عوالم مخفية لا تطولها يد البشر العاديين. أيزنهاور ، جولدا …. كلها أسماء لا تعني للإنسان البسيط مثلها أي شيء. كل ما كان يعنيها كيف ترقد جثة أخيها في ثلاّجات الاحتلال إلى مثواه الاخير. كيف يصل المرء إلى قوة لا يمكن كسرها عند إيمانه بحقّه… وما الذي فعله أخوها في نهاية الأمر؟ على حد تعبيرها: خطف حتّة طيّارة وراح هو ورفاقه يطلّعوا رفاقهم الأسرى”.
لم أستطع إلا أن أقف أمام هذه المرأة وكيف فعلت قبل ٤٤ سنة ما لم يستطع الرجال والقادة فعله ولا يستطيعون إلى هذه اللحظة من تاريخ القضية الفلسطينية. كم كان صعباً عليها أن تصل إلى هدفها وحدها، ولا تستطيع القيادة الفلسطينية بكل أطرها اليوم الاقتراب حتى من التجرّؤ على المطالَب بالحقوق كحق الموتى في دفنهم .
ولم أستطع إلا أن أتوقّف أمام الوضع الحالي، الجمهور في القدس.. بين ضحكات موجوعة ودموع كثيرة انهمرت من معظم الحضور، كيف بكى الحاضرون وبقسوة شعور تلك المرأة وكيف أعطتنا درساً من خلال عمّتها سهيلة بمعنى الهوية الفلسطينية الأصيلة. بمعنى أن تكوني مناضلة بلا كلاشنكوف ولا تحريض. كيف تكوني خبيرة مفاوضات ولم تفكِ حرفاً عن كلمة بحياتك. كيف يكون المرء مؤمناً مُخلصاً أمام قضيته. وكيف نتهاون نحن في مُعظمنا اليوم أمام أبسط قضايانا …
تلك المرأة ندرت ألا تتغطى صيفاً ولا شتاء حتى يخرج أخوها من ثلاّجات الاحتلال ليُدفن. في حين خاف الإخوة الذكور وعاشوا تحت مبدأ الحي أبقى من الميت.
كم يغيب عنا نحن المُتفرّجون لمآسي البشر ،ما يعيشه أولئك المنكوبون بفقدان حبيب أو عزيز. كيف يخفى عنا بعمى قد أصابنا ،الألم الذي لا ينتهي ، والقهر المُستمر ، والوجع المُفجِع إلى الأبد بحياة هؤلاء…. زوجات، أمّهات، أخوات، أبناء……. في وقت يذهب الشهيد حقيقة وتبقى الحسرة مُستمرة إلى الأبد

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading