أين سكاكين مطبخ تلك المدينة : قراءة في رواية لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة

حاولت ربط عنوان القصة الرائعة بمقاييس كثيرة لقاريء ،”لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة” , وفحواها . كنت أراني في كل مدخل لباب من أبواب القصة، متجهة الى مطبخ ذاك المنزل في ذاك المشهد المتقن الوصف لبيت حقيقي وبتفاصيل مغرقة بعالم شخصيات القصة وأماكنها ، فاتحة جارور خزانة مطبخ اتًوقع ان تكون فيه السكاكين المفترضة في المطابخ ، منتظرة هذا المقطع ، ليزيح الغموض عن العنوان بالنسبة لي . وعندما اخذنا الكاتب الى هناك ، وجدتني لم افهم العبارة ولا المقصود منها ولا سبب اختياره لها في ذلك الموقع تحديدا.
احتجت ان انتهي من القصة وأتركها ورائي لبعض الوقت ، خصوصا انها التهمت مخيلتي في اليومين التي قرأتها بها ، لاجدني لا أفارق السكاكين المختفية من مطابخ تلك المدينة . وقد تكون المفارقة في القصة وراويها ومدينتها حلب ، بين ذلك الوقت الذي تصفها احداث القصة وبين الوقت الحالي لحلب الشهباء . مدينة لم يعد بها بالضرورة من يبحث عن سكاكين مطبخ وسط دمار لم يعد الانسان يفرق بين ما تبقى من ركام كان لبيت في يوم لم يكن ببعيد عن كتابة ذلك النص.
لا اعرف لماذا ، ولكن بقي العنوان بسؤاله مستحوذا على تفكيري حتى بعد اكثر اسبوع على قراءتي للنص وانتهاي من قصة اخرى .
سكاكين مطبخ مدينة ، مقابل أشخاص يكونون ماهية دولة او مدينة . حلب تحديدا بدقة وصفها في هذه الرائعة ، حيث لا يمكن للقاريء الا المشي بأروقة الزمن المصاحب للوصف الجميل للاماكنً واشتمام رائحة ربيعها وشتائها .
إنسانية بكل معانيها الصعبة قد يكون الوصف الاكثر دقة لخبايا الكلمات من على السطور وفيما بينها .انسانية بكل ما تحملها من قسوة نحاول عدم التعامل معها ونتجنب مواجهتها في معظم الأحيان . الا انها حياة إنسانية بجدارة . في حالة مدينتنا هذه ، تغلقها بوليسية نظام واضطهاده . هذه هي رواية لا سكاكين في هذه المدينة في عبارة .
لم يكن مصادفة ان انتهي من القصة بشعور بالغضب والاسى قد تملكني. فاذا ما كان هذا حال حلب قبل ال ٢٠١١ ، فكيف عسى الكاتب ان يصور المشهد فيما بعد ؟ هناك عبثية في حال الانسان العربي الذي لا زلت لا افهم ان كان وضعه اختيارا بلا وعي ام محتم عليه ؟ ذاك الكم التراكمي من الجهل المستفحل في كل ما يخص الحياة من معاني ، يجعل النظام الاستبدادي تحصيل حاصل لتشكيل الوضع العام . وكأن الشعوب هذه بقيت على حال من “التعويم” ابقتها عائمة على وجهها ، ومن تملك بعض الفرص للتفكر بات هائما لا يدري وجهته .
بينما كنت اقلب الصفحات بين امعان واسترسال في اماكن كثيرة ، توقفت لافكر في اماكن اخري ، كم من المسؤولية نتحمل نحن كشعوب ما الم بنا من ويلات ؟ الم يكن النظام محصلة الشعوب ومخرجاتها ؟
في مشاهد متكررة ، يصف الكاتب ما بدا اختطاف مدينته الجميلة من قبل الريفيين ومن ثم العساكر لتتحول المدينة لاخرى بينما ظل الناس مكانهم . تحولت المدينة باناسها الجدد ، ولكن تجمدت تلك العائلو لا تراوح مكانها حتى اصبح كل ما يمسها تمسكه رطوبة المكان . الظروف الصعبة لحياة الانسان العادي متوسط الظروف باختلافها ، تبدو مستحيلة عند النظر اليها من خلال هذه الرواية . كما هي الحقيقة بطبيعة الحال . هذه الطبقة هي الاكثر تهميشا اذا ما تمعننا . فهي طبقة ليست معدمة ، فلا تستحق الشفقة . وليست غنية فتثبت وجودها .
في ظل ظروف كهذه تحديدا ، عندما نشهد ما اصبح من حلب قسمين لم يكونا برواية خالد خليفة . فالارجح ان شقه من المدينة كان ينتمي الى ما اصبح القسم الشرقي من حلب . ذلك الافقر والاكثر تهميشا . ذلك الذي نرى انقسام العالم عليه اليوم بين تشبت بنقمة على نظام استبدادي وبين محاولة التخلص من ذاك الفايروس المشبع بالارهاب تحت مسميات كثيرة كان اولها التخلص من الظلم والاستبداد.
في غربة يحملنا اليها الكاتب ويرجعنا الى رط،بة غرف البيت في المدينة ،تكمن معاناة معظم من حاول الهروب لجوءا لوطن حاضن او السعي نحو حرية والابتعاد عن الاستبداد او التفتيش عن فرصة عمل تؤهل لحياة اكرم . تبدو جدران المنزل بغرفه المعتمة التي التهمت نضارته الرطوبة تجسيدا لوطن ، قد يأويك ولكن يساوي تواجدك به العدم . عندما يصبح الموت مرادفا للحياة او انتظار بحماس ليخلص صاحبه من عبء وجود لا يحتمل . تخلو مطابخ المدن من سكاكينها . فلا حاجة لسكاكين بغياب اطعمة . ولا حاجة لسكاكين في محاولة للتخلص من الحياة بقطع وريد . ولا اعرف لم تخيلت هذا المغزى من العنوان في الوهلة الاولى. فكرة استخدام سكين المطبخ كوسيلة دفاع عن الحياة او التخلص منها . لانتهي بشعور با اولئك لم يكونوا ابدا على قيد الحياة . فهناك ما اخذ من ارواحهم بدء ليصبحوا مجرد اشباه بشر يقتاتون من الحياة . يحتاجون للعيش فيكون الموت محصلة طبيعية.
هناك في تلك المدينة …. لم يكن للحياة مكان . فلم يكن التخلص منها فكرة مرجوة او يطمح لها ….
حلب تلك التي خلت مطابخها من السكاكين ، هي حلب هذه التي نبكيها مدمرة ، بأهل قد يكونوا كاولئك ، يركضون من اجل حياة لا يعرفون الى اين تأخذهم . صراع من اجل حياة لا يدركون مآربها ، وسط الكثير من الدمار المحيط ،والجهل المسيطر على الفكر بين ايمان والحاد لمطلق لا يؤمن احد به في غياب سبل الحياة الكريمة.

اترك رد