الهوية والمكان في الأدب الفلسطيني
قراءة في كتابة سلمان ناطور (سفر على سفر) وعلاء حليحل (اورفوار عكا)
تناولت القراءة في رواية اورفوار عكا بنوع من البراجماتيكية، اذ كانت أحد النصوص المطلوبة من اجل ملتقى للقراءة، تم اختيارها وسفر على سفر لسلمان ناطور
القراءة كانت مخصصة لموضوع الهوية والمكان، وذلك من خلال وضع نصين لأديبين من عرب الداخل (فلسطينيي ٤٨)، أحدهما مسلم سني والآخر درزي الطائفة، والتي قد تبدو لأول وهلة مقصودة، وقد تكون. ولا يمكن قراءة النصين الا بإجحاف على أحدهما دون الاخر إذا ما قرأنا من خلال فكرة المكان والهوية.
وأجد التركيز على “درزية” سلمان ناطور اهمية هنا، لما يتعرض له الدروز من تعميم بكونهم أكثر أسرلة واندماجا في الكيان الصهيوني، وقد يكون سميح القاسم وفي حالتنا هنا سلمان ناطور علمين في الادب الفلسطيني ضمن اخرين كثر.
سلمان ناطور، يكتب عن الهوية والمكان في تذويت لا يمكن الا ان يضع القارئ مهما كان امام مرآة تعكس وبتجرّد مطلق خباياه. هناك انسانية مطلقة تتغلب عليها الرواية ويسقط امامها كل الشخوص وتتلاشى الاماكن كلها الا تلك التي يعيشها الناطور بداخله سواء كانت او زالت. وقد لا يكون اجحافا وضع الكتابين من ناحية اخرى، لان الاسلوب في الطرح والكتابة لكل من الكاتبين مختلف. بغض النظر عما يريده كل كاتب على حدا، فكتابة سلمان ناطور بسفر على سفر تتسم بالوجدانية، بغض النظر عن موضوع الكتابة. وعلاء حليحل بارفوار عكا يتناول الموضوع من خلال حبكة تاريخية مختلطة بالفانتازيا. لا تقترب من الوجدان لا من قريب ولا بعيد. الا في حالة الهذيان في المشاهد فيما بين الجزار ونابليون. كل الافراد فيها منفصلون، لا نشعر بالكاتب من خلال النص، ولا تنقل الينا مشاعر الشخصيات الا من خلال تأويل الكاتب لها. لذا لا تقترب من الوجدان في هذا المضمون.
اخترت ان اكتب عن اورفوار عكا بهذا المضمون لاقتراب الفكرة من بعضها، فكرة الانسان العربي الفلسطيني الذي تأسرل في فكره مهما حاول البقاء على فلسطينيته ولو بالشكل.
الرواية كانت من ضمن الروايات التي رشحها اصدقاء باعهم ثقيل في القراءة والنقد. وقد تكون مصادفة انهم كانوا كذلك من الداخل الفلسطيني (الإسرائيلي) ـ لا اعرف ما هي الصيغة الافضل لاستخدام المصطلح.
بدء، تناولتها وبنيتي انهاؤها من اجل الملتقى، ولا اعرف ان كنت سأنهيها لو لم تكن مقررة علي للمناقشة، قد كان حسنا انهاؤها. لم استطع للحقيقة تكوين فكرة بالبداية ولم اكن مأخوذة بها عند النهاية، ولكنني قرأتها بإمعان وبعض من المتعة، واعجبني على الدوام هذا الربط بين التاريخ والمكان و”فنتزته” (اي جعله خياليا) . في بعض الاماكن التوصيفية في الرواية كان هناك مشاهد عنيفة لدرجة لم استطع قراءتها، كان التوصيف مبالغا فيه، ذكرني بقراءة ثلاثية خمسون انعكاسا من السكني “ . وبلا شك، اختيار عكا كمان للرواية كان ناجحا ومهما، في وقت يتم تهويد هذه المدينة التي استعصت على نابليون، حتى فهمنا حقيقة هذا العصي من علاء حليحل.
اعترف انني في بعض المواقف اقرأ بتحيز. فمن يكتب ولمن يكتب وعن ماذا يكتب في السياق الفلسطيني لا يمكن اخذه من سياق واحد متفرد ومنعزل عن الواقع السياسي الفلسطيني.
وطبعا، لا اقول ان على الفلسطيني الكتابة في الشأن الفلسطيني والنكبة فقط، على العكس تماما، ولكن، ان حملنا على عاتقنا الكتابة ، فنحن نصبح جزءا من كتابة تاريخ المكان مهما حاولنا الانعزال او الابتعاد عن الشأن السياسي. حياتنا في هذا المكان كلها سياسية. وجودنا بالحقيقة، هو معقل السياسة ومن خلاله يتم محاولة تفكيكنا.
بلا شك، ان هذه المسؤولية تختلف في حملها، وقد يقرر البعض عدم الاكتراث لهذا ويقرر مجرد الكتابة. وباعتقادي بان هذا مستحيل، لأننا نكتب من وحي المكان الذي نعيش به . لا يمكننا التفكير ولا التخيل ولا الابداع بمعزل عن المكان. وهنا كان مأخذي …
نقطتان اساسيتان في اورفوار عكا، ساهمتا في ريبتي، الاولى كانت باللهجة المحكية التي تداخل بها التركي كثيرا، ذكرني بالعربية المختلطة بالعبرية اليوم. من البديهي ان تتداخل اللهجات بالعادة، ولكن هنا نجد الكاتب ساوى بين الاحتلال الاسرائيلي اليوم والحكم العثماني في حينه. وكأن سكان هذه المنطقة تتوالى عليهم الغزاة فيتأثرون بلغاتهم تباعا. وهنا، لا اريد الخوض في المسألة العثمانية والمجادلة فيما إذا كان العثمانيون غزاة ام هم جزء من الحكم الاسلامي الممتد بالمنطقة. ولكن بغض النظر عن كيفية النظر الى تلك الفترة، فلا يمكن موازاتها مع الاحتلال الاسرائيلي. فلو نظرنا الى العثمانيين على انهم غزاة، فلقد رحلوا شأنهم شأن نهايات الغزاة…إذا ما قررنا أنهم غزاة!!! مما يضعنا في فخ اخر، هل الحكم الاسلامي منذ عمر بن الخطاب كان حكم غزاة؟ هناك شرك وقع فيه الكاتب، سواء كان بوعي ام لا، او قد يكون بالفعل ما يؤمن به ، الا ان اللهجة المحكية هذه بصيغتها التركية ، قربت او لربما اقول شرعنة ما يحصل اليوم من عبرنه اللهجة العربية في الشارع الفلسطيني بالداخل . لن ادخل بالحقائق التاريخية بالرواية، ولكني حملتها على محمل الفانتازيا ورفضت ان اعيرها الثقل الكبير، لان هناك كذلك اسقاطات تاريخية قد تكون مجحفة بغض النظر عن وجود بعض الحقيقة فيها. ولكن الاسقاط الاكبر لي كان عند استخدام الكاتب للشخصية اليهودية بالكتاب، والتي كانت تبدو أكثر تهميشا حتى النصف الثاني من الرواية، عندما بدأنا بسماعها وتواجدها، بل أكثر صارت الشخصية المحورية التي انتهت بها الرواية. في اضفاء خطير باعتقادي، جعل من اليهودي وكأنه المخلص، لأنه الاكثر حرصا على وجوده ووجود ابناء ملته في هذا المكان.
وهنا يرجع بي التساؤل، لمن يكتب الكاتب؟ هل كان جمهور علاء حليحل الاوسع عند الكتابة هو القارئ الاسرائيلي؟
اعتقد ان حليحل قدم عملا اشبه بالملحمة التاريخية، ذكرني بكتابات جرجي زيدان لوهلة. الا انني وبقراءتي لجرجي زيدان، كنت دائمة الوعي وممسكة برسالة وجلية له بكتابته بالفانتازيا التاريخية، وهي تكريس مكان للمرأة ، وبالطبع محاولة قراءة التاريخ من جانب اخر ،ليس الجانب الذي تم الحاقه بنا من كتب اهل السنة .
جعلني حليحل أتساءل، هل أراد ان يوصلنا الى اصالة اليهود في هذا المكان. ليس فقط هذا، بل تمكنهم بالحكم واستنفاذهم منذ وقبل الجزار كما في حالة عكا، واستبسالهم في حماية ابناء جلدتهم مهما كلفهم الأمر؟
وان كانت شخصية “فرحي” اليهودي (والذي تكشف لنا هذا بالنهايات) هل غاب عن المشهد البطولي لحماية عكا ابناءها؟ وهل كان شأن المواطن العادي القادم الى المكان مع الزمن ليجد نفسه فيه مجرد “طاقة” ساكنة او سلبية لا تشكل الا رقما في الصراعات على المكان؟
وهنا يكمن الفرق بالكتابة بين الاثنين: الناطور وحليحل.
الناطور كان يحاكي نفسه بمحاكاته للآخر. ازال عن نفسه كل عقد الاحتلال بالرغم من وجوده المحتم، ورماه على الآخر. أيا كان ذاك الآخر. قال ما اراد قوله بمواجهة صارخة وجريئة مع النفس. فظهر ساخرا ومتهكما. قد يكون ظهر ساذجا، مسيسا كذلك. لكنه بكل الاحوال كان يكتب للإنسان بداخله اولا بصدق مطلق. أنسنته للحال العام بما يشمل ذلك المكان والزمان جعل من الاشخاص مجرد أسماء، وحفر المكان في ذاكرة النسيان لتبقى دائمة الحراك.
حليحل، قدم عملا ذكيا، راوغ فيه، امتع القارئ، استفزه ولفته في احيان كثيرة ، ولكن جمهوره كان مقررا بالمسبق . تلك المحاكاة الداخلية لهوية الانسان الفلسطيني تبقى المعضلة في الادب الفلسطيني …