تخطى إلى المحتوى

للمنهزمين تاريخ يجدد نفسه ـ انطونيو غالا والمخطوط القرمزي

للمنهزمين تاريخ يجدد نفسه

المخطوط القرمزي ـ انطونيو غالا

كم من المرات نمر بكتاب نتوقف امامه كثيرا حتى الهوس. وكم من المرات توقفنا هكذا كتب كالمرآة تعكس دواخلنا ؟ وكم من مرات يأتي كتاب ليقرأ لنا تاريخنا غير المكتوب بعد ، لنتعظ ربما؟

انطونيوا غالا في المخطوط القرمزي ، ام ابا عبد الله الصغير اخر ملوك الاندلس ، يحكي لنا في يومياته ما نحرثه اليوم من اجل حصاد قادم في تاريخنا .

اهي غرناطة وتاريخها العتيق في تشابهه والقدس ؟ هل يمكن ان يكون سقوط الاندلس هو نفسه سقوط فلسطين الذي لم نقر به بعد؟

كم من المرات قرأنا التاريخ من جانب واحد ، وكم من المرات تعلمناه؟ بل لم يكن الا مرات محددة وواضحة لتعلمنا التاريخ ، ذلك التاريخ المنقوص من الحقائق والمتوقف عند زمن رفضنا اجتيازه .

يوقفنا انطونيو غالا بملحمته الادبية هذه عند التاريخ المكتوب بلسان المنهزم لا المنتصر .

وككل مرة, ان الراوي مهما حظي من علو شأن او دنو ، لا يمكن الا ان يكسب تعاطف المتلقي ، حتى ولو كان القاريء يشهد على ارتكاب جريمة ، او التنازل عن وطن ،او اعلان الهزيمة من قبل المهزوم..كما في روايتنا هذه .

وكعادة الاعمال الادبية الرفيعة المستوى ، تتوه كقاريء بين الابداع في الحبكة بين حقيقتها وبين خيال الكاتب ، لتذوب بالنهاية مآرب الكتابة وتترك امامك كقاريء حرية القرار فيما بين الخيال والحقيقة .

وكما في كل قراءة كهذه اجد نفسي وقد التهمت الكتاب كمن يجلس على وليمة وقد تضور من الجوع . فانظر الى الكتاب ولا اكاد ادرك اوله من اخره ، تنتفخ الصفحات ووتمزق بعضها وتشت عن موقعها بعضها الاخر ، وتأخذني القراءة اضعاف ما تأخذني عادة في انهماكي بتدوين كل ما يوقفني درب عقلي اليه ، وفي هذه الحالة كان الكثير الكثير .

وهنا لا يمكن التوقف امام نص ادبي بلا التخيل او بالاحرى قراءة الواقع الذي نعيشه من خلال النصوص. كان ابو عبد الله الصغير محبا ومخلصا بطريقته ليكتب باخلاص وصدق سيرته تلك (علي حسب حبكة الكاتب) . حاسب نفسه ربما من خلال مراجعته الدائمة لنفسه من خلال مجريات احداثه . اعترف انه لم يكن مخيرا عندما صار سلطانا ، وفي لحظة صار هو صاحب القرار كانت المؤامرات كما كانت دائما لا تسعفه على اتخاذ اكثر من قرار الاستسلام . قرار الاستسلام عن غرناطة التي بها سقطت الاندلس . بسقوط غرناطة فرطت الرمانة الاندلسية بعد ثماني قرون من الحروب على تملكها .

لم استطع ولو حتى للحظات الا ان اتخيل الكاتب في شخص حاضر اليوم . لو قرر ابو مازن كتابة مذكراته ، هل سيكتبها كما كتبها ابو عبدالله ؟ والسؤال الاهم هو ، كتب ام لم يكتب ، هل هذا ما يحدث في دهاليز الانهزامات ؟

قد نقرأ التاريخ من وجهة نظر المهزوم ، وقد نحاول تفهم وجهته من الانهزامية وقد يبرر لنا الخيانات ومآرب القواد التي تبنى عليها المصالح ويدمر تحتها الشعب وتضيع الاوطان تحت شعارات القومية والدين،ويزيد المتنفذون نفوذا ويقسم الوطن كسجادة من الفسيفساء يتم خلع حباتها حبة حبة فتتشوه وتفقد كل شيء الا ما كان هيكلا يشكل حدودها وبعض الحبات التي لا تنفع ولا تقدم . او كما وصفه الكاتب

لا اعرف ان كان من يكتب يعي انه بكلامه يخلق جزء من تاريخ قادم لجيل غير موجود بعد سيعتمده واقع ويحلله ويؤوله ويحكم عليه . الا ان سلطاننا في هذه الحالة كتب بوعي لان من سيأتي لاحقا سيكتب ويقرأ باختلاف وحسب حاجته وغرضه .فيقول :

“لا يهمني ما سيكتب الذين سيكتبون عن هذه الاحداث التي نعيشها نحن . هم سيأتون بعدنا ،وبأيد نظيفة سيرسمون مربعا ومفهوما وحدودا لا خلاص منها بيننا . وسيحكون بجمل مدح او مرارة ـحسب الطرف ـكيف انهارت هذه الحدود . على الشعوب والاطفال ان تفهم كتب التاريخ :يجب ان تكون بسيطة جدا وتعلي من لصالحهم الاعلاء ، السيءهو الذي يخسر والطيب هو الذي يكسب . ثم ان من يربح هو من يحكي التاريخ”.

ولربما على حكامنا اليوم ان يتعظوا ويعرفوا انهم كما وصف ابو عبد الله وضعه ووضع من سبقه من سلاطين :

“تركونا نكذب على انفسنا ونحلم . لأننا كنا مؤقتين واي مالك جريء او اقل تفهما يستطيع ان يرمي باثاثنا في عرض الشارع . لقد تسلوا بنا كفاية ، اصطادوا وجروا كفاية ، وسئموا منا الصيد والجري، بدلوا نغمتهم . ربما كان هذا لا يرى الا من هذا الجانب هنا ، من هذا المنظور الذي يقدمه مرور القرون البطيء ، حتى ولو شوهد يوما بيوم كما اشاهده انا الان ، ما الذي يستطيع ان يفعله شعب الا ان يستمر منتصبا على قدميه،ويحاول الاستمرار منتصبا على قدميه ما استمرت حياته ؟”

وهنا ننظر الى تاريخ يقوم الصهيونيون بتزييفه ليصنعوا من الواقع حقائق لماضيهم الذي تاه منهم ، ونتركهم ليطبقوا علينا خطط الصليبيين تحت كذبة الحروب المقدسة التي احترفناها نحن كذلك ، وبدلا من التركيز على عدونا ، لا نزال نتمسك بقواعد المنهزمين القدماء بتاريخنا.

وكما فعل الاسبان بالمسلمين حينها ، يعيد التاريخ تكرار نفسه ولا من متعظ، فسياسات الاستعمار ابدا لم تنته ، فكان الانتصار دائما “بفرق تسد”.

كما يؤكد غالا مرة اخرى على لسان ابي عبد الله الصغير:

ف “سلاح زرع الشقاق كان السلاح الامضى ضدنا والاكثر اثمارا .فما ان يوضع بين ايدينا حتى نتكفل نحن انفسنا بأن ينزل فينا اكبر الاضرار. صحيح ايضا اننا نحن الاندلسيين لم نتقطع عن اسنتخدامه ضد النصارى الا عندما لم يعد لدينا امكانية لاستخدامه “.

وبنفس الطريقة نستمر في الشد الى حلفنا ولا تتغير التكتيكات الا بتغير الاسماء والازمنة ونقوم باستخدام نفس الاساليب. فيقول:

“وضع الايمان فوق الجيرة ،امن بالدين ، لكن دون تعصب، ما لم يكن التعصب لصالحه . لقد فهمه واستخدمه كشيء مناسب وعقلاني يطلب مساعدته عندما يتطلب الامر . لان الدين ، عندما لا يكون طقس حب داخلي ، يصير سرابا خادعا ، صيحة نجدة او صيحة حرب ، هكذا استخدم وهكذا سيبقى بالنسبة لكل السياسيين “.

فبالمحصلة ان التاريخ كما يقول الكاتب:

“مجموعة هائلة من الخيانات ، من الغدر ومن استغلال الثقة ، والكلمات التي لم توف ، ارتكبها جميع شخصياته وعانوا منها ، سلسلة رتيبة من الحروب المقطوعة بسلسلة من معاهدات الصلح وكلها غير حاسمة ،مثل جولات مباراة اتفق مسبقا على تأجيل نهايتها .ما الذي كان سيتعلمه اولادي من مثل هذه الشهادة ؟ لماذا وصف ميزات السلاطين الزائلين ومدة حكمهم التي لم تدم الا اياما قليلة ، او تاريخ اولئك الذين علا العفن منهم ،عادوا ليحكموا بعد خلعهم عن العرش مرتين واحيانا اربع مرات ؟”

ويضيف :

“أستخلص من المعلومات التي اديتها للتاريخ ان البطولة كانت دائما اقل مردودا من سلب القرى والمحاصيل وفدية الاسرى . ومن التجارة (التي بقيت دون ان تمس ، فمنها كان يستفيد العدو كما نحن ) لانه اذا كان ما يسميه العدو استعادة استمرار لا يكل لصراعات دينية ـ لا من جهتهم ولا من جهتنا ، فليحرم علي دخول الجنة . فالاوراق التي تثبت ذلك حرقت تماما. “

وختاما ، كما في هذا الزمن، يتحارب الفرقاء عندنا ، بين فتح وحماس ، كان ذلك الزمن مشابها ، ولكن الاندلس كانت عظيمة شاسعة لا تقتصر الفائدة بها على مضيق صار مركز النزاع بعد قرون.

لا اجد من ابلغ هذه المقطوعة الشعرية\النثرية (فأبا عبد الله الصغير كان شاعرا حقيقيا) لنقف عند نفس التساؤل اما مفترقات حياتنا التي لم يعد بها طرقات ، في ظل وضع لا يتحسن ، وامور تأخذ بالانهيار وكأن البدايات لم تأت الا لتشكل النهايات. فيصر التاريخ ان يعيد نفسه ويجسد امامنا الحقيقة المطلقة بلا شوائب عن حقيقتنا ، بأننا لا نتعظ ويستمر هو (التاريخ) بتشكيل نفسه ويمر عنا لعل وعسى يأتي من يتعظ يوما …

“ليس المطلوب ان يحدث شيء مختلف

فسلسلة الاحداث بلغت نهايتها .

بعدها سيظهر –من يقول :

انت من اضاع كل شيء .

لكن احدا لا يعرف ما اضعت وما لن اجهر به ابدا

فعندما يخسر المرء الكثير ،يسكت عليه

ويضيع معه الكلمة والحنين والحق بالشكوى

تضيع قامته ونوره ،امه وماؤه، تعطشه وبصره ، بل والحياة ايضا

فتتساوى عنده الاشياء

كنا شعبا عريقا وجديدا في ان معا

لكن ما نحن الان؟

لا شيء ، لا شيء : مجرد شاهد ، لا فرح عنده

ويتلاشى شيئا فشيئا

عبد لا يهزم ، لانه لا يقاوم

مجرد بضاعة معروضة للبيع بثمن بخس..

كنا شعبا يملك المعارف

ونحن الان شعب لا يتعلم

شعب لا عراقة عنده ولا جدة ،

شعب بائس

لن نبكي على موتانا ،لاننا عصيناهم

ولن نبكي على ابائنا ،اذ من هم؟

وداعا نقول لمن كناهم ، وداعا لمن لن نكونهم

والان وداعا ثم وداعا لموتانا الذين تمنوا ان نكون مثلهم “.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading