تخطى إلى المحتوى

يا ستي يا ختيارة…يا زينة كل الحارة

جدتي …..

 

يصادف هذا الشهر الذكرى الاربعين لوفاة جدي. كل هذه الذكريات التي احملها بين طيات عقلي وفي وجداني لهذا الرجل لا تتعدى الستة. كم كانت مفاجأة ، ادراكي لقصر السنوات التي قضاها جدي في حياتي. ومع هذا لم يفارقني. وفهمت لم لا تحمل ذكراه الكثير من المعاني بالنسبة لاخواتي ، فاذا ما كنت ابلغ من عمري الستة سنوات ، فكانت التالية من اخواتي ابنة الرابعة .

كان جدي ولا يزال يجسد معنى الرجل في ابهى صوره . الوقار، القوة، العطف والكثير من السطوة.تلك السطوة التي تربينا على اهميتها . تلك الاقرب الى ان تكون سطوة ربانية لا يقترب منها احد.

UNADJUSTEDNONRAW_thumb_d024UNADJUSTEDNONRAW_thumb_d01fUNADJUSTEDNONRAW_thumb_d2c8UNADJUSTEDNONRAW_thumb_d022

وبينما يذكرني والدي منذ اشهر باقتراب يوم وفاة والده ، والحاجة لكتابة رثاء ما في الذكرى الاربعين. كنت ابتسم بداخلي واقول ، ما الذي بقي من ذاكرة لرجل لم اعرفه الا ست سنوات من عمري البعيد ؟

وجدت نفسي طوعا امام جدتي ، تلك المرأة التي ترملت وكانت ربما في مثل عمري اليوم. الا انها كانت دائما كبيرة . لا اعرف كيف تتركب الشخصيات في عقولنا ، ولكن جدتي كانت دائما كبيرة . جدتي تشبه شجرة الزيتون العتيقة . منذ صغري وانا ارى في شجرة الزيتون تجسيدا لهذه المرأة. لم تكن اي شجرة. كان هناك شجرة في بيتنا على زاوية البستان التي كانت تعتني به وجعلت منه جنانا حقيقية . كنت اتأمل تلك الزيتونة واراها من خلالها . يدها تحمل الفأس تنبش التراب وتقص الاغصان . وتنادي علينا بأعلى صوتها لنساعدها ونهرب.

في هذه المناسبة ، قررت انه من الاجدى الكتابة عن الاحياء . لماذا ننتظر الموت لنكتشف اولئك القريبون منا ؟

وجدتي هذه الذي تحملت حياتها كما الزيتونة، تأقلمت ولم تكف عن العطاء بلا كلل . تحملت ولم يكن لسان حالها الا القوة والعنفوان .

لجدتي في ذاكرتي ما يفوق الاربعين عاما من الذكريات الحقيقية . عمر كامل كانت متواجدة به . ذكريات الملمها فتملأ خزائن ذاكرتي وتتبعثر في كل الارجاء.

تبدأ ذكرياتي مع جدتي منذ ايام ميلادي الاولى ، تلك التي كانت تدهن جسدي النحيل فيها بزيت الزيتون وتشدني بقماش ابيض لكي يشتد عودي. أقرأ لها اليوم كلماتي عن هذه الذكرى ، فتعيدها في كل مرة قائلة : ” كان سيدك ينادي علينا ويقولنا تعالوا خدوها قبل ما القطة تيجي تاكلها.”

لا يزال وقع اقدامها في الشارع من بيتنا بالرام على التلة الى الشارع الرئيسي يشكل هزة انيقة في الطريق . كعب عالي اسود وساقان ملفوفتان وقوام مشدود الى الاعلى . ماسك بيدي باحدى اليدين وشنطة سوداء محمولة بأناقة في اليد الاخرى ، ووشاح رأس يلتف بخفة على اطراف الشعر. كنا نذهب الى البلدة القديمة ، نمر ببيت العائلة القديم بباب حطة ، ،نقف عند بيت عائلتها المجاور . نتوقف للحديث مع الكثير من الناس بالطريق . ” هاي صاحبتي من ايام المدرسة” ، وتلك زوجة فلان ، وهذه جارة لا اعرف من . وهنا “عيادة الدكتور امين الخطيب جبناكي لما مرضتي مرة” . وقع اقدام جدتي بطريق الالام ، وبزقاق البلدة القديمة من باب حطة لحارة السعدية ولباحات الحرم ، سريعة متوازنة ويدي متلاحمة بيدها تتراكض خطواتي معها محاولة الا افقد توازن لم اكن افهم وجوده .

محفورة تلك الذكريات بوجداني ، تخرج الى متراقصة في كل مرة تطأ قدماي عتبات البلدة القديمة. اعود لاكون تلك الطفلة التي تمسك بيدها جدتها بذلك الكعب العالي الاسود اللميع (ربما).

كان مستوى قامتي يصل الى ساقيها . فتأملت ذلك الحذاء كثيرا ، كما تأملت ساقيها الطويلتين، ولا استطيع فهم حتى هذه اللحظة كيف كانت تمشي بهذه الخفة وذلك الحذاء بطرقات تبين لي عندما كبرت بأنها اقل ما يمكن وصفها بأنها صعبة،وعرة.

ايام الجمعة والصلاة بالحرم والجلوس مع النسوة بقبة الصخرة وتركي للصلاة مع النساء. طفلة تصلي مع جدتها المتفاخرة بها : ” هاي بنت عصام ” .

وفي البيت بين البيوت الكثيرة ذكريات كثيرة مع جدتي . الرام، اريحا، واد الجوز . في كل مكان لجدتي اثر لا يترك. وتراب يتحول الى جنان . لم تكن جدتي فلاحة ، ولكن يديها كغصن تلك الزيتونة تجعل من الحب المتراكم عليها زيتا ذهبيا.

زيت الزيتون الذي تشربه كل صباح كفنجان قهوة.ودخان سجائرها المتطاير من علبة “الفريد”.

حديقتنا كالمدرجات ، في الطابق العلوي كانت البطيخة واليقطينة والفقوس والخيار تتدلى حباتهم واوراقهم على الجدران وتمتد الى اطراف الحوض. بندورة ، كوسا ، فاصولياء ، نعنع . الازهار تتوسط باشكالها الاحواض المختلفة ، ورد بألوان شتى ، قرنفل، ياسمين، عبهرة، قرن الغزال، ومجنونة. شجرة التين، البرتقال، الليمون، التوت، والاسكي دنيا .

اعود بذاكرتي الى هناك وافكر ، كيف حولت بيتا عاديا الى جنة؟

كانت تعمل بيديها ، تحاول اغراءنا ببعض المزايا اذا ما ساعدناه بحفر الارض. الا اننا كنا نتسابق على اخذ مهمة الري، فكانت الاسهل والاكثر متعة.

جدتي الجبارة ، القوية ، لا تزال هكذا وقد تعدى عمرها التسعين .تركت “الفريد” وصارت سيجارتها المفضلة مرلبورو احمر. لا تتنازل عن سيجارتها وفنجان قهوتها كثير السكر.  انحنى ظهرها ولم تعد قدماها تحملاها كما كانت. انهزمت للزمن واستسلمت كثيرا لاحزان لم تكن لتتركها تسيطر عليها في وقت سابق من عمرها . فقدانها لابنتها بعد ايام من زفافها . دمعة فراقها لم تجف ابدا من عينيها . حزنها رسم تجاعيد على وجهها الجميل في اول عمرها ، وقاومته بقوة عجيبة. صارت الام والاب لرجال واطفال في لحظات . تحولت من زوجة مطيعة لرجل جبار ، لتصبح الام الحاكمة المرشدة، الحماة ، كبيرة العائلة. “الله يرحمه” تقول عن جدي : ” كان يرجع من مصر ويخليني اعمله كرشات “. اداعبها قائلة : ” لربما وجدنا عريس لكلينا ” . تحمر وجنتيها للحظات وترفسني بيدها قائلة : ” اول بختك، كرسي تحتك..”

ستي …. تلك الختيارة ، خفيفة الظل ، سليطة اللسان ، اجمل ما في هذه الدنيا من ذكريات ، تجعلها حاضرة باقية، معمرة كشجرة الزيتون. دعواتها مرهم، وحضورها تأكيد على الوجود.   

7 أفكار بشأن “يا ستي يا ختيارة…يا زينة كل الحارة”

    1. thank you .. this makes me want to write. or to be more specific, gives meaning to writing. and it makes me more eager to write in English . Honestly, I focused on Arabic because , also I realized that people are reading and this made all more meaningful. However, addressing my people, somehow is a more vulnerable issue , and I feel dragged into opening up with topics that were once really hard to address..)

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading