ظهرت الفلسطينية رائدة طه من رحم حلم بالعودة، فعاشت لاجئة ونازحة وكان لعودتها ما جعل من الحلم حقيقة جلبتها أوسلو معها (نقطة إيجابية قد تكون الوحيدة التي تمخضت عنها أوسلو…عودة تحققت للبعض اللاجئ).
ولكن الفنانة رائدة طه، وقفت وقفة مباغتة أمام جمهور الحضور الذي أخذ بالتزايد والتزاحم مرة تلو المرة منذ أبكت القلوب وعصرت الوجدان عندما قدمت أداء اسطوريا في مسرحيتها “الاقي زيك فين يا علي.” قوة عجيبة في الأداء بمقدرة مهولة. كم من الطاقة تباغت المكان وتخترق القلوب فتضحكها وتبكيها.
كان عظيما رؤية قوة امرأة واحدة، تؤدي بمفردها، تتفرد بالمسرح، تتكلم عن قصتها الشخصية، تشاركنا قصة بطل من أبطال النضال الفلسطيني، والدها علي طه، الذي اغتالته قوات الاحتلال بمطار اللد في بداية السبعينات مع رفاقه. ولكن بين بطولات الرجال وتمجيد لعلي، كانت البطلة الأساسية في عرض رائدة، عمتها سهيلة. تلك المرأة التي حاربت بصمت وبصوت مرتفع، بكل ما اوتيها من مقدرة ولا مقدرة. بكل ما فرض عليها المجتمع من قيود والاحتلال من حواجز، كانت البطلة الحقيقية في قصة يعيشها الفلسطينيون دائما، ما بعد الشهادة، أولئك الأبطال وراء الستار فيما خلفته البطولات من نياشين وصعوبات. إكرام بطل في أخذ جثمانه وإعطائه حقه الأخير بالدفن.
في مسرحيتها الجديدة، شارع عباس ٣٦، والتي تحاكي قصة الصحافية “النارية” نضال الرافع، في متابعة لقصة بيتها في حيفا، بين مالك للبيت صار لاجئا، وبين مالك جديد للبيت عاش على أنقاض الأشباح التي تحوم محاولة للرجوع الى ذلك البيت.
قصة تكررت في الذاكرة الفلسطينية، وقد تكون تعقيداتها أكثر تركيبا، عندما يكون المالك الجديد عربيا، يعرف ان لذلك البيت حكاي لا يريد لها ان تموت، بل العكس، يريدها ان تبقى حية، لان العودة ممكن ان تتحقق فقط إذا ما بقي احياء ما كان لتلك البيوت المنهوبة من ذكريات.
نضال الرافع، بحياتها اليومية، وبلا قصة معقدة كما هي قصة بيتها بحيفا، تكفي ان تكون موضوع الكثير من ايحاءات لعقول المبدعين. شخصية يمتزج فيها الاسم “نضال” والشكل ليشكلا طاقة من الاف الأرواح. نضال دائم يعيش الشخص وينفضه اليه الاسم مع كل ذكر.
في ترابط غريب بين الحكايات، “نضال” حملت الاسم الذي أطلقه عليها “علي” والد رائدة الذي كان رفيقا ل “علي” والد نضال.
بين العليين (٢ علي) كان هناك امرأتين أساسيتين قامت رائدة بمهارة تستحق التوقف امامها كثيرا، ليست أمها كما في عرض الاقي زيك مين يا علي في عرضها الأول، والتي كانت حاضرة بالعرض (أي جزء من نص المسرحية، كشخصية محورية)، ولم تكن نضال بطلة شارع عباس. في الحالة الأولى كانت العمة سهيلة التي كانت تجلس على المقاعد الامامية في العرض. وفي الحالة الثانية كانت “سارة” التي احتلت المقعد الامامي في العرض التالي. سارة والدة نضال، التي امتعتنا رائدة بمشاهد بصرية رائعة عنها، عن لكنتها المقدسية وعكسها لحالة الخوف الداخلي الذي يتجسد في جيل النكبة الذي اختار السكوت كمحقق للأمن امام البطش العسكري الأمني المرافق لحياة الفلسطيني في كل مكان.
“سارة” كان حضورها في حبكة هذه المسرحية بأبعاد كثيرة. بعد أساسي في حياتنا النبوية. في ذاكرتنا الجمعية الملآى بالمآسي الإنسانية…. قصص لجوء وهروب. قصص تشهد عليها البيوت وحجارتها، والقليل من الباقين الحاملين لذكرى تاريخ لا يموت بسارة في نسائه.
سارة المرأة الفلسطينية التي ناضلت قبل أن تنجب نضال، وعانت وذاقت مرارة ولوج الاحتلال، وأصرت ان للبيت الذي اشتراه زوجها من يهودي مهاجر له أصحاب لابد عائدون.
قصة تتكرر في الذاكرة الفلسطينية. في حبكة واقعية وبتصوير للمكان من خلال ابداع نقلت فيه الفنانة رائدة طه المشاهدين الى بيت “نضال” واصفة به كل البيوت الفلسطينية. بين جد وهزل، كان هناك ترسبات لقصة أكثر تعقيدا، تطلبت هكذا جرأة من بطلتنا على المسرح وبطلتنا صاحبة القصة.
مواجهة نضال وعائلتها لفكرة أصحاب البيت الأصليين، وبحثها عنهم وايجادهم، يمثل بكل جدارة إنسانية بها الكثير من الاستثنائية في هذا الزمن الصعب. هذا الزمن الذي نرى فيه تسريب العقارات كتسريب الغاز في الارجاء الفلسطينية، وصلنا فيه لما صار ممكنا فعلا ” الفلسطيني باع ارضه”… الفلسطيني يبيع ارضه!!!
الا ان نزاهة عائلة على الرافع متمثلة به وبزوجته وافراد عائلته تؤكد انه لا يزال هناك خيرا يرجى في الانسان الفلسطيني. من القدس الى حيفا في هذه القصة كمثال واحد.
أثارت المسرحية بمحتواها بعض القضايا التي علقت بالحلق كالشوك. كان أحدها موضوع اللجوء واستبداله بكلمة الهروب وصفا لمن ترك بيته في حرب ال ٤٨ وكأن الهروب كان خيارا متاحا. حتى لو هربوا، فالهروب شرعيا، لأن من هرب كان لديه نية العودة.
بدأت المسرحية بالنشيد الوطني الإسرائيلي، وبلا شك شاركني جميع الحضور بالغصة المصاحبة. الا ان هناك هزة ما حدثت، وكأن أحدا يمسكنا ويهزنا بشدة. صرنا في وقت صارت البلاد فيه تحقيقا للأمل الصهيوني.
في خاتمة عبقرية بكل المقاييس، كان النشيد الوطني الفلسطيني هو ما اسدلت الستارة به. في رسالة بالغة تؤكد للأبد ربما، أن حلم صهيون وامله سيقض الوجود الفلسطيني دائما آماله ويحبطها، حتى ول وفي عودة رمزية وليوم للاجئ، كما في قصة نضال وصاحب البيت فؤاد أبو غيدا. والعودة مهما طالت ستتحقق لطالما هناك “سارة” في فلسطين تنجب “نضال”. ولطالما في فلسطين “علي” يشتد لتكون فلسطين بوصلته، من الخليل او من دير الأسد.
ونبض لوجود من رائدة إلى نضال ……