صار من المستحيل تقريبا العتب في هذا الوطن على شيء. فلا أعرف كيف نتجرأ أصلا بلوم المجتمع البسيط الذي لم يحظ بفرص التعليم الكافي ولا التفوق العلمي الذي جعله يصبح طبيبا، على أي هفوة او مصيبة يرتكبها.
ننادي يوميا من اجل توعية مجتمعية على كافة الأصعدة، امام خطر القبلية الذي يهيمن على المشهد اليومي الفلسطيني.
نلقي باللوم على السلطة وعلى الناس، ونفكر ربما، ان المشكلة هي في قلة الوعي والإدراك الناجم عن محدودية المعرفة والتعليم.
ولكن، ان نصل الى يوم نرى فيه نقابة الأطباء، التي يشكل المنتسبين إليها صفوة العلم ومنقذي الأرواح والبشر، تتعامل وكأنها عشيرة بذاتها، ولا ترى قانون ولا تعترف الا بشرعية فتاواها العشائرية، فهذا بلا شك، يؤكد اننا انتهينا من مرحلة الانزلاق الى الحضيض وصرنا بلا منازع بعمق جحيم نستحقه.
طبعا، لم تعد مهنة الطب في ظل ما نراه ونعيشه من مصائب مترتبة على سوء النظام الصحي الفلسطيني، تلك المهنة العظيمة التي نعرفها. فالأخطاء الطبية تحصيل حاصل في أداء الأطباء، واحوال المستشفيات مأساوية، وثلاثة عقود من السلطة لم تنتج اختصاص او مشفى يحد من عدد التحويلات الطبية الى مشافي مختصة خارج حدود السلطة.
ومع هذا نغض الطرف، ونقول، الاعمار بيد الله، وقضاء الله أكبر، وشح إمكانيات السلطة من ضغوطات لسلطات الاحتلال تجعل من المرافق العامة بهذا الشكل المذرئ.
مرضى يدخلون للعلاج ويخرجون بعاهات واعاقات، ومرضى بانتظار معجزة الشفاء من أخطاء جسيمة،
طبيب يضرب مريضا، وطبيب اخر يقطع صديقه الممرض ويذوبه في الاسيد، وطبيب يتحرش بمريضة.
ربما كان من الحري بنا ان نتنبه الى ناقوس خطر قادم عندما اعترضت نقابة الأطباء على قانون الحماية والسلامة الطبية قبل أشهر ليست ببعيدة، بعد اثارة حادث الطفل امير زيدان الذي دخل الى المستشفى من اجل عملية بسيطة وخرج بإعاقة دائمة.
الحقيقة، ولأني لست من زمرة الاذكياء الذين يستطيعوا ان يصبحوا أطباء في هذا الوطن، لا أستطيع ان افهم، كيف يقبل طبيب ان يمارس مهنته بلا رادع قانوني يحميه من مغبة اخطائه. فالموضوع أكبر من مساءلة او تحميل مسؤولية. الموضوع يرتبط بحياة أناس استأمنت حياتها لهم ووضعت ارواحها بين أيديهم. اخلاقيات هذه المهنة هي أعظم ما فيها، لأنها ترتبط بمسؤولية حياة اخر. فكيف يمكن للمريض ان يأمن على حياته في منظومة صحية تراه اضحية طبيعية بين ايدي جزاريها؟
هذا ما يشعر به المرء عند التفكير بالنظام الصحي الفلسطيني بمستشفياته واطبائه. علاقة جزار بذبيحة.
لم نسمع تعليقا ولا اعتذارا ولا شجبا من قبل النقابة المبجلة عندما قتل الطبيب المنتسب لنقابتها جريمة لا يشبهها الا جريمة مقتل الخاشقجي ببشاعة الاجرام وانعدام الإنسانية.
قد تكون قضية الطبيب بالتحرش بمثابة الشعرة التي قسمت ظهر البعير، فبين دفاع مستميت من قبل النقابة عن الطبيب، وبين اخفاق القانون بإثبات الحقيقة، نقع جميعا في مطب يسهل وقوعنا في الجحيم.
يعني بالمحصلة، ماذا تعني قضية تحرش اخرى امام موت وقتل وضرب واعاقة؟ لو كنت طبيبا تعودت على التملص من عبء آثامي واخطائي لاعترضت طبعا وبشدة على محاسبتي من اجل “تحرش”.
وقد تكون التهمة مجحفة وكاذبة، فلا يمكن لنا البت في امر لم يبت فيه القانون. قد تكون المرأة المشتكية، كتلك النساء التي صدرت في حقهن فتوى خطيب القدس قبل أيام بتحريم الشكوى الى الشرطة الإسرائيلية، بالنهاية نحن نعيش في بلد لا يعترف للمرأة الا بتبعيتها المطلقة. فقد يهيأ لها انه تحرش بها، ولربما راودته عن نفسه، فحواء بالمحصلة رمت بالبشرية الى الأرض من الجنة!!
لنفترض ان النيابة العامة “تبلت” على الطبيب وتواطأت مع المدعية عليه. ولنفترض كذلك، انه وكما جاء بالتحليلات وببيان النقابة التفصيلي بأن الإجراءات التي حصلت بشأن إيقاف الطبيب المتهم غير قانونية.
لنفترض ان تلك المرأة وأخيها ورطوا الطبيب، ولنفترض انه لم يخدشها حتى بنظرة، وان الرجل المعتدي كان مجرد حاقد على الطبيب.
لنفترض كذلك ان نقابة الأطباء هي الحامي والواقي والمدافع في الخطوط الأولى عن اطبائها.
لان اطباءها من ينقذون الوطن والشعب ويسهرون على شفاء المرضى.
كيف لعاقل ان يفهم او يعقل او يفسر قرار النقابة بإعلان اضراب عام بسبب إيقاف الطبيب المتهم؟
اين اخلاق المهنة التي وظيفتها إنقاذ الإنسان؟
اين الإنسانية؟
هل نحن امام أطباء ام حرب شوارع؟
بأي حق تعطي النقابة نفسها شرعية إيقاف الخدمات الطبية ومن اجل ماذا؟
من اجل طبيب متهم بقضية تحرش؟
في بلاد العالم الطبيعي، تسقط حكومات بسبب هكذا قضايا. مؤسسات عالمية سقطت بسبب قضايا تحرش من اكسفام الى الاونروا. وفي بلادنا تدعوا نقابة الأطباء العاملين بالمستشفيات والعيادات بالإضراب لان النيابة أوقفت طبيبا متهما بالتحرش؟
ما الذي يجري في هذا البلد؟
كيف وصلنا الى هنا؟
إذا ما كان أصحاب الزي الأبيض الذي نرمز فيه الصفاء والنقاء والأمان بهذا التردي من قواعد اخلاقيات عمل الطب.
اضراب بسبب محاولة القانون اخذ مجراه؟
ما الذي تركته نقابة الأطباء للعوام من الشعب غير الأطباء؟
في نفس السياق، وبعد سماع تسجيل للطبيب المتهم، الذي يدعي عدم معرفته بسبب إطلاق النار عليه في عيادته، وهو بالتأكيد امر مرفوض، يستدعي ربما، استخدام الوسائل الأمنية لمنع دخول السلاح الى العيادات والمستشفيات، بما اننا أصبحنا بقدرة قادر شعب مسلح، يستخدم السلاح لقتل بعضه.
وبعد قراءة البيان الذي تقدمت به عائلة الفتاة التي تم التحرش بها، والاصل ان التهمة أكبر من تحرش- هتك عرض- يبدو من الغريب ان لا يعرف الطبيب سبب إطلاق النار عليه.
من ناحية، من حق الطبيب على النقابة ان تؤمن حمايته وتدافع عنه، ولكن لا يمكن استبعاد أصل القضية هنا، والذي يبدو انه ليس بجديد، ومحاولة المعتدي اخذ الحق باليد بعد ان تنصل النظام القانوني من مسؤولياته.
نشهد حالة تعيد تكرار نفسها من مرحلة يبدو اننا لن نتخلص من مغباتها، وهي فلتان أمني محتم. تصبح العشائرية والبلطجة هي العنوان الوحيد لحل المشاكل. فغياب الإجراءات القانونية وتأخرها عند تقدم اهل الفتاة للشكوى أدى الى حالة من الاحتقان لدى أهلها، وعليه تحول المتهم الى ضحية بعد الاعتداء عليه.
وإذا ما قررنا ان هناك خلل بين ادعاء الطبيب وعائلة الفتاة وتباطؤ القانون، فما قامت به النقابة هو الأسوأ، عندما تمسكت بضعف الإجراءات التقنية بأمر توقيف الطبيب كحجة لتعديها على القانون وضربه بعرض الحائط.
تبدأ المشكلة هنا وتنتهي بالنقابة، التي لم تأخذ الشكوى على محمل جديتها وحجم الضرر فيها على أصحابها، وبالتالي لم يأخذ القانون مجراه الطبيعي فيما يشبه تواطؤا طبيعيا بين المؤسسات الذكورية، فالموضوع في نهاية الامر مجرد “تحرش”، وتنتهي بالنقابة التي تتصدى للقانون من اجل حماية طبيب، قد تبرؤه القوانين لو لم تثبت ادانته، ولما اضطر اهل المشتكية لاخذ حقهم بأيديهم.
ولكننا نعيش بغاب ترى نقابة الأطباء نفسها الأسد فيها، فتقرر ان تعاقب الشعب جماعيا بحجب خدمات الأطباء عن المرضى.
لله درك يا وطن!!!