بين الطاعون والكورونا..تغيرت الاسماء والوباء واحد.ولكن تبقى العبرة هي الواجب

بين الطاعون الكورونا… تغيرت الأسماء والوباء واحد. ولكن تبقى العبرة هي الواجب.

 

رواية الطاعون للكاتب الفرنسي البير كامو التي صدرت لأول مرة سنة ١٩٤٧، تشكل تذكرة ربما لاستخلاص العبر. ما يبدو للقارىء خيالا متأججا لكاتب، ينتهي ليكون واقعا مريرا لحاضر نعيشه الآن بارتياب.

كان الطاعون المتجسد في رواية كامو قد اخذ حيزه في مدينة تدعى وهران (احدى مستعمرات الحكم الفرنسي في الجزائر). مدينة تشبه المدن الحديثة في حياتنا، ينشغل أهلها في العمل من اجل الاغتناء ويقضون ساعات طويلة بأعمالهم لينتهوا اخر اليوم في مقهى او مطعم. ولكن يلفت الكاتب الى ان الأكثر طرافة في مدينته هو “الصعوبة التي يمكن ان يلقاها الناس بأن يموتوا. وكلمة صعوبة ليست هي الكلمة الصالحة ولعل من الادق ان نتكلم عن انعدام الراحة…في وهران، فان قسوة المناخ، واهمية الاشغال، وتفاهة المناظر، وسرعة الشفق، ورمزية اللذائذ، كل ذلك يتطلب صحة جيدة. فالمريض يشعر فيها بالوحدة شعورا عميقا، فما بالك بشخص يشرف على الموت، بعد ان وقع في الشرك مئات الجدران الملتهبة عراة، وبينما ينهمك شعب بأكمله في المقاهي او على التلفون، يناقش في السندات وتذاكر الشحن والحسم؟ ان من اليسير إذا ذاك فهم ما قد يكون مزعجا في الموت حين يوافي صاحبه هكذا في مكان جاف، حتى ولو كان موتا عصريا.”

الكل منشغل في حياته الخاصة، ويؤكد الكاتب ان هذه الإشارات ليست للمبالغة، ولكن “هو ما في مظهر المدينة والحياة من تفاهة. ولكن ما ان يكتسب المرء عاداته حتى يقضي أيامه من غير صعوبة”، حتى تبدأ الجرذان في الظهور ميتة على الطرقات. تنبه الطبيب الى غرابة الامر وبعدها الى خطره. كان البواب اول الضحايا، وكان قد استهان وأنكر غرابة الامر. لتجتاح الجرذان الميتة كل مناحي الحياة، بداخل البيوت، على الدرج، بالأروقة، النفايات، الشوارع، السيارات. اوجاع، تعب، الام، موت وانتحار. تحقيقات وتقصيات وتداعيات للقلق وتساؤلات.

حمى والتهاب رئوي يخنق ويعكر التنفس.

تنقطع الصحف عن التحدث بحكايات الجرذان التي ملأتها قبل أيام، تصريحات مطمئنة بالسيطرة على اعداد الموتى من الالتهاب الرئوي الحاصل. “.. الجرذان كانت تموت في الشوارع، والناس في غرفهم. وان الصحف لا تهتم الا بالشارع. ولكن المحافظة والبلدية بدأتا تتساءلان. والواقع ان أحدا لم يفكر ان يتحرك، ما دام كل طبيب لم يقف الا على حادثتين او ثلاث. ولكن كان حسْب أحدهم ان يفكر بجمع الأرقام حتى ينذعر ويتنبه، ولم تكد بضعة أيام تمضي حتى تضاعف عدد الموتى، فبات واضحا للذين يهتمون بهذا الشر الغريب ان في الامر وباء حقيقيا.

يتنبه البعض ولكن لا يستطيع الكلام بغض النظر عن رهبة الوضع خصوصا لخبرة سابقة لحوادث في الصين وغيرها منذ عقود، ولكن لم يجرؤ أحد على تسميتها في ذلك الوقت. ان الرأي العام شيء مقدس، ولا ينبغي اثارة الاضطراب فيه.”

 

“الواقع ان البلايا هي شيء شائع، ولكنك تصدقها بصعوبة حين تسقط على رأسك. لقد عرف العالم من الطواعين ما عرف من الحروب. ومع ذلك فان الطواعين والحروب تفجأ الناس دائما.”

 

خرج بالأمس رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي مطمئنا من جهة ومعلنا من جهة أخرى عن تدابير صارمة جديدة. ربما احتراف كيان الاحتلال على الحروب والتعامل مع الأعداء يجعل الامر عاديا. فاستخدامه لكلمة عدو وحرب كانت تخرج باعتياد على لسانه، ليظن المرء ان المقصود هو عدوه اليومي وحربه عليه – الفلسطينييون- وعليه قد يفكر الإسرائيلي ان هذا العدو يمكن التحكم فيه وحصره وتدجينه اذا لم يتمكن من التخلص منه!

وقد تكون المفارقة بين اعلان رئيس وزراء كيان الاحتلال ورئيس وزراء السلطة الفلسطينية الذي اعلن عن حالة الطوارئ كاعلانات الحرب الكبيرة بجدية وحزم وتدابير واجبة. ولكن في الحالتين هناك ما يجتمع ويجمعنا به كامو في رواية الطاعون عندما يقول:

” ينبغي ان يُفهم ما كان مقسّما بين القلق والثقة. حين تنشب حرب ما يقول الناس: انها لن تدوم طويلا، فهذا امر مفرط بالسخف، ولا ريب في ان حربا ما هي امر مفرط في السخف ولكن ذلك لا يمنعها من ان تدوم. ان السخف يسلح دائما، وهذا شيء يسيرٌ ملاحظته إذا لم يفكر الانسان دائما في نفسه. وقد كان مواطنونا في هذا الصدد كجميع الناس: كانوا يفكرون في أنفسهم، وبعبارة أخرى كانوا انسانيين: انهم لم يكونوا يؤمنون بالبلايا. ان البلية غير حقيقية، انها حلم مزعج سيمر. ولكنه يمر دائما، ومن حلم مزعج الى حلم مزعج، يمر الناس أنفسهم، والانسانيون بالدرجة الأولى، لأنهم لم يتخذوا حيطتهم. ولم يكن مواطنونا اشد ذنبا من سواهم، فكل ما في الامر انهم كانوا ينسون ان يكونوا متواضعين، وكانوا يفكرون ان كل شيء ما برح ممكنا في نظرهم، وهذا ما يفرض ان البلايا كانت مستحيلة.

واذن فقد كانوا يتابعون أعمالهم التجارية، ويعدون الاسفار، وكانت لهم آراؤهم. وأنّى لهم ان يفكروا بالطاعون الذي يلغي المستقبل والتنقلات والمناقشات؟ لقد كانوا يعتقدون انهم احرار، ولن يكون أحد حرا ما دامت ثمة بلايا.”

من ناحية، هناك من يستمر بمحاولة جعل حياته طبيعية. يستمر بالتخطيط لمستقبل اوقفه فيروس الكورونا بلا أي افق. تصريحات حكومات مريبة ومستهترة. وقد يكون الرئيس الأمريكي هو المتفوق على الجميع بهذا الصدد، بين اعلان لحالات محددة ثم اعلان عن مئات الالاف من الحالات، ثم اعلان حالة طوارئ واغلاقات ومن ثم اعلان وجود علاج خلال ايام

تتعدد الأمثلة المصاحبة لما يجري معنا اليوم في ظل الكورونا الثقيل القاتم. بين أسئلة نراوح في سؤالها بين تأكيد لرعب محتم او مجرد عابر خاضع لنظريات مؤامرة ستتكشف.

حقيقة اكيدة ان هناك وباء متفشّي. والحاجة الاكيدة هي حصره حتى يتبين حجم ضرره وهوله. وبين عدم ثقة اصيلة بين الشعب والحكومة، وبين حصر المعلومات في قالب محدد، يزداد الوضع سوء. ويستمر من يمكنه التحايل على الوضع بالتحايل. فالشباب يعتبر نفسه محصنا من الفيروس، وطريقة حياة مليئة بالاستهتار والفردية، تجعل المرء يتنكر للحالة الجمعية. هي ذاتها الازمة التي سمحت للاحتلال التفرد بنا منذ ظن كل فرد نفسه محصنا وعائلته اذا ما تمكّن.

التأخر في اخذ التدابير اللازمة والشاملة يزيد من سوء الوضع. والاعتراف بالحقيقة سيصبح مفجعا في لحظة يتحول الوباء فيها الى قاتل متجول بين البيوت الامنة.

وبين حكومات تعودت على الكذب على شعوبها ، وشعوب تأقلمت مع هكذا قاعدة للحياة تزداد الازمة.

بالنهاية، لن يستمر هذا الوباء. هكذا علمنا التاريخ. ولكن اثره هو الدائم. وجل ما نحتاجه اليوم هو وعي وادراك حقيقي يرجعنا الى بساطتنا. بساطتنا تلك التي تشغلنا بالاخرين قبل ان ننشغل بأنفسنا. لان امن الآخر سيعني أمننا . فمهما كان المرء منا محصّنا، فلا يمكنه ان يضمن حصانة الاخر. لمسة واحدة تنتقل لتكون قاتلة ربما لاخرين كثر.

للحظة قد نفكر ان ما يجري بايطاليا بدروسه عادي. ان يصل الامر ان يتم اختيار من يمكن علاجه وفق جيل محدد، يبدو للوهلة الأولى منطقي، الى ان يبدأ المرء بالتفكير بان هذا المسن هو والد او والدة. جد او جدة …. فكرة ان يصبح الانسان جزء من قرار ترك انسان اخر للموت مفجعة بحد ذاتها.

فكرة انّ تحكُّم الانسان بحياته لا يمكن اعتباره شأنا خاصا. فالكل يصبح واحداً، والواحد يصبح كلّاً. نجاة الواحد تعني نجاة الكل على الأغلب. ولكن تعثّر الواحد يعني تعثّر الجميع بالتأكيد.

 

 

“كانت الكلمة التي ما فتئت تصدي بها الغرفة: الطاعون. ولم تكن تتلاءم مع هذه المدينة الصفراء والرمادية التي كانت تلك الساعة ناشطة باعتدال مدندنه أكثر منها صاخبة، سعيدة بالجمال، إذا كان من الممكن ان تجتمع السعادة والكآبة في وقت واحد. وان هدوء في مثل هذه السكينة واللامبالاة لينكر دون ما جهد تقريبا صور الوباء القديمة: أثينا مطعونة قد هجرها الطير، والمدن الصينية غاصة بالمحتضرين الصامتين، ومحكومي مرسيليا المؤبدين متراكمين بالحفر الأجساد التي تقطر دما، وبناء الجدار العظيم الذي نصب في البروفنس لوقف ريح الطاعون الغاضبة، يافا وشحاذيها الكريهين، والاسرة الرطبة العفنة الملتصقة بارض مستشفى القسطنطينية ، والمرضى المسحوبين بالكلاليب، وكرنفال الأطباء المقنعين في اثناء الطاعون الأسود، وجماع الاحياء في مقابر ميلانو، وعربات الأموات في لندن المذعورة، والليالي والأيام مملوءة دائما وفي كل مكان بصرخة البشر التي لا تنتهي. كلا ان هذا كله لم يكن بعد من القوة بحيث يقتل امن النهار.”

 

 

 

اترك رد