هناك ارتباط بين التعليم والمهن كمواضيع يؤدي احدها للاخر. فكلما زاد التعليم عند الناس ، كلما زادت فرص الوظائف وتطورت.ولم تكن الحالة الفلسطينية استثناء في هذا الصدد.عندما اصبح التعليم متاحا ولم يعد مقتصرا على فئة محددة من الطبقات الاجتماعية (الطبقة الغنية) ، ان الاحتياجات والمطالبات بالتغيير ، وبالتالي اصبح تعليم المرأج ومشاركتها في مختلف المهن ملاحظا. من المهم الا ننسى ان الحداثة التي بدأت في نهايات القرن التاسع عشر ،كانت تشكل ” التعزيف بظهور البتريكية النخبوية ، النخبج الحديثة من المحتمع الراقي ، والعائلات المتحررة.[1]من الممكن ربط الحداثة جزئيا برفض النساد للاكتفاء بالادوار المنزلية ، حيث ان التعليم ساعدهن في التغيير بادوارهم الجندرية . حيث اصبحت النساء وكيلات للتغيير في مجتمعاتهن .[2]
بعد إعلان دستور سنة ١٩٠٨، طرأ تغير كبير في المدارس وفي نظام التعليم. حيث، أصبحت عدد سنوات التعليم الإلزامي ما قبل الجامعة اثنا عشر. أسس المجتمع المزيد من المدارس. أدى هذا إلى حراك جديد نشط من التطور الثقافي الذي تضمن انتشار للمكتبات والمطابع والإعلام. بقيت الطباعة، رائدة في القدس منذ اقامة اول دار طباعة سنة ١٨٤٦ من خلال الاباء الفرنسيسكان والتي انتشرت سنة ١٩٠٨. دخلت وسائل الاعلام فلسطين سنة ١٨٧٦، عندما أنشأ العثمانيون الجريدة الرسمية “القدس الشريف” باللغة العربية والتركية. بالعام نفسه، أنشأ الشيخ علي الريماوي صحيفة “الازل” الشهرية باللغة العربية. وبين السنوات ١٩٠٨ و١٩١٧، تم اصدار حوالي ٣٠ صحيفة في مختلف المدن بما في ذلك القدس. مما ادى إلى انتاج ادبي وعلمي وديني جيد. هذا ادى إلى انفتاح بالمدينة، زاد من خلاله فرص العمل التي تم فتحها من قبل الحكومة للرجال وللنساء. ” اهتم البريطانيون بإنشاء هيئة من الموظفين الحكوميين القادرين على الادارة الفاعلة والكفؤة لتسيير مصالحهم السياسية والاستراتيجية الخاصة بهم في فلسطين. بينما الاستمرار في ابقاء الوضع الراهن الاجتماعي على ما هو عليه.”[3] الا ان زيادة مستوى التعليم عملت كمغير اجتماعي واقتصادي، ادى إلى تحدي محاولة البريطانيين في المحافظة على الوضع الراهن.
تتكلم عايدة النجار عن مدارس القدس في تلك الفترة، بتحليل ملفت عن كيف أثّر ذلك على تعليم الفتيات. على حسب نجار، ان ما ساهم في انشاء علامة لبزوغ فكرة “المستوى” في الهيكل الفلسطيني كان الوضع الاقتصادي الذي ادى إلى حرمان العائلات الفقيرة من ارسال ابنائهم إلى المدارس، خصوصا البنات منهم، وبزوغ اهتمام العائلات الغنية بتعليم ابنائهم.
ان ظهور المدارس الخاصة والتبشيرية سمح للبنات كما الاولاد بفرص تعليم أفضل، وفتح المجال امام التعليم بالخارج، والذي ادى إلى تزويد قسم من المجتمع بفرص عمل أفضل، مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذه المدارس علمت اللغات الاخرى إلى جانب اللغة العربية. في تلك الفترة اهملت الحكومة التركية تعليم اللغة العربية، وفرضت على الطلاب تعلم التركية. التنافس بين المدارس بدأ مع بدء القرن العشرين، حيث تنافست المدارس على تقديم خدمات أفضل وتعليم وتدعيم للغاتهم. من ضمن المدارس التي فتحت للبنات كانت، شميدت للألمان، السليزيان للإيطاليين، سانت جوزف للفرنسيين. ثم انشئت مدرسة الفرندز فيما بعد برام الله، حيث درست بها العديد من رياديات تلك الحقبة مثل، عصام عبد الهادي، سيرين حسيني وغيرهن. توسع التنافس على المدارس ليشمل المجلس الاسلامي الذي اسس المدرسة الاسلامية للبنات في البلدة القديمة متاخما للمسجد الاقصى. اشتهرت في تلك الفترة الشيخة زهرة الصالح، التي كانت تعلم القرآن في زاوية ابو السعود في المسجد الاقصى. علمت الكثيرات من البنات، من ضمنهم نجاح ونعيمة الصالح اللتان علمتا فيما بعد بمدرسة روضة المعارف (تأسست سنة ١٨٩٦)، وكانت تحت ادارة والدهما. من المدارس العامة التي تأسست في القدس كانت كذلك مدرسة المأمونية الجديدة والمأمونية القديمة، ودار المعلمات.[4] اتاحة التعليم للمرأة فتح المجال كذلك الفرص امام دخول المرأة في حقل العمل في محاولة لتحسين دخل الأسر في الاماكن الاقل حظا وفرصا في المناطق الحضرية من الدولة، مما ادى إلى قدوم نساء للعمل بالقدس، نتيجة الفقر والبؤس الذي خلفته الحرب العالمية الاولى. هذا اعطى مظهرا نشطا للقدس وللنساء. بدأت النساء أنفسهن بتحدي التقاليد التي اقصتهم من الحياة العامة. سمح التعليم للنساء في الطبقتين العليا والمتوسطة بالقدس ان تتشارك في سوق العمل على الصعيدين التطوعي والوظيفي.
تقدم سيرين حسيني شهيد، توثيقا هاما وتأملا على التعليم لدى عائلات القدس من خلال تجربتها الخاصة. بلا أدني شك، ان الفرص وطريقة الحياة التي تصفها الحسيني كانت مقتصرة على الطبقة العليا في المجتمع، ولكن، كانت هذه الفرص من الواضح موجودة. ذهبت الحسيني إلى المدرسة الإسلامية للبنات حتى اغلاقها من قبل القواد البريطانية سنة ١٩٣٠. كانت هذه المؤسسة عباره عن مكان لتعليم الفتيات الفلسطينيات.
في شهادتها، تتكلم سيرين عن هند الحسيني التي كانت تكبرها ببضع سنوات.
شكل التحضر في البلاد زاد في طلب العمل خلال تلك الفترة، مع الفقر وخلع الاشجار التي تتطلب عملا خارج الحياة الريفية التي اعتمدت على الفلاحة. ادى هذا إلى انشاء جمعيات خيرية بالأساس تساعد على الاغاثة المباشرة والضرورية. من جهة، الضغط المترتب على الحرب اجبر النساء في الطبقة الدنيا للبحث عن عمل، ومن جهة ثانية، تلك النساء من الطبقة العليا كن بدأن بتشكيل قيادات من خلال الاعمال الخيرية والاغاثية. تذكر فليشمان في كتابها، شهادات سيدة من القدس ” والد سائدة جار الله، قاضي بارز في المحاكم الاسلامية، كان تقدميا على نحو غير عادي بالنسبة لتعليم بناته السبعة. اعترف ان منحهم الفرصة لكسب معيشتهم، سيقلل من ضعفهم وحاجتهم. سائدة جار الله كانت المسلمة الاولى في القدس التي تسافر لوحدها من اجل اكمال دراستها ببريطانيا سنة ١٩٣٨.[5]
مثال آخر نراه في مذكرات عنبرة الخالدي في وصفها لتشجيع والدها لها بالتعلم، والسماح لها فيما بعد ان تشارك بالعمل وتنجز بتعليمها.
تجربة فدوى طوقان، بسنوات تالية كانت أقسى. فلقد قدمت شهادة بمذكراتها تصف فيها مجتمعا أكثر تقليديا. تم اقصاؤها كونها بنتا ولم يسمح لها بالتعليم. لقد كان انتباه اخيها الشاعر المعروف ابراهيم طوقان بسنوات لاحقة لموهبتها ، مساعدتها بالخروج من العزلة وسمح لها بالكتابة.
نمرة طنوس شكلت مثالا اخر. اشتهرت كموظفة بدالة اتصالات بين الجيوش العربية سنة ١٩٤٨. جاءت إلى القدس من قرية في الشمال الفلسطيني مع والدتها واختها، لكي تتمكن الاثنتين من التعلم والعمل للحكومة.
أصبحت نمرة فيما بعد مساهما أساسيا في المقاومة الفلسطينية في الأربعينات عندما ساعدت عبد القادر الحسيني في التأكد من المكالمات الداخلة لجهاز البريد. أصبحت الوسيط الدولي للكونت بيرنادوت الذي اغتيل على يد الصهاينة سنة ١٩٤٨. عملت كمتطوعة لدى الجيش الأردني، ولبست الزي العسكري.[vi]
امرأة اخرى كانت ناهد عبده الساجدي، والتي جاءت من نابلس لتتعلم في المدرسة الثانوية الحكومية ” كلية تدريب البنات” في القدس.[vii]
في مرحلة أخرى من الانتداب البريطاني، أثبت تعليم النساء مساهماته على صعيد مختلف، والذي نتج عنه حراك سياسي مهم. بلا أدنى شك، أن تعليم النساء كان موضوع تناقضات كما كان موضوع تحرير مؤثر على المجتمع الفلسطيني. إن دور المرأة ووضعها ساهم في تحفيز أحاديث حيوية ونقاشات في الصحافة على سبيل المثال. ساهمت النساء في مقالات، وكانت النساء أنفسهن مكان نقاش، كما مواضيع المقالات، نقاش عن الحجاب والحقوق كان أحد الأمثلة.[viii] باختصار، ان الناس تدبرت في ذلك الوقت ان تعمل، تذهب للمدارس، وان تعيش. هذا بالإضافة إلى التغييرات الاقتصادية والاجتماعية زود الفلسطينيون بفترة استطاعت المرأة العربية الفلسطينية ان تتطور وتنمو نحو ادوار اوسع. تذكر عايدة النجار في كتابها القدس والبنت الشلبية نساء ساهمن في ادوار مختلفة في المجتمع.[ix]
من ضمن النساء اللاتي نشطت بالقدس بالثلاثينات كانت كاثي أنطونيوس، زوجة الكاتب اللبناني أنطونيوس وابنة الصحفي فارس نمر، صاحب جريدة المقطم المصرية.[x] كانت كاثي ضمن النساء اللاتي شاركت في مؤتمر القاهرة سنة ١٩٣٨. وكانت إحدى اعضاء الحركة النسائية الفلسطينية.
بالتعليم، يبدو ان المجتمع الفلسطيني ورث نفس الرغبة بتعليم الاجيال القادمة. نرى جبرا ابراهيم جبرا في سيرته الذاتية “البئر الاولى ” يعبر عن شغفه وشغف جيله بالتعليم. ولد جبرا لعائلة فقيرة، واستطاع ان يحصل على منحة للتعلم ببريطانيا وعمل فيما بعد معلما في القدس ثم انتقل للعيش بالعراق. على الرغم من انه كان أسهل للطبقة العالية بالمجتمع التعليم وارسال ابنائهم للخارج، الا ان التعليم لم يكن محصورة على فئة معينة بالمجتمع. خليل السكاكيني الذي كتب كثيرا بمذكراته عن التحديات والصعوبات بوضع التعليم ودوره كمعلم. الا ان التعليم يبقى تحديا دائما يتخطاه الفلسطينيين في كل المراحل.
هذا أثر على وضع المرآة بالوصول إلى التعليم. هناك جيل من النساء المتعلمات فسحت المجال لأجيال قادمة من المتعلمات. التدريس كانت مهنة استمرت بالحفاظ على قبول الاناث فيها كمعلمات. انشاء المدارس التبشيرية ادى لإنشاء مدارس اخرى من قبل الحكومة لخلق توازن وتحقيق الطلب، ومن ضمنها كانت دار المعلمات التي انشئت سنه ١٩١٩.[xi]
يبقى الطب كمهنة من أكثر التخصصات التي تطمح لها العائلة الفلسطينية، العائلات تريد طبيا بداخلها. هاجسا يبدو انه تكون في العقلية الفلسطينية منذ بدايات القرن العشرين.
احتلت النساء مهنة القبالة، والتي كانت ضمن عادات المجتمعات في العقود السابقة، كان بالقدس عشر قابلات توزعن في انحاء الاحياء بداخل وخارج البلدة القديمة، في العقود الاولى من القرن العشرين. كانت النساء كذلك حاضره في الطب. حقيقة تجعل من الموضوع رياديا، لان الطب لم يكن متاحا بكثره كذلك.[xii]
من ضمن المهن الاخرى التي ساهمت بها المرأة كان الاذاعة. حيث شاركت النساء في برامج إذاعية في الثلاثينيات والاربعينات. فاطمة موسى البديري كانت مذيعة اخبار معروفة. عملت مع عصام حماد الذي أصبح فيما بعد زوجها. بعد النكبة، عملت مع زوجها راديو الام بدمشق. بقي اسمها مصاحبا لترديد “هنا القدس” لأجيال كثيره تالية. شاركت البديري كذلك ببرامج نسائية وبرامج اطفال في مواضيع ادبية متصلة، برز ايضا اسم سلوى خماش، نزهة خالدي وسميحة سماره. عرفت هنرييت سكسك ببرامج الآنسة سعاد. وكانت سكسك مقدمة برامج وكاتبة ومقدمة برامج تعليمية.
بالإضافة إلى هذا، اصبحت الجمعيات النسائية نشيطة بمسائل العناية بالطفل والام. حيث قدمت خدمات رعاية مجانية. وساهمت الجرائد اليومية بنشر مقالات شجعت تعليم المرأة وامور العناية الصحية، مثل صحيفة الدفاع والكرمل.
من المهن المميزة كانت هناك المصورة الفلسطينية كريمة عبود التي ولدت بالناصرة وعاشت ببيت لحم. كان لها ستوديو في القدس وكانت شهيرة جدا.[xiii]
[1] Abu Lughod: Chapter 2 : ‘Aisha Taymur’s Tears and the Critique of the Modernist and the Feminist Discourses on Nineteenth-Century Egypt. Mervat Hatem. p. 74
[2] المرجع السابق
[3] Fleischmann Ellen. Pg 12
[4] على الرغم من عدم التركيز على تعليم الإناث بالقرى، الا ان عريفة النجار قامت بتأسيس مدرسة “بنات لفتا للبنات” في أواسط الاربعينات. عريفة تلقت تعليمها بمدرسة السليزيان الايطالية في القدس في وقت سابق. أصبحت أختها رفقة النجار التي تعلمت بمدرسة الشميدت مديرة مدرسة الزرقاء بالأردن مباشرة بعد النكبة.المرجع السابق. 145-147.
[5] المرجع السابق.
[vi] Ayda Najjar. Al Quds wal Bint al Shalabiya. Amman: Al shurouk. Third ed. 2013. Pg 41-42.
[vii] Ayda Najjar. Al Quds wal Bint al Shalabiya. Amman: Al shurouk. Third ed. 2013. Pg 41-42.
[viii] Fleischmann pg 17
[ix] Among other names are Najla Nassār a graduate from Schmidt’s Girls College. Mary Anton ‘Attalla was a woman who worked in tourism business in Jerusalem and received masters in social studies from Harvard University in the thirties. Among such women, was also Sultana Halaby (1901-1985), who also received a university degree in business from the United States of America in 1934 and established one of the first commercial libraries in Jerusalem, which included the “artistic section” who Mary Attalla contributed to?
[x] اقامت كاثي في قصر المفتي (منزل الاحاج أمين الحسيني) بعد وفاة زوجها سنة ١٩٤٢. كان قصر المفتي يعتبر مكانا للتلاقي الثقافي بين الدبلوماسيين والصحافيين لعدة سنوات. كانت عائلة انطونيوس قد استأجرت القصر من قبل المفتي الذي كان قريبا من العائلة.
[xi] عدد الطالبات في السنوات (١٩٢٤ـ١٩٢٥) كان ٥٤، ووصل الى ١٥٤ في السنوات (١٩٤٥ـ١٩٤٦). وصل عدد الخريجات الى ٣٠٠ لغاية النكبة. من ضمن المعلمات كانت: سائدة جارالله، جوهرة قمر، يسرى صلاح، عدوية العلمي، ايستر خوري. من ضمن الخريجات كانت: صبا فاهوم، يسرى بربري عصام حسيني عبلة ناصر، رينه مطر، لواحظ عبد الهادي، نهى ملحس، عايشه تيجاني، والتي أصبحت فيما بعد مذيعة بالإذاعة بعد النكبة.
عمل بمدرسة المأمونية عددا من المعلمات منهن: عايدة الخضرا، ليلى خالدي صبيحة وكاميران المصري، ندية الرصاص، نعمة الصالح باسمة فارس، علية نسيبة، زكية بديري، عطاف حماد، امل مدور، لمعة غوشة، اليس كاشيشيان، إكرام خالدي وغيرهن.
Najjar, ‘Ayda. Bint al Shalabiya. Pg 161
[xii] عرفت القدس في الثلاثينات الدكتورة عبلة فوزي التي عملت بمستشفى الحكومة. الدكتورة لورا المغربي كانت طبيبة نسائية وطبية اطفال. كان لديها عيادتها الخاصة في باب العامود بالقدس. الدكتورة سلوى خوري عتيقي عملت في مستشفى الحكومي كذلك. في رام الله عرفت الدكتورة شارلوت نيكولا سابا، والتي تخرجت من لندن. Najjar, ‘Ayda. Bint al Shalabiya. Pg 104-107
[xiii] Ibid. Pg. 122.