بطبيعة الحال يجب أن أبدأ بالجملة الافتتاحية المألوفة: “نُقدّر للحكومة استباقها في إعلان الطوارئ بشأن جائحة الكورونا”. مع علمنا بأن الطبيعة البشرية، لا تحتمل المثالية، إلّا أنه يظل هناك العديد من الملاحظات التي يجب تقديمهم، ليس بغرض إظهار العيوب، إنما للنقد البناء، وبما يفيد تصحيح المسار، خاصة المسار الإعلامي للحكومة الفلسطينية في تعاملها مع أزمة طوارىء كورونا، لما للإعلام الرسمي من دور تعبوي وتوعوي، وما قد يعكسه الخلل الإعلامي من خلل قد يصيب وعي الشعب، وباقي وسائل الإعلام.
ومنذ بداية الأزمة، أوكل للناطق باسم الحكومة، صدارة المشهد الإعلامي الرسمي، وأصبح مصدر المعلومات الرئيسي، في ظروف غير مسبوقة يمر بها الشعب الفلسطيني الذي عاد إلى شاشة التلفزيون الرسمي، ليتابع الإيجازين الصحفيين الصباحي والمسائي للناطق باسم الحكومة، وما تخللها من أخطاء وتضارب بالمعلومات وشرح غير علمي، ربما لأن الناطق باسم الحكومة، أوكلت له مهمة التحدّث في شؤون طبيّة، بعيدة عن اختصاصه. وفي حالة متفرّدة عن جميع دول العالم التي اجتاحتها الجائحة، حيث أُوكلت هذه المهمة إلى وزارة الصحة وخبراء أوبئة ومعاهد طبية، من الصين إلى إيطاليا وأمريكا، وحتى في دولة الاحتلال.
أما في الأراضي الفلسطينية، فتم حصرها بالناطق باسم الحكومة، الذي وقع في العدد من التناقضات، وسرد معلومات مغلوطة، اضطر لتصحيحها في وقت لاحق، بعد ان تداولتها وسائل الإعلام المحليّة (التي تأخذ جميعها عنه)، مثل حالة السيدة المصابة في بيت لحم، التي قال أنها تعمل كعاملة تنظيفات في منشأة استيطانية، وانها والدة الشاب المصاب. ولاحقاً صحح الناطق باسم الحكومة المعلومة، قائلاً إنها ربّة منزل!
وأيضاً في حالة المصابين في قرية “بدو”، أعلن في البدايةً إصابة ابنة وزوج السيدة المتوفاة، ولاحقاً في المؤتمر التالي، أوضح أن المصابين هم أبناء السيدة الفقيدة وزوجته. طبعًا بعد أن تم تداول الخبر الأول على نطاق واسع!
العمل في الحقل الإعلامي يحتمل الأخطاء، ولكن الأمر لا ينطبق على الإعلام الرسمي، كونه المصدر الوحيد، الذي يجب أن يكون حائط الصد في مواجهة حالات الإرباك وتضارب المعلومات المنتشرة، وما تتسبب به من ضغط نفسي ومعنوي للمواطنين، وحتى لا يكون “باب النجّار مخلّع”!
المصادر الطبية العالمية، جميعها تتحدث عن الذكاء غير المسبوق الذي يتعامل به الفيروس مع ضحاياه، ومن الطبيعي أن نتعامل في مواجهته إعلامياً على الأقل، بذكاء أكبر، وأن نستخدم أسلوباً علمياً في الحديث عنه، بدل استخدام “السجع” وترصيع نهايات الجُمل التي يسخدمها الناطق باسم الحكومة في بداية إيجازاته الصحفية كل مرة، في محاولة منه لتوحيد القافية، كانه يلقي قصيدة من الشعر العمودي: “وباء، ابتلاء، شفاء، رخاء… الخ”. كأنه يملك ترف الوقت واللغة للاستعراض اللغوي غير المفيد!
مع ملاحظة غياب الخطاب العلمي، وارتداء ثوب “الواعظ”، بدلاً من طرح حلول علمية للمتأثرين مادياً ونفسياً من الأزمة، خاصة العمّال في الداخل، الذين نصحهم بضرورة الجلوس في بيتوهم و”الله هو الذي يرزق”!، هل هذا كلام علمي؟ هل هذا حل للأزمة الاقتصادية لعمّال المياومة؟ هل سُينَزّل الخبز عليهم من السماء؟
نحن جميعاً نتوكل على الله في جميع أمورنا، ولكن الفرق بين التوكّل والتواكل، كالفرق بين الكسل والعمل، التوكل اصطلاحاً يعني تفويض الأمر لله مع الأخذ بالأسباب، بينما التواكل هو عدم الأخذ بالأسباب أو السعي للحصول على الرزق بحجة أن الله الرازق!
ما يجعل الخطاب بهذه الطريقة، استهانة بأقل متطلبات الناس، دون تقديم حلول عملية وعلمية لهم، وإشاعة لثقافة الكسل والاستهتار والاعتماد من دون الأخذ بالأسباب. وهذه سقطة إعلامية، تشبه سلوك الاستخفاف لمن يُصرّون حتى اللحظة على الصلاة جماعة بادعاء أنه “لا يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا”، من دون أخذهم بالأسباب وعدم إلقاء أنفسهم إلى التهلكة، وقد شكلوا حالة استفزاز لجموع الشعب، بما يشبه خطاب الناطق باسم الحكومة، الذي يستفز يومياً العمال بالتقليل من أعباء المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ويحيل شؤونهم المعيشية إلى السماء، بدل أن يطرح الحلول العملية والعملية لإنقاذهم مما هم فيه.
الشعب بحاجة لخطاب إعلامي “ناعم”، نعم، ولكنه في ذات الوقت، يحتاج لحقائق بعيدة عن الغيبيات، التي قد توضع في خانة التضليل في حال لم تُلامس الواقع.
بإمكان الناطق باسم الحكومة، أن يمارس وظيفته التي تأتي في سياقات الاتصال وتوصيل الموقف الرسمي، بعيداً عن الوعظ وتقديم معلومات طبيّة ليست من اختصاصه، والأخطر من كل ذلك، محاولته في أولى إطلالاته تمرير مصطلح “التنسيق الطبي” مع الاحتلال، كأنّ كورونا خلقت ترابطاً إنسانيا مشتركاً مع الاحتلال!
والأصح، أنّ محاولة تمرير مصطلح “التنسيق الطبي” في هذه الأزمة باعتباره المُنقذ لنا، هو استغلال لمخاوف الناس، لخلق حالة رضا شعبي عنه، في الوقت الذي يُلقي فيه الاحتلال بعمّالنا المشتبه بإصابتهم على الحواجز، دون طرّقه أساساً لخطة الحكومة المعلنة حول “توطين الخدمة الطبية”!
ذات السياق استخدمه الناطق باسم الحكومة، عندما ادعى، يوم الاثنين الماضي، أن “الاحتلال سلّمنا عامل مشتبه بإصابته بكورونا”، وكادت المعلومة التي قدمها أن تمر من دون ضجيج، وتظل الصورة المتداولة (بناءً على معلومة الناطق) أن الاحتلال يُسلّم العمّال المشتبه بإصابتها بإنسانية! لولا تدخل وسائل التواصل الاجتماعي في اليوم التالي، وأظهرت بالفيديو كيف ألقى الاحتلال بالعامل المصاب على حاجز “حزما” دون أي اعتبارات إخلاقية أو إنسانية.
الأزمة التي يمر بها الكوكب استثنائية، فيما العالم ينبري لاستخلاص التجارب والعبر، وإظهار حاجة البشرية في هذا المأزق للمختبرات والأطباء والممرضين، مثلما ضرب شعب مقاطعة “ووهان” الصينية التحية العسكرية لطواقم الأطباء والممرضين الذين تطوعوا للتعامل مع الفيروس وجهاً لوجه، بينما اتجهت وكالة الأنباء الرسمية في حصر البطولة بشخص الناطق الرسمي، في فيديو مدته 6 دقائق ونصف، نُشر أمس الجمعة، قائم كلّه على تمجيد المنصب وجهوده، بلقطات استعراضية يتحامل فيها على طبيعته، يظهر مرّة وهو دائخ، ومرة مستلقي على مكتبه من التعب، دون التطرّق لخطأ جزئي من أخطائه كأي عامل في الحقل الإعلامي، كأن صمود شعب كامل والتزامه بالحجر المنزلي وعمل الآلاف من الكوادر الطبية والأمنية والإعلامية-مُرتبط فقط بالمكتب الرسمي للناطق الإعلامي، وهي هنّة ثقافية أولاً قبل ان تكون إعلامية، تحصر البطولة بفرد، وتُنافي ثقافة إنكار الذات، التي يجب تعميمها ونشرها عبر الإعلام في هذه الظروف، لتكون هي العبرة المستخلصة، وذلك أضعف الإيمان.