ادوارد سعيد: قلم بحدّ السيف
بدأت بالقراءة على غرار قراءتي في الأسابيع الأخيرة للكتب، محاولة مع الانتهاء وضع اضاءة قد تكون مفيدة ومحفزة للقراءة والاستفادة منها.
من السهل الكتابة عن عبقرية رواية في أسلوب صاحبها وحبكتها والايحاءات المرادة وربط الاحداث ومساحة الخيال والاطلاع لدى الراوي في طروحات ديسبوتية في أكثر الأحيان بين نقد لواقع ما عاصره أصحابه بالتاريخ غير البعيد. يعني كم من السهل النظر الى جورج اورويل ورواياته التي وتنبأت المستقبل بالأخ الكبير، او مزرعة الحيوان وانتقاده للحكم الشيوعي آنذاك، ومارجريت اتوود ورعب الذكورية، وبولغوكوف دوستويفكي وكامو ونقدهم للسلطات وتغير المجتمعات وغيرهم، عندما تقف امام كتاب ليس برواية تستطيع ان تحللها وتتخلص من مشاعرها وترميها بعيدا الى مساحات التخيل البعيد والمنطقة المتاحة بترف التحليل والنقد. مساحة امنه بعيدة عن واقعك المباشر.
ولكن كيف بوسعي ان اكتب عن كتاب “القلم والسيف” بحوارات المفكر أدوار سعيد مع الصحفي دافيد برساميان؟ كيف لي ان اقرأ تحذيرات أطلقها، شهاداته وانطباعاته وتحليله عما كانت تخبئه أوسلو وهي لا تزال وليدة في مراحل اطلاقاتها السرية وتطبيقاتها التي جعلت منا خاوين هائمين على عروش قدّت من تحتنا ومن فوقنا؟ اقرأ واعيد القراءة. تبدأ اصابيعي بضرب الحروف علني أتمكن من التعبير عما يخالج روحي من مشاعر. كيف لي ان اكتب عن ادوارد سعيد؟ كيف لي ان أصف كتابا كهذا بمقال. كل صفحة تحتاج مني دراسة بحثية. كل جملة تأخذك الي تأمل وتساؤل. مع انتهاء كل فصل تشعر بالخنق وتصرخ، كيف مرت صرخات سعيد بلا أي تأثير وهو المفكر والفيلسوف الأهم؟
ادوارد سعيد واستصراخه ودقه العنيف على الخزان لكي ينقذ ما بقي من فلسطينيتنا منذ أوسلو. وصف دقيق لما يجري اليوم بعد كل هذا الزمن من تصفية لقضية وتحويل وطن الى اقطاع يرعاه حفنة من المستفيدين برعاية الاحتلال ولرعايته.
ثلاثة عقود على أوسلو، وثلاثة عقود على صرخات سعيد المتتالية ليحذرنا. اقرا القلم والسيف واشعر انني اقرا رواية رعب. رعب يعكس بتفاصيل مريبة ما نعيشه اليوم. هل كان عبقريا تنبأ بالمستقبل؟
ام هل كنا ولا نزال عميان؟
أقف امام الكثير من التساؤلات الأخرى، كيف لشعب خرج منه ادوارد سعيد ان يرضى بأن يعيش بهذا الواقع؟
فهل كان ادوارد سعيد طفرة جينية أخيرة للفلسطيني الذي لا نزال نردد حلم كفاحه ونضاله ووطنية؟ الفلسطيني المقاتل من اجل قضيته كل في مجاله وإمكانياته وقدراته؟ ما الذي حل بنا؟
اشعر بالألم يعتصر قلبي بينما اعيد كتابة هذه العبارات واحباط سعيد مما كان على وشك ان يحدث عندما أعلنت تفاهمات اوسلو، فيقول: ” أجد نفسي للمرة الأولى في خمس وعشرين سنة منقطعا على اعداد كبيرة من المجتمع الذي شعر، لأي أسباب كانت، ومعظمهم على نحو مفهوم، بالراحة، برغبة في القبول، برغبة في رؤية نهاية قريبة وفي المتناول. اشعر بنفسي منقطعا عن هؤلاء الناس، هؤلاء الفلسطينيين الاسعد مني بكثير. لذلك انا الان نوع من الصوت الوحيد. الشيء المهم هو محاولة التعبير عن ارائي على نحو إيجابي قدر الايجاب والا أقول فحسب: ” كل شيء سيء، يا لها من كارثة. او انه لم يكن علينا ان نفعل ذلك.” لم اقل ذلك ابدا. ولكني سأحاول ان أقول:” هذا هو الوضع وهذا ما نحتاج الى ان نفعله لتحسينه.: هذا صعب جدا ان افعله لوحدي. ولكني أجد المزيد والمزيد من الناس الان مع انقضاء الشعور بالخفة والنشاط ومع انقضاء الاحتفال ومع حصول الناس على فرصة التفكير. لقد بدأ الناس يدركون ان عليهم الاتكال على أنفسهم. لو ان قادتهم قد وعدوهم بأشياء لا يستطيعون تقديمها، عندها يكون عليهم ان يسألوهم: “لماذا فعلتم ذلك”؟
في حوارات ادوارد سعيد بالقلم والسيف، نقرأ فكرا نقيا واضحا لمفكر عالمي متابع للشأن الفلسطيني عن كثب، بينما يضع يديه على النقاط المركزية والجوهرية التي تم علاجها والتعامل معها من قبل القيادة الفلسطينية بشكل خاطئ وجاهل وكارثي. وبقي كمفكر فلسطيني منهمكا بمسألة “الذاكرة في حكاية المضطهدين، وبالالتزام بألّا يدع أبداً اسطورة أو وجهة نظر مهيمنة تصبح تاريخا دون معادلها.” وبقي “حسه العميق بالخسارة الشخصية والجماعية، وعيه الى البدائل الإيجابية والشاملة والايديولوجيات والبنى والادعاءات الدينية المتعصبة”، حيث شكلت هذه “الموضوعات منظومة على خيطان تربط المعرفة والسلطة، وتؤسس الروابط بين الثقافة والإمبريالية”. ليجعل “هذه الروابط دائما بطرق تفتح امامه بديلا أكثر أهمية وإنسانية: إضافة، ثقافة مقاومة، والوعد بتحرر علماني لا طائفي.”
يضعنا ادوارد سعيد في هذه الحوارات امام مرآة القيم والمعرفة والأخلاق التي تجعلنا ننظر فنرى من خلالها مفكرا فلسطينيا عظيما، تعطينا املا وتمسكا ربما، بأن هذه الأرض انجبت عظماء. مقابل مرآة ترينا مآل الحاضر على المستقبل في قراءة واسعة وشاملة صريحة صادقة لا تشوبها الا احباطات القرارات السيادية التي نرى مآلها اليوم.
عاش ادوارد سعيد في “نضال خاسر لمنع عرفات من الانزلاق نحو الاستسلام. وقد بدأ ذلك في تشرين الأول من عام ١٩٩١ حين انضم رئيس م. ت. ف. الى مؤتمر مدريد للسلام بموجب الشروط التي املتها إسرائيل ورغتها أمريكا، وهي الشروط المهينة والمضرة بالمصالح الفلسطينية في الواقع، تنازلت م.ت.ف في مدريد عن مطالبتها بتمثيل الشعب الفلسطيني، وكذلك عن حق سكان القدس المحتلة في ان يتم تمثيلهم، كما وافقت استثناء المليونين ونصف المليون فلسطيني في المنفى. كان ادوارد بين قلة من المثقفين العرب الذين فهموا ان عرفات قد دخل في عملية هي ليست عملية سلام بل استسلام، وقد حذر قادة م ت ف بمن فيهم عرفات أسبوعيا وأحيانا يوميا بأنهم قد بدأوا المسار في طريق انهزامية.” وحذرّ انه “سينتهي بهم المطاف الى حراسة أكبر سجن في العالم، غزة.”
اعتبر سعيد الاتفاقية “استسلاما” من قبل عرفات. واستمر في عرض الأسباب التي تبرر هذا الاعتبار قائلا: ” أترك الحكم للآخرين والتاريخ.”
بالمقابل، كان ادوارد سعيد “بين أوائل الفلسطينيين الذين حاججوا بأن الرفض العربي ل – “الاعتراف بوجود إسرائيل” كان موقفا عميقا. وقد أشار باستمرار الى إسرائيل باسم اسرائيل، رافضا المصطلح الطقسي “الكيان الصهيوني” على انه سخيف. اليهود هناك ليبقوا والفلسطينيون هناك ليبقوا، كما قال مرارا، ولا يمكن لأي مقدار من العنف واعمال الترحيل والطرد والمزاعم ان يغير هذا الواقع.”
فهم سعيد جيدا حاجة إسرائيل لبناء الاساطير واهميتها المركزية لنظرية المعرفة لدى الصهيونية. ولكنه اعتبر ان سوء الحظ لدى الفلسطينيين يتجسد في تعرضهم لظلم عدو نادر، هو نفسه عانى من اضطهاد عميق وطويل موضحا ان “فرادة موقفنا هي اننا ضحايا للضحايا. كان من عذب اليهود الأوروبيين. مدفوعين هم أنفسهم بأفكار وعواطف دينية متعصبة. ومع ذلك قام هؤلاء بسلب شعب اخر وطنه تحت راية أيديولوجيا عنصرية نشدت ان تبني على نحو منتظم وطنا يهوديا مكان ما هو منذ الاف السنين وطنا فلسطينيا. هنا يكمن تناقض لليهودية الغربية فيما يتعلق بالصهيونية وإسرائيل والفلسطينيين. كان القاء اللوم على الضحايا والحط من إنسانيتهم وتحويلهم الى شياطين يقدم أسهل الحلول للهرولة من هذا التناقض.”
اختار بهذا المقال ان انقل ربما جزئية نعاني منها اليوم بصورة واضحة. في وقت شكل ما تكلم عنه ادوارد سعيد نبوءة. فنحن نعيش كيف تحول حلم التحرر الى دولة افراد يديرون ما يكتسبونه على حساب القضية والشعب. تحولنا من شعب تحرر الى شعب يستجدي فتات العالم لكي يبقي السلطة من السقوط. يبقى النقاش في الجزئية التالية حاضر في نقاش يومي فيما صرنا اليه. ولكن لا تزال هذه الجزئية تشكل معضلة في إفساد ما نحن عليه من واقع اليوم: وسائل الاعلام والمثقفين.
القارئ لسعيد يفهم كيف كانت اتفاقية السلام التي خرجت من مخاض أوسلو فرصة لتربع أمريكا على عرش الدول العظمى والتحكم بالعالم، كما أعطت الشرعية لإسرائيل ونفوذها في المنطقة. قبل ثلاثين عاما كان هذا الكلام صعب المنال حتى بالتفكير ولكن سعيد قالها بكل وضوح، عندما تكلم عن قدرة وسائل الاعلام على صناعة الشياطين والابطال الخارقين والملائكة وتحويلهم من حال الى حال. كم من شياطين تحولوا بين ليلة وضحاها الى ملائكة. وعليه نملك ملكتين يمكن استخدامهما في المواجهة: الذاكرة والشك. فيقول موضحا: ” حين يكون هناك هجوم اعلامي ساحق كهذا، وهناك عادة هجوم كهذا حين تكون قصة واحدة هي محور القضية، – الذاكرة- علينا ان نتذكر ما قالوا في اليوم السابق وهو في العادة العكس بالضبط. والملكة الثانية هي الشك. الأولى تأتي من المرور بتجربة هذه الأمور. …عليك فقط ان تمارس تلك المهارات وترفض السماح لنفسك بأن تصبح مجرد شخص بليد يمتص المعلومات ببساطة، وقد أصبح مسبق البرمجة، مسبق الادلجة، لان أي رسالة على التلفزيون ليست مجرد أي شيء بل عبارة عن صفقة أيديولوجية تغلغلت عبر نوع من أنواع عمليات المعالجة.” فانه بالرغم قوة وسائل الاعلام الهائلة الا انها تؤكد على النظام الأيديولوجي العالمي الذي تتحكم به أمريكا وقلة من حلفائها الأوروبيين. ولكن كذلك كيف استطاعت أمريكا انتهاز الفرصة في تلك اللحظات الى هذا اليوم هو الأهم:
“توجد وسائل الاعلام على نحو رئيسي كمظهر جذاب فحسب للقوة والسياسة الامريكيتين. ورغم وجود كثير من القصص حول كيف ان الولايات المتحدة اخذت بالمفاجأة في هذا التطور فان ما لم يلاحظ هو ان الفروق بين هذا التطور وما ارادت الولايات المتحدة دائما هي أمور تجميلية… فان ما برز في الحقيقة كان شيئا ما لم يستطيعوا الا ان يسعدوا به. فهو يعطي بالفعل الى نائبه الولايات المتحدة، إسرائيل، قوة إقليمية هائلة، لقد أصبحت قوة إقليمية عظمى. وأخيرا وكما قال كريستوفر وبيكر، فهذه هزيمة للتطرف العربي والقومي العربية. اذن فهذه اتفاقية تعيد الولايات المتحدة الى مقعد السائق، وتعطيها مجددا مكانه القوة العظمى، وتسمح لها باستخدام هذه الاتفاقية لضمان فتحها امام الأسواق والمصادر في الخليج، وفلسطين امام مدخل هام لها.”
وفي هذا الصدد أصبحت وسائل الاعلام “مجرد جوقة أخرى غبيةـ في رأيي- في اختيارها للأصوات والمتحدثين وهكذا دواليك.”
وهنا نأتي لدور المثقفين في جوقة التطبيل الى الهاوية فيصف سعيد بأسف قائلا:
“ويا للأسف، وأقول هذا بخجل وبؤس شديدين، فالفلسطينيون قد اعادوا انتاج الأنواع الصحيحة من المتحدثين ليكونوا جزءا من هذه الجوقة. والناس الذين كانوا في الماضي وحتى لأسبوع مضى من اتباع “فانون” تغيروا الآن وأصبحوا من مؤيدي سنغافورة والأسواق المفتوحة والتنمية. انهم لا يفعلون شيئا للجمهور الفلسطيني الحقيقي، وهم عبارة عن فلاحين دون أراض، ولاجئين دون دولة، وكسَبَة يعملون بأجر رخيص بأعمال كالرق، وهذا يحافظ على سيطرة العائلات التقليدية والقيادة التقليدية.”
اما موضوع المثقفين، يبدو للقارئ انه شكل احباطا او بالأحرى طعنة بالظهر لإدوارد سعيد لأنه لطالما عول على التعليم والثقافة كمخرج لحياة أفضل للفلسطينيين رغم صعوبة واقعهم فيقول:
“أجد انه من المخيب للآمال جدا ان ترى مثقفين اخرين مأخوذين تماما بذلك. لم أجد ابدا ان من المثير للاهتمام ان أكون قريبا من السلطة. اعتقد ان السلطة تحتاج دائما الى تصحيح من قبل امانة المفكرين وضمير الذاكرة. والامر المثير لسخرية هنا كبير جدا وهو انه بعد حرب ال ١٩٦٧، وحين برزت الحركة الفلسطينية، كنا مشهورين في تلك الحركة على اننا نقّاد. كنا اول عرب في ادبنا، في خطاباتنا، وكتاباتنا مثلا، نستخدم كلمة “إسرائيل”. كل الاخرين كانوا يقولون الكيان الصهيوني. كنا اول من تعامل مع الواقع. لقد انتقدنا الأنظمة العربية التي فشلت في عام ١٩٦٧. الادب الفلسطيني، التحليل العلمي والسياسي كان اول ادب يستخدم الحواشي. قلنا ان علينا ان نكون مسؤولين عما نقوله وأننا كنا نتقدم بأسلوب منظم ومنضبط وصادق فكريا.”
ويكمل قائلا:
“لم يعد هذا كله موجودا الآن. الادب الفلسطيني الرسمي هو جوقة مصادقة على ما تقوله القيادة. لقد أصبحنا، بالفعل، كما هي الأنظمة العربية الأخرى. ان مأساة عرفات انه لا يرى نفسه كقائد لشعبه. ورغم انه بأسلوبه الشخصي والشعبية التي لا يزال يتمتع بها لا يزال يعيش بتقشف. ولكنه رأى نفسه كقائد يعاشر دون كلفة الملوك والرؤساء، واعتقد ان تلك الخسارة للقدرة على رؤية الأشياء وخاصة بين المثقفين، كانت أسوأ الأمور. انها اغواءات السلطة. متع السلطة. غياب الحوار. أي نظريا ما على المثقفين دحضه.”
بكل الأحوال ورغم صعوبة الوضع كان سعيد مصرا الى الحاجة للاستيقاظ على حقائق وصعوبات الوضع. لأن على المثقف ان يستمر رغم التهميش والوحدة الذي يشعر بهما. المثقف على غرار ادوارد سعيد.
بقي ادوارد سعيد يمشي قدما بتفاؤل ومحاولات غير متوقفة على إيجاد الحلول لأنه كما قال:
“ان تشاؤم الفكر أولا ثم تفاؤل الإرادة مبنيان على تشاؤم الفكر. أي بعبارة أخرى لا تستطيع ان تقول مجرد القول: “الأمور سيئة، ولكن لا يهم، سأتقدم.” بل عليك ان تقول ان الأمور سيئة ثم تحللها فكريا. وعلى أساس ذلك التحليل سوف تبني حركة نحو الامام مبنية على التفاؤل، القدرة والرغبة والمشيئة بالتغيير. ولكني لا أجد القضية تنطبق هنا، حيث هناك تفاؤل من بداية محاولة تحويل، بعملية سحرية، ما هو بالفعل اتفاقية كارثية الى امر رائع. انهم يقولون انها مساواه، افتتاح، قدم على الباب، ستغير كل شيء. هذا يبدو لي على انه لا مسؤولية. ليس هذا تفاؤلا للإرادة. هذا تفكير سحري..”.