لماذا هزتني قضية الشاب مجد سمارة؟

لماذا هزتني قضية الشاب مجد سمارة؟

 

لم التق ابدا بمجد، ولا اعرفه، ولكنه كغيره من الجيل الذي اسميه الجيل الواعد، تلفتني شجاعته من خلال منشوراته على الفيسبوك. يذكرني بلا شك بأبنائي الذين يشكلون معه ما اتمناه ان يكون واعدا لنا نحن الافلون.

في سياق غريب، لا اعرف لم استحضرني وبقوة، موقف حدث قبل سنوات عندما منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الناس من التجوال بالقدس القديمة. فقررت حينها ان اخرج وابنائي تحت شعار ” مش خائفين”. حينها، وللحقيقة، خروجي لم يكن رغبة، ولا تحديا، بقدر ما كان خوفا ورعبا على بناتي، الأصغر تحديدا، والتي كانت تندفع بغضب ووجع وسخط على الظلم الذي كان يخيم حينها ولا يزال. فقلت في نفسي، على الأقل، انا أكون معهم عند الخروج في هذا التحدي، لكي اضمن عدم تعرض الجنود لهم واحتواء الاستفزاز الممكن.

كنا نمشي في أحد ازقة البلدة القديمة الفارغة الا من ثلل متكررة من الجنود المدججين بالأسلحة، عندما مر شاب يمشي لوحده واوقفته ثلة الجنود. طلبوا منه ان يرفع يديه، واجبروه على خلع قميصه. كانت الجندية والجندي الموجهين فوهات أسلحتهم ينظرون له باحتقار وازدراء. في تلك الأيام كان القتل كشربة ماء … كما اليوم مع الأسف… ولكنا لم نكن قد تعودنا بعد. وجدت نفسي أقف بالقرب من الشاب والجندي، محاولة ان أقول ولو بمجرد وجودي اننا هنا. انكم لن تتفردوا به. لن تقتلوه غدرا، ولن تضربوه، ولن نجد صورته بعد قليل جثة الى جانبها سكين. كان الوضع مريعا بكلم ا تحمله تلك الكلمة من معنى. سكوت غادر قد يتحول باي لحظة الى أصوات جامحة بين صراخ وعويل.

حاول الجندي ابعادي بفوهة سلاحه، واقتربت مني الجندية. سألني ماذا تريدين؟ قلت: لا شيء واقفة. قال اذهبي م هنا. وقفت ابعد على مسافة خطوات. بقيت واقفة مكتفة اليدين اشهد فعلهم. وكأني أقول بعيوني وجسدي الواقف امامهم: اريدكم ان تشهدوا فعلكم. كنت اتمزق حزنا على عدم مقدرتي بفعل أكثر. لم أكن افعل شيء، وهذا اللا شيء جعلهم يغضبون أكثر. اقترب نحو الجنود وإذ ببناتي يهجمن كصغار القطط مدافعين عن امهم. وسحبنني من امامه قبل لمسه لي.

كان الموقف مضحك مبكي. فانا التي خرجت لتجنب ابناءها الوقوع في استفزازهم، تحول المشهد للأبناء يدافعون عني. منذ تلك اللحظة صاروا هم يخافون من ان اخرج لوحدي خوفا على من مشاعري التي يمكن استفزازها.

الذي حدث معي حينها، انني رأيت بذلك الشاب ابني. كم شكرت الله ان لي ابنا ذكرا يدرس في خارج هذه المدينة المهددة لشبابها. تخيلت ابني بينما يتم سحله واهانته. تخيلت أبناء المدنية كلهم ابنائي، تخيلت كل ام رجع ابنها اليها ذلك اليوم ولقد اهين وانتزعت كرامته، ورجع جسدا بروح مريرة.

عندما كلمني مجد بالأمس قائلا انه تم اعتقاله ولقد أفرج عنه للتو. سمعت في نبضات كلماته ذلك القهر الذي شاهدته بذلك الشاب الغريب في ذلك اليوم. حرقة تخترق الوجدان. سألته ان كان بخير، فأجاب قائلا:

” وتدخل انسانا.. وتخرج لا شيء فيك من الإنسانية الا الصمت.”

يا إلهي فكرت، ما الذي فعلوه بذلك الشاب خفيف الظل الحالم القوي الجريء؟ لم اعرف ماذا أقول، ووجدت نفسي اردد كلمات ام خائفة على ابنها، تفكر في امنه فقط متناسية أي مبدأ ربته عليه.

قهرني ما فعلوه بهذا الشاب، وفكرت، ما الذي يحدث مع العشرات والمئات او الالاف ربما من الشباب الذين لا نعرف عنهم الا اختفائهم لأيام ويخرجوا ليصمتوا دائما. خفت ان اسأله أكثر، لأني لم أرد ان أكون سببا جديدا في تعقيد وضعه. فقبل يومين من الازمة كان قد عقد العزم على رفع قضية على البنك للتشهير به واتهامه بالعمالة- الخروج عن الصف الوطني- ليجد نفسه بعد دقيقتين ولقد سحب الى التحقيق والاعتقال.

والبنك تحول الى صاحب الحق وتقدم بالشكوى عليه. فعلا كان الوضع متمثلا بالمثل القائل ضربني وبكى وسبقني واشتكى.

ما الذي فعله مجد ليثير كل هذا السخط لدى إدارة البنك؟

كتبت في مقالي السابق ما جرى، وباختصار، وهنا اكتب ما شاهدته كمواطن متأملة للمشهد الحالي في الساحة الفلسطينية.

فيديو لأغنية فيروزية ركبت عليها كلمات تحاكي الوضع الحالي. فكرت انها كانت ظريفة وتستدعي المشاركة وفعلت. قلت في نفسي ان هذا الشاب ذكي وعميق بالإضافة الى خفة ظله. وهنيئا له على هذا العمل. فكرت كذلك، بكل التفاعل الشبابي هذا، طريقة تفكيرهم المختلفة تماما عن تفكيرنا بالتعبير عن النفس. فنا مثلا أجد نفسي اكتب مقالا وهذا أكبر مكان يذهب فيه ابداعي ليعبر عما يجول بداخلي في محاولتي التأثير. ولكن الشباب يقومون بلقطة واحدة، بكلمات قليلة وبسيطة ليعبروا عن الحال بشمولية ومحاكاة رائعة. عالم جديد على جيل كجيلي، يعتقد انه تقدمي وتحرري وصاحب الانتفاضة الأولى، وعليه فهو الجيل الذي كسر جمود مرحلة عقود من السكوت والخنوع.

ولكن هذا الجيل يختلف في تعبيره وفي تأثيره… يفكر بسرعة ويتصرف بسرعة ويتفاعل بسرعة. ويؤثر بسرعة أكبر.

أمثال مجد يكرونني بشبابي أيام الانتفاضة. كنت لا زلت في عمر الصبا، وما اشاهده من أفعال بطولية لمن يكبروني بسنوات قليه يبهرني. هؤلاء الذين تجرأوا بالوقوف امام الدبابات العسكرية وصدها بحجر وحاجز من عجل وحاوية نفايات.

مجد ورفاقه من شباب روحهم ثائرة تحاول شق طريقها نفس التحرر، لا يعرفون عن القضية الا ما اعطته لهم أوسلو، ولكنهم يحاربون بطريقتهم. لا يزال العدو المباشر عدوهم، ولكن يواجهون عدوا اخر أخطر على الحرية. فبين الخوف على الحياة من فوهة بندقية لجندي احتلال تتوقع انه من الممكن ان يقتلك لأنك عدوه. وبين ان تخاف على حريتك من جهاز مخابرات او امن او شرطة لأنك إذا ما عبرت عن رأيك في شأن ما قد تنتهي الى قمع فعله من قبل ولا يزال الاحتلال بابيك واخيك وجارك وبك. فهذا اشد صعوبة وقاهر لكل ما تبقى فينا من مشاعر تبقينا متقدين من اجل امل.

هؤلاء يحرقون الامل في نفوس شبابنا…

من اجل هذا احترقت على مجد، وصديقته التي راسلتني مستنجدة. مرة أخرى، رأيت في هذا الموقف ابنائي واصدقائهم. تخيلت ابنتي ولقد اعتقل أحد اصدقائها. تخيلت ابني وقد مر بما مر به مجد.

والاسوأ والأكثر مرارة واشد خطورة هو السبب في كل هذا!!!

ماذا كان سيحل بمجد لو انتقد وزارة او جهاز امن او لا قدر الله الرئيس او الحركة.

وإذا كان هذا هو الأسوأ، فهناك الأشد سوء من كل هذا، دفاع البعض او ربما الكثيرين عن البنك، وحقه امام قصة اختلقها البنك او ربما تكون حقيقية عن علاقة مجد بالبنك كعميل. ذكرني هذا الدفاع بقضية المغدورة اسراء غريب، التي هز مقتلها كياننا وضج من امننا وذكرنا مرة أخرى كم رخيصة هي حياة الانثى في هذا الوطن، عندما خرج زوج اختها مسكتا مهددا للأصوات الباكية او الشاكية او المطالبة بكشف الحقيقة، ليقول لنا قصة بطلها جن والجاني فيها اسراء الضحية. واستطاع بكلامه الذي لا يمكن ان يعقله عاقل ان يسكت بالفعل الكثيرين. استطاع ان يثير الرأي العام ضد من يحاولون اظهار الحقيقة في مقتل الشابة اسراء. جعل بكلامه الذي لا يقبله عقل صغير مكانا للنقاش الموسع وابتعاد المؤثرين والمفكرين عن القضية، لان الرجل قدم لنا براهين في كلامه.. براهين ابطالها جماعات الجن وما لا نعرفه عن “حقيقة” اسراء التي يجب ان تبقى في الحفظ تحت مسميات حقيرة بطلها كذلك شرف العقل العربي المهدور.

مؤسف ومبكي ما حصل وسيحصل بقصص واحداث سيكون موضوعها دائما حرية تقص اجنحتها وينفض ريشها وتبتر أطرافها وتشوه ملامحها وتقتل امام اعيننا… ولا نزال نصرخ املا بحرية أخرى كان عنوانها الاحتلال وصارت حقيقتها اليوم الحق في التعبير.

اليوم، وبينما الاحتلال يقتل ابناءنا في استباحة متكررة، وبينما ما تبقى من ضفة يتم التهديد بضمها، وبينما الاسرى معتقلون في زنازين الاحتلال يعانون، وبينما الشعب متخبط في لقمة عيش باتت تحوله لمتسول. اكثر ما نحتاجه ان نعبر عن ما يجول في خواطرنا من اضطرابات تحدث امامنا وحولنا تضرب بنا.

لم تكن ابدا حرية التعبير ولن تكون تهديد لأي حكومة ولا نظام ولا كيان يبني علاقته بالشعب على أساس البناء والتقدم نحو ما هو افضل للشعوب. حرية التعبير تصير تهديدا لكل واي نظام يعرف جيدا انه لا يريد لبناء ولا تقدما ولكن يبني افراده وسلطاته المقربة ليتقدم على أرواح وجثث الشعوب.

اترك رد