Skip to content

هواجس المتنزه المنفرد بنفسه لجان جاك روسو

هواجس المتنزّه المنفرد بنفسه 

جان جاك روسو

ترجمه الى العربية بولس غانم

بدأ روسو بكتابة هواجسه سنة ١٧٧٦ وانتهى منها بعد سنتين، سنة وفاته. وتم نشرها سنة ١٧٨٢ بجزئها الأول والجزء الثاني منها ١٧٨٩. 

ولد روسو بجنيف سنة ١٧١٢ ويعتبر من اهم فلاسفة عصر التنوير والرومانسية. تعتبر فلسفة روسو من الأفكار التي شكلت الاحداث السياسية التي أدت الى قيام الثورة الفرنسية. فكتابه العقد الاجتماعي يعتبر حجر زاوية في الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث. فكره أعاد الاعتبار للكائن الفرد الذي يكتسب قيمته من ذاته وليس من الجماعة او من الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها. فوضع روسو “الأنا” او “الذات” في مكانة محورية داخل العمل الادبي. ولعل أفكاره بضرورة تحقيق العدالة والمساواة بين البشر وضرورة اعتماد أساليب تربوية تحترم الميول الفطرية لكل فرد وتتناسب مع قدراته الذاتية التي تكلم عنها بكتابه 

“اميل” تعتبر من الكتب المهمة في التربية. 

هواجس المتنزه المنفرد بنفسه، يعتبر رحلة ذاتية بأعماق روسو الذي تماهي مع ذاته وتكلم عن عصارة فكره بتلخيص لتجربته الحياتية، وكأنها كانت فرصة له لاستجماع او استحضار كل ما بقي عالقا في عقله ووجدانه من أفكار واراء واخرجها للنقاش والمكاشفة. فصارت العلاقة بين الانسان والطبيعة وكأنها نتاج ما توصل اليه بعد حياة طويلة صاخبة. وعليه فرأى ان السعادة البشرية لا تتحقق الا بإعادة اللحمة بين الانسان والطبيعة، فاكتشاف متعة التأمل في أحضان الطبيعة والاصغاء الى تفاصيل الحياة فيها هي سر سعادة البشرية، بعيدا عن صخب المجتمعات وثقافة الاستهلاك.

يقول: 

” إليكم هذه اللوحة الإنسانية الوحيدة-المنقولة بالضبط عن الطبيعة بكل صدق-الموجودة الآن أو التي ستوجد إطلاقاً في أغلب الظن. وأيما كنتم، يا من نصبكم قدري وثقتي حكماً على هذا السجل، فإني أستحلفكم بحق ما أصابني من خطوب ومحن وبحق ما تشعرون به من أخوة البشر، وباسم الإنسانية جمعاء، ألا تدمروا عملاً نافعاً فريداً في بابه، قد يصلح بحثاً مقارناً من الدرجة الأولى لدراسة الإنسان. وألا تنتزعوا من شرف ذكراي هذا الأثر الصادق الوحيد لخلقي، الأثر الذي لم ينل من خصومي مسخاً وتشويهاً.”

ويؤكد ان ما يقوم به استثنائيا، فصدق الانسان مع نفسه هو صدقه مع الطبيعة. 

يقول: 

“إنني مقبل على مغامرة لم يسبق لها نظير، ولن يكون لتنفيذها مقلد، أريد أن أظهر إخواني في الإنسانية على إنسان في كل صدق الطبيعة، وهذا الإنسان هو أنا نفسي. أنا مجرداً من كل شيء. إنني أعرف قلبي، وأنا عليم بالناس. ولم أخلق كأي حي من الأحياء. وإذا لم أكن خيراً منهم، فإنني على الأقل مختلف عنهم. أما أن الطبيعة أحسنت أو أساءت بتحطيم القالب الذي صببت فيه، فذلك شيء لا يستطيع الحكم عليه إنسان إلا بعد أن يقرأني.”.

لا اظن ان هناك انسان لم يسمع عن روسو عند الحديث عن الثورة الفرنسية. يبدو للمرء ان هذا الرجل عاش نبيا في زمنه، حتى يقرأ هواجس المتنزه المنفرد بنفسه، الذي يعتبر جزء من سيرته الذاتية التي سبقها كتاب “الاعترافات”. فيجد القارئ ذلك الفيلسوف العظيم مجرد رجل يحاول العثور على راحته بالابتعاد عن الناس بعد سنوات من العطاء الذي لاقاه سوء التقدير. ليلجأ الى التنزه منفردا ويتفرغ للنباتات بالتأمل والفهم بعيدا عن البشر. وقد بدا الخلاف بينه وبين معاصريه كبيرا في تفكيره الديني الذي رأته الكنيسة هرطقة والحاد، ورآه معاصريه من الفلاسفة كيهوذا مبشرا ومنافقا، جعله يدفع ثمنا باهظا. أفكاره كانت كما وصفته مدام دستال “لم يخترع شيئا ولكنه أشعل النار في كل شيء. فبينما اجمع رجال الدين على تكفيره، الا انه كان مصرا على ايمانه بالله، واهمية المعتقدات الدينية بصيانة النظام الأخلاقي والاجتماعي، وادان الفلاسفة في عصره لرفضهم الله وابقائهم على الملوك. وكان على عكس معاصريه، شديد الهجوم على الملوك ومتمسكا بالدفاع عن الله والخلود.

ودفاعه وتمييزه عن وجود الله والدين، يشبه كذلك دفاعه وتمييزه بأمر الحرية.  

“ينبغي الا تطلق الحرية لكل رجل في اقتراح القوانين الجديدة على هواه، بل يقصر هذا الحق على القضاة دون غيرهم.. فقدم القوانين هو اهم عامل في أضفاء القدسية والاحترام عليها، والناس سرعان ما يتعلمون الاستهانة بالقوانين التي يرونها تبدل وتغير كل يون، ولو اعتادت الدول ان تهمل تقاليدها القديمة بحجة التحسين والإصلاح، لجلبت من الشرور ما هو أسوأ مما تحاول ان تقضي عليه.”

من ناحية أخرى كان روسو يقدس الملكية الخاصة، ويعتبرها حق أساس فيقول: ” من المؤكد ان حق الملكية أقدس حقوق المواطنة، بل انه من بعض الوجوه اهم من الحرية ذاتها. فالملكية هي الأساس الصحيح للمجتمع المدني، والضمان الحقيقي لتعهدات المواطنين. بمعنى ان الناس لن يعملوا فوق ما تتطلب ابسط حاجاتهم ما لم يحتفظوا بالناتج الفائض لأنفسهم ليستهلكوه او ينقلوه لغيرهم كما يشاءون.”

وهو القائل: “ولد الانسان حرا، وهو في كل مكان يرسف في الاغلال.” وهو القائل كذلك ” ان الحرية طعام قوي، ولكنه طعام يحتاج الى هضم متين، انني اضحك من تلك الشعوب المنحطة التي تثور لمجرد كلمة من متآمر دساس، والتي تجرؤ على التحدث عن الحرية وهي تجهل كل الجهل ما تعنيه، والتي تتصور انه لكي يتحرر الانسان يكفي ان يكون ثائرا متمردا. ايتها الحرية المقدسة السامية! ليت هؤلاء يعرفونك حق المعرفة، ليتهم يتعلمو أي ثمن يبذل للظفر يبك ولصيانتك، وليت في الإمكان تعليمهم ان قوانينك اشد صرامة من نير الطغاة الثقيل.”

دفع روسو ثمنا جعله يعيش متنقلا في ظروف قاسية بين طرد واوامر ابعاد وهروب. علاقاته كانت معقّده بين معاصريه، ففولتير كان من اهم أصدقائه وتحوّل الى الد اعدائه، كذلك ديدرو وهيوم ودالامبير.

عاش روسو قلقا، وعبّر عن هذا القلق في كتابه الأخير، فلا يمكن الا استشعار حالة القلق والحذر وكأن هناك من يلاحقه او يتآمر عليه. ولكن لا يمكن الاستغراب إذا ما تبين لنا تاريخه الحافل بالاضطهاد من كل الاتجاهات 

في “اعترافات” روسو التي كتبها في دفاع عن نفسه امام الاتهامات التي كانت تحيطه من كل الاتجاهات. أراد بكتابه الأخير توضيحا او بالأحرى اعترافا آخر.  أراد ان يكتب لنفسه معزيا ذاته قائلا: 

“ها أني قد امسيت وحيدا على الأرض، فلا شقيق بعد اليوم، ولا قريب، ولا صديق، ولا عشير لي سواي. ان أكثر الناس الفة وأخلصهم حبا لبني الانسان قد اجمع الناس على نفيه عن المجتمع. ولقد تفننوا في بغضائهم فالتمسوا شر عذاب يمكن ان ينزلوه بنفس المرهفة الإحساس، فقطعوا جميع الصلات التي كانت تربطني بهم. لقد كنت أحب الناس على الرغم منهم. فلم يستطيعوا ان يتملصوا من حبي الا بتجردهم من الإنسانية، وهكذا أضحوا غرباء مجهولين، بل اصفارا في نظري، لأنهم أرادوا ذلك. ولكن من أكون انا وقد تجردت منهم ومن كل شيء؟ هذا ما يتعين على البحث عنه. ومما يدعو الى الأسف ان هذا البحث يجب ان تسبقه نظرة في موقفي. وهذه فكرة لا بد من امر بها كي أصل منهم. اليّ.”  

وكأن تأملاته الأخيرة، شهادته الأخيرة او دفاعه الأخير عن نفسه، قبل ان تتم محاكمته من جديد من قبل معاصريه، فتكلم عن الخير والشر، الكذب والصدق، وبرأ نفسه من كل شر على الرغم من انه ربما لم يقدم الكثير من الخير. كان صادقا بنيته عدم الكتابة الا لنفسه بهذه المخطوطات، أرادها للمستقبل لا الحاضر. أرادها لتناجيه بوحدته التي اختارها مع النباتات والطبيعة. يقول: 

” إني ولدت لأعيش ملء الحياة، غير أني اموت من دون ان أكون قد عشت..”

ويكمل قائلا: 

” كنت اكتب اعترافاتي الأولى ومحاوراتي رغبة مني في ان أفلت بهما من مخالب مضطهدي الجوارح. كي ادفع بها، إذا أمكن، الى أجيال أخرى.”

” ان هذا القلق لا يساورني اليوم فيما يتعلق بهذا المؤلف لأني اعرف ان لا فائدة منه، وان رغبتي فقي ان يعرفني الناس معرفة اتم، وقد زالت من نفسي، لم تبق لي الا لامبالاة عميقة بمصير مؤلفاتي الحقيقية وبشواهد براءتي التي ربما تكون قد ازيلت الى الابد. وسواء على منذ الان أقلقتهم هذه الأوراق، ام استولوا عليها، ام اتلفوها، ام زوروها. أني لا اخفيها ولا اظهرها، وإذا انتزعوها مني في حياتي فلن ينتزعوا مني لذة كتابتها، ولا ذكرى ما تحتويه ولا التأملات المنفردة التي كانت تلك الأوراق ثمارها والتي لا يمكن إطفاء مصدر نورها الا بانطفاء سراج حياتي.”

Leave a Reply

Discover more from Nadia Harhash

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading