ويرحلون لتُخَلَّدَ ذكراهم…أيمن صفية

في خضم انشغالي وانا اقرأ للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، لم تفارقني الدهشة وانا أفكر كيف يقضي عظماء التاريخ حياتهم بلا تقدير وشقاء، ليكرمهم التاريخ فيما بعد. وكأن المجد كتب للأموات لا الاحياء. 

قراءات متتالية لجان جاك روسو بين مذكراته الرائعة والمبدعة والمليئة بالمعرفة والمعلومات بالإضافة الى نقاء المكاشفة، وبين مقالاته عن المساواة وكتبه، تتوجت تجربتي بقراءته بكتاب اميل، والذي يتكلم به عن التربية بطريقة تثير الدهشة والاعجاب. كيف استطاع ان يفهم ويفسر بهذا الاسهاب تطورات الانسان بمراحل طفولته وتقديمه وشرحه لما يناسب وما يقلق في المناهج التعليمية. نظريات لو اتبعت لكنا بخير، ولو تقرأ اليوم وتطبق قد نصير الى خير. 

ولكن التفكير في شقاء حياته ارق حالي وجعلني أفكر بكم من المبدعين الذين لا يهتم به أحد في حياتهم، ليصيروا عظماء بعد مماتهم؟ 

وكان ما جرى مع الشاب الفنان الفلسطيني ايمن صفية الذي ضاجت بخبر وفاته كما اختفائه في أعماق البحر على مدار أربعة أيام ليحملني على اجنحة حلم من ارتقوا من الحياة الدنيا ليصيروا نجوما ساطعة بسماء حياتنا على هذه الأرض. فنشير إليهم من بعيد بتأمل وتقدير وتمجيد. 

ايمن صفية، شاب فلسطيني عاش بتحديات مركبة طوال أعوام عمره القصير، بين شغف لرقص الباليه وبين تحديات الهوية بين الشخصية منها والوطنية. عبء يحتمل الكثير من التحديات التي تتفاقم في واقع كواقعنا، الا انه حملها وراقصها وطار بها حتى استقر نجمة بالسماء نناجيها. 

كم من اعتراض لاقى ايمن لأسلوب حياته، لرقصه؟ كم من كاره وحاقد صادف؟ كم من رافض لما يمثله وما يقوم به واجه؟ ولكن كيف لقي في نهايته هذا التعاطف الاستثنائي؟ تبقى قوة الانسان على هذه الأرض. 

هذا ما شكله ايمن صفية في حياته ليحوم فوقنا في مماته. 

اسأل نفسي لم كل هذا الحب له؟ من كل البشر في هذا البلد المتصارع على كل شيء، المتوحد نحو دعاء واحد مليء بالتعاطف والحب والامل من اجل انسان يفترض انه عابر؟ 

ربما لأنه لم يكن مجرد عابر… 

هذا هو الفرق بين البشر… 

أولئك العابرون كأنهم ذرات تراب فانية، وهؤلاء المنتشرون كنجوم لتضيء وجودنا علنا فهمنا سحر هذا الكون العجيب. 

في حياته القصيرة بيننا كان مجرد راقص… بموهبة أكبر او اقل لم يكن هذا ليهم الكثيرين. 

كان مجرد راقص.. عالمي او محلي … عربي او فلسطيني… لم يكن ليهم هذا اكثرنا … 

فمن منا وكم منا يتفاعل مع رقص رجل؟ 

ولكنه لم يكن مجرد راقص في حياته.. كان شابا حالما مؤمنا بما أعطاه الله له من موهبة طورها وكبرها وشكلها ليكون مدرسة وايقونة لأجيال قادمة من الشبان الذي لا يرون في الرقص خلاعة ولا اقل رجولة ولا قصورا. 

ان يكون الرقص فنا بذاته. 

قد يعجبنا او ينفرنا لا يهم… ما يهم هو ايمان الانسان ذاته بما يقوم به … وهذا ما كان عليه ايمن صفية.

وحدنا كشعب ولو لعدة أيام بينما انشغلنا متضرعين بالتفتيش عنه والدعاء له. مئات الافراد من كل مكان انتشروا على الشواطئ في محاولات عديدة غير متوقفة من اجل المساعدة في ايجاده. المئات هبوا لبلدته لمؤازرة عائلته. الالاف المؤلفة مرسلين دعواتهم وصلاتهم وابتهالاتهم لعل البحر يرأف به. لعل معجزة تبقيه في حراك كما كان وسمه الأخير يشير. 

الالاف المختلفون عنه ومنه وعما يمثله وما يقوم به نسوا لأيام ما كان عليه من صفات، وركزوا بفعل جماهيري موحد على أهميته كإنسان مؤثر. وكأن الجميع استخسره بالموت… وكأن الجميع وصله عبير روحه الهائمة فوقنا رقصا شجيا. كم اثار ايمن صفية بنا الشجون وداعب وجداننا على مدار أيام. كم فرض قصته ورقصة المبدع علينا وكأنه معجزة أدركناها للتو وخفنا فقدانها…. وسحبها البحر الغادر منا بجبروت لا يميز الفروقات. بحر هائج يختار ما يبتلعه قربانا لجبروته الدائم. 

كم تمنى وسعى ايمن بينما كان بيننا في هذه الحياة بأن نراه، ان نقبله، ان نقدر فنه؟ 

وكم تكون روحه الآن في رقصتها الأخيرة فوقنا محلقة بسكينة البحر الذي هدأ للتو بعد ان امتلأ بعد قربان عظيم. 

هل ترمقنا روحه كما نظراته الأخيرة بحب وسخرية من ذلك البحر الذي ابتلع جسدا وحرر روحا لتخلق فوق البحر والأرض بموسيقى ايقاعها ما يمكن ان يخيل لنا من حراك ايمن بلا توقف؟ 

بقدر الأسى والاسف، بقدر الشعور بأن هناك ما هو اهم مما نعيشه على هذه الدنيا الفانية. وكأن المجد والخلود يكون لمن يستحقونه لا لمن يحفرون الأرض كالحوافر خرابا وعثيا. المجد لمن يمكن ان يحلق في السماء ليكون نجمة ابدية تسطع بنورها علينا وتذكرنا دوما بأن هذا الكون خلق للخلود من هؤلاء. 

أولئك الذين رفضوا ان يمروا بهذه الدنيا سدى… وإذا ما صاروا هباء منثورا. فهباءهم نجوما تضيء سماءنا لا غبارا تغرورق عيوننا.

الرحمة والراحة الأبدية لروح ايمن صفية 

والصبر والسلوان لذويه واحبته.

اترك رد