وهذه هي الروحُ التي نُشِّئَت عليها صوفية، وذلك بعنايةٍ أكثرَ مما بمشقَّة، وباتِّباع ذوقها أكثرَ مما بحَصرِه، والآن لنَقُل كلمةً حوْل شخصها وَفْقَ ما وصفْتُها به لإميلَ ووَفْق ما يتمثَّل إميلُ بنفسه الزوجةَ التي يُمكن أن تجعله سعيدًا.
ولا أكرِّر كثيرًا ترْكي النادرين جانبًا؛ فليس إميلُ منهم، وكذلك صُوفيةُ ليست منهم، وإميلُ رجلٌ، وصوفيةُ امرأة، وعلى هذا يقوم فخرُهما، وفي زماننا الذي يختلط فيه الجنسان يُعَدُّ من المعجزات تقريبًا أن يَلْزَمَ الواحدُ جنسَه.
وصوفيةُ حسنةُ المولدِ ذاتُ موهبةٍ طبيعية، ولها قلبٌ حَسَّاسٌ جِدًّا، وهذه الحساسية المتناهية تُنعِم عليها أحيانًا بنشاطٍ في الخيال يَصْعُب تعديله، ولها ذهنٌ ثاقبٌ أكثرُ منه صائبًا، ولها مِزاجٌ ليِّنٌ مع تَقَلُّب، ولها وجهٌ معتادٌ ولكنه مُستحَب، ولها سِيما تَنِمُّ على رُوح ولا تَكْذِب، وهي يُمكن أن تُقابَل بلا اكتراث، ولكنها لا تُترَك بلا اهتزاز. ويُوجَد مَن هُنَّ ذواتُ صفاتٍ تُعْوِزُها، ويُوجَد مَن هُنَّ ذواتُ صفاتٍ كصفاتها على أوسعِ مقياس، ولكنك لا تجدُ واحدةً منهن ذاتَ صفاتٍ أحسنَ توافقًا مع صفاتها في تأليفِ طبعٍ سعيد، حتى إنها تستطيع الانتفاع من عيوبها، فلو كانت أكثرَ كمالًا لظهرتْ أقلَّ وقوعًا موقعَ الرِّضا.
وليست صُوفيةُ جميلة، ولكنَّ الرجال يَنسون الحِسانَ بجانبها، ولا يَرضى الحِسان عن أنفسهن إذا ما كُنَّ بالقرب منها، وهي لا تكاد تكون مليحةً عند أوَّل نظرة، ولكنها تزدان كلَّما نُظِرَ إليها، وهي تربح حيث يخسر غيرُها، وهي لا تخسر ما تربح. أجلْ، يمكن أن تكون إحدى النساءُ أجملَ منها عَينًا، وأحسنَ منها فَمًا، وأروعَ منها وجْهًا، ولكنك لا ترى مَن هي أفضل منها قامة، وألطفُ منها لونًا، وأبيضُ منها يدًا، وأصغرُ منها رِجلًا، وأعذبُ منها نظرة، وأفعلُ منها مُحيَّا، وهي تَقِفُ النظرَ من غير أن تَبْهَر، وهي تَفتِن من غير أن يُعرَف السبب.
وتُحِبُّ صُوفيةُ الزينة، وهي تَعرِف أنْ تَزَّيَّنَ، ولا تَعرِف أمُّها لنفسها ماشطةً غيرَها، ولديها ذوقٌ كبيرٌ في حُسن اللباس، ولكنها تَكْره الثياب الفاخرة، وأنت تُبصِر في ثوبها بساطةً مع الأناقة دائمًا، وهي لا ترغب في الساطع، بل ترغب في اللائق، وهي تجهلُ أيُّ الألوان يكون على المُوضة، ولكنها تَعرف الألوان التي تلائمها بما يُثير العجب. ولا تجد فتاةً تَلوح لابسةً مع قليلِ تصنُّعٍ ومُزيَّنَةً مع كثير تكلُّف، ولا تستعمل قطعةً مصادفة، ومع ذلك لا تُبْصِرُ في أيٍّ من ذلك تَعمُّلًا، وتكون زينتُها كثيرةَ البساطة ظاهرًا كثيرةَ الظرافةِ حقيقة، وهي لا تَعْرِض محاسنَها مطلَقًا، وهي تُخفيها، ولكنها إذ تُخفيها تَعرِفُ أن تَحمِلَ على تصوُّرِها، ويُقال عندما تُرى: «هذه فتاةٌ متواضعةٌ عاقلةٌ.» ولكنكم إذا ما بقيتم بجانبها جالت عيونكم وأفئدتكم في جميع شخصها من غير أن تستطيعوا فصلهما عنها، فيُقال إن هذه الزينةَ البسيطةَ بهذا المقدار لم تُوضَع في محلِّها إلا لُتنزَع منه قطعةٌ بعد الأخرى بالخيال.
ولصُوفْيةَ مواهبُ طبيعية، وهي تَشعُر بها، ولم تُهمِلها، ولكن بما أنه لم يُتَح لها بذلُ كثيرِ حِذْقٍ في تثقيف هذه المواهب فقد اكتفت بتمرينِ صوتِها الجميلِ على الغناء مع الإحكام والذوق، وتمرينِ رجْليها الخفيفتَين على المشي برشاقةٍ وسهولةٍ ولطافة، كما مرَّنت نفسها على المجاملة في جميع الأوضاع بلا عُسْرٍ ولا جفاء. ثُمَّ إنه لم يَكُن لها مُعلِّمٌ للغناء غيرُ أبيها، ولم تكن لها مُعلِّمةٌ للرقص غير أمها، وقد تلقَّت من أُرْغُنِيٍّ جارٍ لها دروسَ مسايرةٍ في العزف على البِيَان، فأكَبَّتْ عليها وحدَها زمنًا طويلًا، وكان أوَّلُ ما فكَّرت فيه إظهارُ يدِها بتفوقٍ على تلك المفاتِح السُّود، ثُمَّ وجدت أن صوتَ البِيَان الحادَّ الجافَّ يجْعل رَنِينَ الصوتِ أكثرَ حلاوة، ثُمَّ صارت بالتدريج عارفةً بالإيقاع، وأخيرًا أخذتْ بعد أن كَبِرَت تشعُر بفُتون الأداء وتُحِبُّ الموسيقا لنفسها، ولكن هذا ذوقٌ أكثرُ من أن يكون نبوغًا، وهي لا تَعْرِف أن تقرأَ لحْنًا على النوتة مطلَقًا.
وأحسنُ ما تَعرِف صُوفيةُ وما عُلِّمَتْه بأعظمِ عنايةٍ هو أشغالُ جنسِها، حتى التي لا تَخطُر ببالكم مطلقًا، كتفْصيل ثيابها وخَيْطها، ولا يُوجَد شُغلٌ بالإبرة لا تَعْرفه ولا تأتيه بلذَّة، غيرَ أن التخريم هو الشُّغل الذي تُفضِّله على سواه؛ وذلك لأنه لا يوجدُ كالتخريم شُغْلٌ يَمْنحُ وضْعًا أعظمَ لطافةً وتُزَاوله الأصابعُ بظَرَافة وخِفَّة. وكذلك تعاطت جميعَ أمورِ المنزل مُفَصَّلًا، وهي تَعْرف الطَّهْو وخِدْمة السُّفرة، وهي تَعْرف أثمانَ الموادِّ الغذائية وخواصَّها، وهي تَعْلم قيدَ الحسابات جيِّدًا، وهي تَصْلُح أن تكون رئيسةَ خَدَمٍ لأُمِّها، وهي إذْ كُوِّنت لتكون أمَّ أُسْرَةٍ ذات يوم، وهي إذ تتعلَّم إدارةَ منزلِ أبيها، تتعلَّمُ إدارةَ منزلها، وهي تستطيع أن تقومَ بوظائفِ الخَدَم فتفعَلُ هذا طَوْعًا، وما كنتم لتعرفوا أن تُحسِنوا الأمرَ بشيءٍ لا يُمكنكم أن تُنفِّذوه بأنفسكم، وهذا هو السببُ في شَغْلِ أمِّها إياها على هذا الوجه. وما كانت صُوفيةُ لتُبعِدَ في الموضوع بهذا المقدار؛ فواجبها الأوَّل هو واجب البنت، وهذا الواجب وحدَه هو الذي تَرى أن تقوم به في الوقت الحاضر، وكلُّ ما تنظُر إليه هو أن تخدُمَ أمَّها، وأن تُخفِّفَ عنها بعض أعمالها. ومع ذلك، فإن من الواقع أنها لا تقوم بجميع هذه الأعمال بلذَّةٍ متساوية، ومن ذلك مثلًا أنها لا تحبُّ الطهو مع أنها نَهِمَة، وذلك لما تنطوي عليه جزئياته من عواملِ نفورها؛ فما كانت لِتَجدَ فيه نظافةً كافية. وهي فوق ذلك ذاتُ لطافةٍ متناهية، فلما أفرطت في هذه اللطافة تحوَّلت إلى إحدى نقائصها، وهي تُفضِّل أن تأكل النارُ جميعَ الغداء على تلويث كُمِّها، وهي لم ترغب قَطُّ في تفقُّد الحديقة لذات السبب؛ فالترابُ يَلُوح لها أنه قَذِر، وهي إذا ما رأت الزِّبْل خُيِّلَ إليها أنها تَشَمُّ رائحته.
وهذه النقيصةُ نتيجةُ دروسِ أمِّها، وعندها أن النظافة من أوَّلِ واجبات المرأة، هذا الواجب الخاص اللازم المفروض من قِبَل الطبيعة، ولا يوجد في العالم شيءٌ أدعى إلى الاشمئزاز من امرأةٍ قَذِرة، ولا يكون الزوج الذي يشمئزُّ منها مخطئًا مطلَقًا. والأم قد أكثرت من وعظِ ابنتها بهذا الواجب منذ طفولتها، وهي قد استلزمت كثيرَ نظافةٍ لنفسها وثيابها وغرفتها وشغلها وزينتها، فتحوَّلت هذه العناية إلى عادةٍ وصارت تستوعب قِسمًا كبيرًا من وقتها مع السيطرة على القسم الآخر؛ فلا يأتي إتقانُ ما هي مُكلَّفةٌ بصنعه في غير المرتبة الثانية من جهودها، وأمَّا المرتبة الأُولى فهي وقفٌ على صُنْعه نظيفًا.ومع ذلك، فإن جميع هذا لم ينحطَّ إلى تصنُّعٍ فارغ، ولا إلى نعيم؛ فلا محلَّ هناك لدقائق التَّرف، وما كان ليَدْخل منزلَها غيرُ الماء الزُّلال، وما كانت لتعرِفَ عِطْرًا غيرَ شذا الأزهار، وما كان زوجها ليَشَمَّ ما هو أحلى من نَكْهتها،١٦⋆ ثُمَّ إن ما تُعيرُه المَظهَر من عنايةٍ لا يُنسيها أنها مدينةٌ بحياتها وزمانها لعواملَ أكثرَ نُبْلًا؛ فهي تَجْهل أو تزدري هذا الإفراطَ في نظافة البدن التي تُدنِّسُ الرُّوح؛ فصُوفيةُ أكثرُ من نظيفة، هي طاهرة.
وقلتُ إن صُوفيةَ نَهِمة، ومن الطبيعي أن كانت نَهِمة، بَيْدَ أنها صارت قَنُوعًا عن عادة، والآن هي قَنُوعٌ عن فضيلة، ولا يُوجَد من البنات، كما يوجد من البنين، مَن يمكن أن يُسَيْطَر عليهن بالنَّهَم إلى حدٍّ ما، وليس هذا الميلُ بلا عواقبَ في الجنس النِّسْوي مطلَقًا؛ فمن الخطر الكبير أن يُترَك وشأنَه. وكانت صُوفيةُ الصغيرةُ في طفولتها إذا ما دخلت غرفةَ أمِّها وحدَها لا ترجِعُ منها فارغةً دائمًا؛ فهي لم تكن أمينةً عند كل امتحانٍ حول أقراص السُّكر والمُلَبَّسات، وقد فاجأتها أمُّها وعزَّرتها وعاقبتها وصوَّمتها، وأخيرًا وُفِّقَت أمُّها لإقناعها بأن المُلَبَّس يُفْسِد الأسنان، وبأن النَّهَم يُضخِّم القوام. وهكذا أصلحت صُوفيةُ نفسها، فلما كبُرَت انتحلتْ من الأذواق ما حوَّلها عن تلك الحِسِّيَّة الوضيعة. والقلبُ إذا ما انتعش عند النساء كما عند الرجال عادَ النَّهَم لا يكون نقيصةً مسيطرة. وقد حافظت صُوفيةُ على الذوق الخاصِّ بجنسها؛ فهي تُحِبُّ الألبان والحلاوَى، وهي تُحِبُّ المَعْجونات والمأْدُومات، ولكن مع مَيلٍ قليلٍ إلى اللحم. وهي لم تَذُقْ قَطُّ خمرًا ولا مُسْكِرًا مُقَطَّرًا، وهي، فضلًا عن ذلك، معتدلةٌ كلَّ الاعتدال في طعامها. ولا غَرْو؛ فجنسُها أقلُّ كَدْحًا من جنسنا؛ ولذا فهو أقلُّ من هذا احتياجًا إلى تجديد النشاط، وهي في كلِّ شيءٍ تُحِبُّ ما هو طيِّبٌ وتَعرِف أن تذوقه، وهي تَعرِف أيضًا أن تكتفي بما هو غيرُ جيد، وذلك من غير أن يصعُب عليها هذا الحرمان.
وصوفيةُ مقبولةُ الذِّهنِ من غير تألُّق، وصوفيةُ قويةُ الذِّهنِ من غيرِ عُمْق، وصوفيةُ ذاتُ ذهنٍ لا يُحَدَّث عنه مُطلَقًا لِمَا لا تَبدو أكبرَ مما هي عليه أو أصغر، ولها من الذهن ما تَرُوقُ به مَن يُكلِّمونها دائمًا وإن لم يكن من التجميل ما يطابِق الفكرَ الذي يساورنا حوْل تهذيب ذهن النساء؛ وذلك لأن ذهنَها لم يُكوَّن بالقراءة قَط، بل كُوِّن بأحاديثِ أبيها وأمِّها وبتأمُّلاتها الخاصة، وما تم لها من ملاحظاتٍ فيمن رأت من أناسٍ قليلين. ومن الطبيعي أن ظهرت صُوفيةُ ذاتَ مَرَح، حتى إنها كانت لَعوبًا في طفولتها، غير أن أمَّها عُنِيَت بزَجرِ مناحيها الطائشة بالتدريج، وذلك خشيةَ أن يقع سريعًا من التغيير المفاجئ ما تَطَّلِعُ به على الوقت الذي تكون فيه مُبْتغاة؛ ولذا فقد صارت متواضعةً متحفِّظةً حتى قبل أن تبلغ ذلك، والآن حَلَّ ذلك الوقتُ فصار أسهلَ عليها أن تحافظ على الوضع الذي اتخذته من انتحاله مع عدم بيان السبب في هذا التحوُّل. ومن الأمور المستحبَّة أن تُرى في بعض الأحيان عاكفة، ببقيةٍ من العادة، على نشاط الطفولة، ثُمَّ أن تَعود إلى نفسها بغتةً فتبدو صامتةً مُطرِقَةً مُحمَرَّة، ولا عجب؛ فلا بُدَّ في الدَّور الفاصل بين العُمُرَين من تَسَرُّب شيءٍ منهما فيه.
وصوفيةُ مِن فَرْط الإحساسِ ما لا تُحافِظ معه على اعتدالٍ كاملٍ في المِزاج، ولكنها من فرْط اللطف ما لا يكون هذا الإحساسُ معه كثيرَ الإزعاجِ للآخرين. وهي لا تُؤلِم غيرَ نفسِها بذلك، وإذا ما وُجِّهَت إليها كلمةٌ لاذعةٌ لم تُظْهِر استياءها، ولكنَّ قَلْبها ينتفخ، فتحاول أن تُفلِت لتذهبَ وتبكي. وإذا ما ناداها أبوها أو أمُّها بكلمةٍ واحدةٍ وهي تبكي أتت من فوْرها لاعبةً ضاحكةً مُكفكِفةً دموعَها بلباقةٍ محاولةً كَتْمَ زَفَراتها.
ثُمَّ إنها غيرُ خاليةٍ من النَّزوة، فإذا ما نُخِزَتْ مِزَاجًا تمرَّدت ونَسِيَت نفسَها، ولكن إذا ما تَرَكتُم لها وقتًا تَعُودُ فيه إلى نفسها عُدَّت لها فضيلةٌ تقريبًا بالوجه الذي تمحو فيه خطأها، وإذا ما عُوقِبَت بَدَت طائعةً خاضعة، وظَهَرَ أن حياءها يَصْدُرُ عن ذنْبِها أكثرَ مما عن عِقابها، وإذا لم تُقَل لها كلمةٌ لم يُعوِزْها أن تمحوَه بنفسها، ولكن بإخلاصٍ كبيرٍ ولطفٍ كثيرٍ يتعذَّر معهما أن يَتْرُك ذلك أثرًا للضغينة، وهي تُقبِّلُ الأرضَ أمام أحقرِ خادم، وذلك من غيرِ أن يُوجِب هذا الاتِّضاعُ أقلَّ ألَمٍ فيها، وهي إذا ما عُفي عنها نَمَّ فرَحُها واغتباطُها على مقدارِ الحِمْل الذي أُزيح عن فؤادها. والخلاصةُ أنها تحتمل خطأ الآخرين صابرة، وأنها تُصلِحُ خطأها مسرورة، وهذا هو طَبْعُ جنسِها الجميلُ قبْل أن نُفسِده، وقد صُنِعَت المرأة لتُذعِن للرجل، ولتحتمل حتى جَوْره، ولن تُحوِّلوا فتياتِكم إلى النقطة عينِها؛ فالشعور الباطنيُّ يرتفع ويثور ضدَّ الجَوْر، ولم تصنعهن الطبيعةُ للتسامح فيه.
«فذاك هو الغضبُ المشئومُ الناشئُ عن ابنِ بِيلِه الشَّرِس.»
ولِصُوفيةَ دِين، ولكنه دِينٌ معقولٌ بسيطٌ مع عقائدَ قليلةٍ وعباداتٍ أقلَّ منها، أو إنها لا تعرفُ من الشَّعائرِ الجوهريةِ غيرَ الأدبي؛ فهي تَقِفُ جميعَ حياتِها على عبادةِ الربِّ بصُنْعِ الخير. وقد عَوَّدها أبواها أن تُبديَ خضوعَ احترامٍ في جميعِ المعارفِ التي حَبَوَاها بها حَوْل هذا الموضوع؛ إذ يقولان لها: «يا بُنيَّة، إن هذه المعارفَ لا تناسِبُ سِنَّك، وسيُعلِّمُك زوجُك إياها في الوقتِ المناسب.» ثُمَّ إنهما بدلًا من الإسهابِ في الكلامِ عن التَّقوى يكتفيان بوعظِها على مثالهما، وهذا المِثالُ منقوشٌ على فؤادِها.
وتُحِبُّ صُوفيةُ الفضيلةَ، وصارَ هذا الحبُّ هواها المُهيمِنَ، وهي تُحِبُّ الفضيلةَ لأنه لا يوجدُ ما هو جميلٌ كالفضيلة، وهي تحب الفضيلةَ لأنها تؤدي إلى مجدِ المرأة، ولأن المرأةَ الفاضلةَ تبدو لها كالملائكةِ تقريبًا، وهي تحب الفضيلة لأنها الطريقُ الوحيد للسعادة الحقيقية، وهي تحب الفضيلة لأنها لا ترى غيرَ البؤس والإهمال والشقاء والعار والخزي في حياة المرأة غيرِ المستقيمة. ثُمَّ إنها تحب الفضيلةَ لأن الفضيلةَ عزيزةٌ على أبيها الجليل وأمها الحنون الوقور، ولا يكتفي هذان الوالدان بأن يكونا سعيدين بفضيلتهما الخاصة، بل يريدان أن يَسْعدا بفضيلتها أيضًا، وهي تُبْصِر سعادتَها الأُولى في رجائها أن تجعلهما سعيدَين، وتوحي جميعُ هذه المشاعر إليها بحماسةٍ ترتفع بها روحًا وتُعَبِّدُ بها جميعَ ميولها الصغيرة لهوًى نبيلٍ جِدًّا. وستكون صُوفيةُ طاهرةً صالحةً حتى النفَسِ الأخيرِ من حياتها، وقد أقسمتْ على هذا في صميمِ فؤادها، وهي قد أقسمتْ على ذلك في وقتٍ كانت تُدرك فيه كلَّ ما ينطوي عليه البِرُّ من قيمة، وهي قد أقسمتْ على ذلك في وقتٍ كانت تَحْنَثُ فيه لو كانت حواسُّها قد كُوِّنت لتسيطر عليها.
ولم تَسْعَد صُوفيةُ بأن تكون فاتنةً فرنسية، فاترةً عن مِزاج، مِغْناجًا عن زهو، راغبةً أن تُشْرِق أكثرَ من أن تَرُوق، باحثةً عن اللهو لا عن السرور، وتُضنيها ضرورةُ الحبِّ الوحيدة، وتَشغلُها وتُقْلِق بالَها في الأعياد، وقد فَقَدَت مَرَحها السابق، وعادت الألعابُ المَرِحة لا تلائمها. وهي تبحث عن العُزلة بدلًا من أن تخشاها، وفي العُزلة تفكِّر فيمن يجب أن يجعلها حُلوة، ويُزعِجها جميعُ الأخلياء، وتحتاج إلى عاشقٍ لا إلى بِطانة، وتُفضِّل أن تروقَ رجلًا كريمًا واحدًا، وأن تقع موقعَ الرِّضا عنده دائمًا، على أن تنال استحسان مجتمعٍ يدوم يومًا ثُمَّ يتحوَّل إلى سخريةٍ في الغد.
ويتكوَّن الحُكم في النساء بأسرعَ مما في الرجال، وبما أن النساء يَكُنَّ في وضْع المُدافع منذ طفولتهن تقريبًا، وبما أنهن يَكُنَّ مُثْقَلاتٍ بوديعةٍ يَصعُب حفظُها، فإن الخير والشر يكونان معروفَيْن عندهن بأسرعَ مما عند الرجال بحُكم الضرورة، وكذلك صوفيةُ، الناضجةُ باكرًا في كل شيءٍ نتيجةً لمِزاجها، ذاتُ حُكمٍ أسرعَ تَكَوُّنًا مما عند البنات اللاتي هُنَّ في مثلِ عُمُرها، ولا شيءَ خارقٌ للعادة في هذا؛ فالبلوغ في الوقت نفسِه لا يكون على وتيرةٍ واحدةٍ في كل مكان.
وتَعْرف صُوفيةُ واجباتِ الجنسين وحقوقَهما، وتَعْرف نقائصَ الرجال ومعايبَ النساء، وتَعْرف أيضًا ما تباينَ من الفضائل والصفات، وقد طبعتهما جميعًا في صميم قلبِها، ولا يمكن تكوينُ فكرٍ عن المرأة الصالحة أرفعَ من الذي تمثَّلتْه عنها، وما كانت هذه الفكرة لتُرعبها مطلَقًا، ولكنها تُفكِّرُ بارتياحٍ أكثرَ من ذاك في الرجل الصالح، في الرجل الفاضل، فتُحِسُّ أنها كُوِّنت لهذا الرجل الذي تليقُ به، فتستطيع أن تُعيدَ إليه السعادةَ التي تنالُها منه، وهي تشعُر بأنها ستعرفه جيِّدًا؛ فالأمر يتوقَّف على لُقيانها إياه.
ومن الطبيعي أن يكون النساءُ قاضياتٍ في مَزِيَّة الرجال كما يكون الرجالُ قُضاةً في مَزِيَّة النساء، وتُعَدُّ هذه من حقوقهما المتبادَلة، ولا يجهَلُ هذا أيٌّ من الفريقين، وتَعرف صُوفيةُ هذه الحقوق وتُمارِسها، ولكن مع ما يلائم فتاءها وتجرِبتها ووضعها من التواضع، وهي لا تحكُم في غيرِ الأمور التي تكون في متناوَلها، وهي لا تحكُم فيها إلا عندما يَنْفَع هذا في تنوير بعض المبادئ المفيدة، وهي لا تتكلَّم عن الغائبين إلا بحَذَرٍ كبير، ولا سيَّما النساءُ إذا ما كنَّ غائبات، وهي ترى أن الذي يجعلهن مغتاباتٍ هاجياتٍ هو الحديثُ عن جنسهن، فإذا ما اقتصرن على الكلام عن جنسنا لم يَكُنَّ غيرَ منصفات؛ ولذا فإن صوفية تقتصر على هذا، وأمَّا النساءُ فإنها لا تتكلم عنهن مُطلَقًا إلا لتقول عنهن ما تعرف من خير، وهذا إكرامٌ يجب عليها أن تقوم به نحو جنسها على ما تعتقد، وأمَّا اللائي لا تَعْرِف خيرًا تقوله عنهن فلا تُحدِّثُ عنهن بشيء، وهذا يكفي.
وصوفيةُ قليلةُ المعرفة بالنَّاس، ولكنها ذاتُ مُرُوءة وانتباه، وتُظهِرُ لُطفًا في كلِّ ما تصنع، وما فُطِرَت عليه من طبْعٍ مبَاركٍ أنفعُ لها من كثيرِ شطارة، وهي ذاتُ أدبٍ خاصٍّ بها غيرِ تابعٍ للصِّيَغ، وغيرِ مُسخَّرٍ للمُوضات؛ فلا يتغيَّر بتغيُّرها، وغيرِ صانعٍ شيئًا عن عادة، بل صادرٌ عن رغبةٍ صادقةٍ في الوقوع موقعَ الرِّضا، فيروق فعلًا، وهي لا تَعْرف المجاملات المبتذَلة مُطلَقًا، ولا تبتكِر من المجاملات ما ينطوي على كبيرِ تكلُّف، وهي لا تقول إنها مَدينةٌ لفضلٍ، أو ذاك يُشرِّفها كثيرًا، أو لا يُتعِبُ ذلك نفسَه … إلخ. وأقلُّ من هذا أيضًا أن يَخْطُر ببالها انتحالُ جُمَلٍ لنفسها، وهي تُجيبُ عن انتباهٍ أو أدبٍ معتادٍ بحنْوِ الرأس أو بكلمة «شكرًا» البسيطة، وذلك مع العلم بأن نُطقَها بهذه الكلمة يُجزئ عن غيرها. وإذا ما أُسدِيَ إليها بخدمةٍ دَعتْ قلبَها يتكلَّم، وليس كلامُ الفؤاد ضرْبًا من المجاملات، وهي لم تُطِق مطلَقًا أن تُعبِّدَها العاداتُ الفرنسية لنِيرِ المظهر، كأن تَمُدَّ يدَها عند مرورها بين غرفةٍ وأخرى إلى ذراعِ شيخٍ في الستين من عُمُره مساعدةً له، وإذا ما عَرض مِغْنَاجٌ مُعطَّرٌ عليها القيامَ بهذه الخدمةِ النابية تركت الذراعَ المتكرِّمة على السُّلَّم وطارت إلى الغرفة بوثبتَين قائلةً إنها ليست عَرْجاء. والواقع أنها، وإن لم تكن طويلة، لم تَرغبْ في الأعقاب العالية قَط؛ فهي مِن صِغَرِ الرِّجْلَيْن ما تستغني معه عنها.
ولا تلتزمُ جانبَ الصمت، وتقوم بالاحترام نحو السيدات فقط، بل تفعل ذلك نحو الرجال المتزوجين أيضًا، أو نحوَ مَن يكبُرونها في السِّن كثيرًا، وهي لا تَقْبل مُطلَقًا مكانًا فوقَهم إلا عن طاعة، ثُمَّ لا تَلْبث أن تتخذَ مقعدًا لها تحتهم عندما يُمكنها ذلك؛ فهي تعلَم أن حقوق السِّن فوق حقوق الجنس، وذلك لما يُفتَرَض من ملازمة الحكمة للمشيب، والحكمةُ هي ما يجب أن يُكرَم قبْل كلِّ شيء.
والأمر غيرُ ذلك تجاه الشباب؛ فهي تستلزم وضعًا مختلفًا عن ذاك نَيْلًا لاحترامهم، وهي تناله من غير أن تُغيِّر ما يناسبها من تواضع، وإذا ما كانوا متواضعين متحفِّظين، أمكنها أن تتخذَ نحوَهم ما يقتضيه الفَتَاءُ من دالَّةٍ مستحَبة، وقامت أحاديثُهم البريئة على المُزاح، ولكن مع الاحتشام، وإذا ما التزموا جانبَ الجِدِّ وَدَّتْ أن يكونوا نافعين، وإذا ما أسَفُّوا لم تَلبَث أن تُسكِتَهم؛ وذلك لأن أخصَّ ما تزدريه هو رَطانةُ المغازلة المُهينةُ كثيرًا لجنسها، وهي تَعْلَمُ جيِّدًا أن الرجل الذي تبحث عنه خالٍ من هذه الرَّطانة، فلا تحتمل عن اختيارٍ أن يَصدُر عن آخرَ ما لا يناسبُ الرجلَ المطبوعةَ أخلاقُه في صميمِ فؤادها، وما عندها من رأيٍ عالٍ عن حقوق جنسِها، وما يُسفِر عن صفاء مشاعرها من زهوٍ في النفس وما تُحِسُّه من فضيلةٍ في نفسها فيجعلها محترمةً في نظرها الخاص؛ أمورٌ تَحمِلُها على الإصغاء مع الغيظ إلى الأحاديثِ التافهةِ الحلاوة التي يُزعَم أنها تُسلِّيها، أجلْ، إنها لا تتلقَّاها بغيظٍ ظاهر، ولكن بهُتافٍ ساخرٍ يُفحِم، أو بفتورٍ غيرِ منتظَر. ولو بَرَزَ لها رجلٌ جميلٌ مِثلُ فِيبُوسَ فأظهَرَ لها ظرَافته، وأبدى لها من المَلاحة ما مَدَحَ معه جمالَها وألطافَها نَيْلًا لشرف الوقوع عندها موقعَ الرِّضا، لوَجَد فيها فتاةً تُسكِتُه بقولها المؤدَّبِ له: «أخشى كثيرًا يا سيِّدي أن أكون عارفةً بهذه الأمورِ أكثرَ مما تَعرِف، فإذا لم يَكُن لدينا ما هو أمتَعُ من هذا للكلام، فإنني أظنُّ أننا نستطيع أن نَضَع حدًّا لهذا الحديث.» وليس إرفاقُ هذه الكلمات باحترامٍ كبيرٍ ثُمَّ الابتعادُ عنه عشرين خُطوةً غيرَ عملِ ثانية، واسألوا فاتِني النساءِ لديكم هل من السهل أن يُداوَم على الهَذْر مع نَفْسٍ غيرِ هَيِّنةٍ كتلك.
ومع ذلك، فإن ذلك لا يَعني أنها لا تُحِبُّ أن تُمْدَح مُطلَقًا، وإنما تريد الإخلاص في المدح، فيُمكنها أن تعتقد أن المادح مؤمنٌ بما يقول لها من خيرٍ في الحقيقة، وقد يلاطِفُ الولاءُ القائمُ على التقدير فؤادَها الأبيَّ، ولكنَّ كلَّ غَزَلٍ خادعٍ يُقابَل بالرفض دائمًا؛ فلمْ تُكوَّنْ صُوفيةُ لِتُمارِسَ مواهبَ حقيرةً كمواهب البَهْلَوَان.
وما كانت صُوفيةُ لِتُعامَل مِن قِبَل والديها كما يُعامَل الأولاد بعد ذاك النُّضج في الحُكم وذاك التكوين الخليق من كلِّ ناحيةٍ بفتاةٍ في العشرين من عُمُرها مع أنها في الخامسة عشرة من سِنيها، وهما لا يكادان يُبصِران فيها أوَّلَ هموم الشباب حتى يُبادرا إلى تلافيها فيخاطباها بكلامٍ ليِّنٍ رَصين، والكلامُ الليِّنُ الرصينُ مما يلائم سِنَّها وطبْعَها، وإذا كان طبعُها كما أتصوَّرُ فلِمَ لا يخاطِبُها أبوها كما يأتي تقريبًا:
«أيْ صوفية، لقد كَبِرْتِ كما نرى، وستصبحين امرأةً عما قليل، ونريد أن تكوني سعيدة، ونُريدُ هذا من أجْل أنفسنا؛ وذلك لأن سعادتنا تتوقَّف على سعادتك، وتقوم سعادة البنت الصالحة على صنْع سعادة الرجل الصالح؛ ولذا فلا بُدَّ من التفكير في تزويجك، ويجب أن يُفكَّر في ذلك باكرًا؛ فعلى الزواج يتوقَّف مصيرُ الحياة، وليس لدينا وقتٌ كبيرٌ للتفكير في أمره.
ولا شيءَ أصعبُ من اختيار الزوج الصالح، إن لم تكن الصعوبة في اختيار الزوجة الصالحة على ما يُحْتَمل. أيْ صوفية، ستكونين هذه المرأة النادرة، وستكونين تاجَ حياتنا وسعادةَ أيامنا الآفلة، ولكن مهما تَكن المَزِيَّةُ التي تتصفين بها فإنه لا يُعْوِزُ الأرضَ رجالٌ يكونون أعظمَ مَزِيَّةً منك، ولا يُوجَدُ في الأرض رجلٌ لا يُشَرِّفه أن يفوزَ بك، وفي الأرض رجالٌ تفوزين بشرفٍ منهم أكثرَ مما يفوزون، ويَدورُ الأمرُ حولَ لُقيانِ رجلٍ يلائمكِ، وأن يُعرَفَ، وأن يُعرَّف بك.
ويتوقَّف أعظمُ سعادةٍ في الزواج على كثيرٍ من الموافَقات التي يُعَدُّ من الحماقة أن يُرادَ جمعُها كلُّها، وأوَّل ما يَجِبُ هو أن يُضمَن أهمُّها، فإذا ما وُجِدَت الأخرى بينها كان هذا خيرًا، وإذا لم تُوجَد استُغنيَ عنها. أجلْ، إن السعادة الكاملة غيرُ موجودة في العالَم، ولكن أعظم المصائب، وهي التي يُمكِنُ اجتنابُها دائمًا، أن يكون الإنسان شقيًّا بخطأ منه.
ومن الموافقات ما هو طبيعي، ومنها ما هو وضعي، ومنها ما هو تابعٌ للرأي العامِّ وحدَه، فأمَّا النوعان الأخيران فالأبَوَان قاضيان فيهما، وأمَّا النوع الأوَّل فالأولادُ قضاةٌ فيه، ويُستَنَدُ إلى الموافقات الوضعية وإلى الموافقات التابعة للرأي العام حَصْرًا في الزواجات التي تَتمُّ بسلطان الآباء. والأحوالُ والأموالُ لا الأشخاص هي التي تُزوَّج هنا، غير أن جميعَ هذا يُمكن أن يتغيَّر، والأشخاصُ وحدَهم هم الذين يبقَون دائمًا، والأشخاص يكونون حيث هم في كلِّ مكان، وليس بغير الصِّلات الشخصية ما يُمكِنُ أن يكون الزواجُ سعيدًا أو سيِّئًا، وذلك على الرغم من الثراء.
وكانت أمُّك حسيبة، وكنتُ غنيًّا، وهذان العاملان وحدَهما هما اللذان حَمَلا وَالِدَيْ كُلٍّ مِنَّا على جمْع ما بيننا، وقد أضعتُ أموالي، وقد أضاعت اسمَها، وما فائدتها اليوم من كَوْنها قد وُلِدَت آنسةً بعد أن نُسيَت من قِبَل أُسْرتها؟ لقد أسْلانا اتحادُنا عن كلِّ شيءٍ في جميع مصائبنا، وكان من تَوافُق أذواقنا أن اخترنا هذه العزلة، فنعيش فيها سعداء مع الفقر، وكلٌّ مِنَّا كلُّ شيءٍ في نظر الآخَر، وصوفيةُ هي كنزُنا المشترَك بيننا، ونشكُر لله إنعامَه علينا بها ونَزْعَه مِنَّا كلَّ شيءٍ غيرَها. وانظري يا بنيتي إلى أين ساقتنا العنايةُ الربَّانية؛ فقد زالت الموافقات التي جعلتنا نتزوج، ولسنا سعيدَين بغير الموافقات التي لم يُؤبَه لها.
ويجب على الزوجين أن يختار كلٌّ منهما الآخر، ويجب أن يكون مَيلُهما المتبادَلُ أوَّلَ رابطةٍ بينهما، ويجب أن تكون عيونُهما وقلوبُهما أدلَّاءهما الأُولى، وذلك بما أن واجبهما الأوَّل بعد أن يتزوَّجا هو أن يتحابَّا، وبما أن الحُبَّ أو عدم الحُبِّ أمرٌ لا يتوقَّف علينا مُطلَقًا، فإن هذا يستلزم واجبًا آخَر بحكم الضرورة، وهو أن يُبدأ بالتحابِّ قبْل الاقتران، وهذا هو حَقُّ الطبيعة الذي لا يستطيع شيء أن يَنْقُضه، وقد عُنيَ الذين ضايقوا هذا الحقَّ — بكثيرٍ من القوانين المدنية — بالنظام الظاهر أكثرَ مما بسعادة الزواج وطِباع المواطنين؛ ومِنْ ثَمَّ تَرين يا صوفية أننا لا نَعِظُكِ بأدبٍ صَعْب، وهذا الأدب لا يهدِفُ إلى غيرِ جعْلِ أمْرِك بيدك، تاركين لكِ أمرَ اختيار زوجك بنفسك.
وإنَّا بعد أن حدَّثناكِ عن الأسباب في تركنا لكِ كلَّ الحرية، يُعَدُّ من الصواب أن نُحدِّثك أيضًا عما لديك من أسبابٍ في استعمال هذه الحرية بحكمة. فيا بُنيَّتي، أنت صالحةٌ رشيدة، وعندك إنصافٌ وتقْوَى، ولديكِ من المواهب ما يناسب النساء الصالحات، ولستِ خاليةً من الألطاف، ولكنك فقيرة، وأنت حائزةٌ لأكثرِ المحاسن أهلًا للتقدير، ويُعْوِزُك أكثرُ ما يُقدَّر منها، ولا تبتغي إذن غيرَ ما تقدِرين على نَيله، ونَظِّمي طموحك وَفْقَ رأي الرجال، لا على حَسَبِ أحكامِك وأحكامِنا، وإذا ما دار الأمر حوْل تساوي المزايا فإنني لا أدري عَلَامَ يجِبُ أن أجعل آمالَك قاصرة، ولكن حَذَارِ أن تَرفعيها إلى ما فوق نصيبك مطلقًا، ولا تنسي أنه من المرتبة الدنيا، ومع أن الرجلَ الخليقَ بكِ لا يَعُدُّ هذا التفاوتَ عائقًا، فإنه لا يجوز لك أن تصنعي إذ ذاك ما لا يَصنع، فعلى صوفية أن تسير على غِرار أمِّها، وأن تدخُلَ أُسْرَةً تُفاخِر بها، وأنتِ لم تَرَيْ يُسرَنا قَط، وأنتِ قد وُلِدْتِ في دَوْر عُسْرِنا فقط، وأنتِ قد جعلتِ فقرنا حُلوًا لدينا، وأنت تقاسميننا إياه بلا عناء، وثِقي بي يا صوفية، ولا تطلبي أموالًا نحْمدُ الله على أنه أنقذنا منها؛ فنحن لم نَذُقْ طعمَ السعادة إلا بعد أن خسرنا الثراء.
أنتِ من كثرةِ اللُّطف ما تَروقين معه كلَّ إنسان، وليس بؤسُك من الحال ما ينقبِضُ معه صدرُ الرجل الصالح منك. وستُخْطَبين، وقد تقعُ خِطْبَتُك من قِبَل أناسٍ لا نرغب فيهم، وهم إذا ما أظهروا أنفسَهم على حقيقتهم أمكنك أن تقدِّريهم بقيمتهم، فما كان مظهرُهم ليَخدَعَك زمنًا طويلًا، ولكن مهما يَكُنْ من صلاحِ حُكْمِك ومن حُسْن معرفتِك بالمَزِيَّة، فإن التجرِبة تُعْوِزُك ولا تعرفين مدى قدرة الرجال على التَّنكُّر، ومن ذلك أن الماكر الماهر يستطيع أن يَدرُس أذواقك لإغوائك وأن يُظْهِر أمامَك ما ليس فيه من الفضائل مُطلَقًا، فيكون سببَ ضياعكِ يا صوفية قبْل أن تعرفي، ولا تعرفين خطأك إلا للبكاء. وأشدُّ الأشراك خَطَرًا، وهو الذي لا يستطيع العقل اتِّقاءَه، هو شَرَكُ الحواس، وإذا كنتِ من الشقاء ما تَقَعين فيه لم تُبْصِري غيرَ الأحلام والأوهام، فستُسْحَرُ عيناك، وسيختلُّ حُكمُك، وسيفسُد عزْمُك، حتى إن خطأك سيكون عزيزًا عليك. وعندما يُتاح لك بعد ذلك أن تَريه لا يُروقُك أن تترُكيه. فيا بُنيتي، أسلِّمُكِ إلى عقلِ صوفية، ولا أُسلِّمُك إلى مَيْلِ قلبِها مطلقًا، وابقَي قاضيةَ نفسِك ما دُمتِ رابطة الجأش، فإذا ما أحببتِ فأعيدي إلى أمِّك أمرَ العناية بك.
وأقترحُ عليكِ وَضْعَ اتفاقٍ يُبيِّنُ لك تقديرَنا ويُعيدُ النظامَ الطبيعيَّ بيننا، ومن مُقتضى العادةِ أن يختار الأبوان زوجَ البنتِ وألَّا يستشيراها إلا شكْلًا، وسنصنع غيرَ هذا بيننا؛ فستختارين وسنُسْتَشَار، فمارسي حقَّكِ في ذلك يا صوفية بحريَّةٍ وحكمة، فيجب أن يكون اختيارُ الزوج الذي يلائمكِ من حقِّك لا من حقِّنا، ولكن من حقِّنا أن نحكُم في كونكِ قد خُدِعْتِ في الموافَقات، وفي كونكِ تأتين أمرًا غيرَ ما تريدين من غيرِ أن تعرفي ذلك، ولا يدخل الأصلُ والمال والمقام والرأي العام في بواعثنا مطلَقًا، واتخذي لك رجلًا صالحًا يروقُكِ شخْصُه وتلائمك أخلاقُه، وليكُن بعد ذلك مَن شاء، فسنَرضى به صهرًا لنا، وسيكون ذا رزقٍ كافٍ دائمًا إذا ما كان ذا ذراعين وأخلاق، وكان مُحِبًّا لأسرته، وسيكون ذا مقامٍ مرموقٍ دائمًا إذا ما شرَّفه بالفضيلة، وما يُهِمُّنا إذا ما لامنا جميعُ العالَم؟ فنحن لا ننشُد موافقةَ النَّاس، ونحن نكتفي بسعادتك.»
ويا أيها القراء، إنني أجهل أيُّ أثرٍ يكون لمثل هذا الكلام في البنات اللائي يُنشَّأن على طريقتكم، وأمَّا صوفية فيُمكِنُها ألَّا تُجيب عنه بالأقوال، فما تتصل به من حياءٍ ورِقَّةٍ يمنعُها من التعبير عما في نفسها بسهولة، ولكنني مطمئنٌّ إلى أنه سيبقى منقوشًا في قلبِها ما دامت حيَّة. وإذا كان من الممكن أن يُعتمَد على حُكمٍ بشريٍّ فهو الحُكْمُ الذي تكون به أهلًا لتقدير أبويها.
ولْنأتِ بأسوأ احتمالٍ فنفترض لها مِزاجًا أجُوجًا يجعل الانتظار الطويل شاقًّا عليها، فأقول إن حُكمها ومعارفها وذوقها ولطفها، ولا سيَّما مشاعرُها التي غُذِّيَ بها فؤادُها في صِباها، أمورٌ تُعارضُ فَوَران حواسِّها بثِقَلٍ يكفيها لقهْرِ هذه الحواس أو مقاومتها زمنًا طويلًا على الأقل، وهي تُفضِّل أن تموت شهيدةَ حالها على أن تُحْزِن أبويها بتزوُّجِ رجلٍ خالٍ من الفضل وتعريضِ نفسِها لشقاءِ زواجٍ غيرِ مُوفَّق، حتى إن الحرية التي فازت بها لم تُوجِبْ غيرَ عُلُوٍّ جديدٍ في النفس وغيرَ جعْلها أصعبَ مِراسًا في اختيار مولاها، وهي على ما فيها من مِزاجِ الإيطالية وحساسية الإنكليزية، حائزةٌ لزهو الإسبانية التي إذا ما بحثتْ حتى عن عاشقٍ لم يَسْهُل عليها أن تجدَ مَن تُقدِّر أنه كُفءٌ لها.
وليس كلُّ واحدٍ قادرًا أن يُدرِك أيُّ نابضٍ يُمكِن حُبَّ الأمورِ الصالحة أن يُورثَ النفسَ إياه، وأيُّ قوةٍ يمكن الواحدَ أن يَجِدها في نفسه إذا ما أراد أن يكون فاضلًا بإخلاص. ومن النَّاس مَن تبدو لهم كلُّ عَظَمةٍ وَهْمًا، ومَن لا يَعْرِفون بعقْلهم السافل المنحط ما يُمكِن أن يكون حتى لجنون الفضيلة من تأثيرٍ في أهواء البشر، ولا يَجوز أن يُخاطَب هؤلاء النَّاس بغير الأمثلة، ويقعُ اللومُ عليهم إذا ما أصَرُّوا على إنكارِها. وإذا قلتُ لهم إن صُوفيةَ ليست إنسانًا خياليًّا، وإن اسمها وحدَه هو مِن اختراعي، وإن تربيتَها وطِباعها وأخلاقها وهيئتها أيضًا قد وُجِدَت حقًّا، وإن ذكْراها لا تزال تُسيل عَبَراتِ كلِّ أُسْرةٍ صالحة، لم يُصدِّقوا شيئًا من هذا لا ريب، لكن لِمَ لا أجازفُ فأُتِمَّ بلا التواء قصةَ فتاةٍ كثيرةِ الشَّبه بصوفيةَ، فيُمكن أن تكون هذه القصةُ قصَّتَها من غيرِ أن يَحَارَ منها أحد؟ وليس من المهمِّ أن يُعتَقد أن القصةَ واقعيةٌ أو لا، ولْيُقَلْ — إذا أُريد — إنِّي أقُصُّ أوهامًا، فلا يُهِمُّ هذا، وإنما الذي يُهِمُّ هو أن أشرح منهاجي فأبْلُغَ غاياتي دائمًا.
إن الفتاة التي حَمَّلْتُ صوفيةَ مِزاجَها حائزةٌ لجميع الموافقات التي يُمكن أن تجعلها أهلًا لهذا الاسم فأتركه لها، وإن أباها وأمَّها رأيا، بعد الحديث الذي رويته آنفًا، أنَّ طالبي الزواج لا يأتون لعَرْض أنفسِهم في الكُوخ الذي يقيمان به، فأرسلاها إلى المِصْرِ لتقضي فيه شتاءً عند خالةٍ لها أطلعاها سِرًّا على سبب الرحلة؛ وذلك لأن صوفيةَ المختالةَ كانت تحمل في قرارة قلبِها من الزهو الكريم ما تَعْرف معه أن تضبط نفسها، ولأنها مهما يكن من احتياجها إلى زوجٍ تُفضِّل الموتَ على الذهاب للبحث عنه.
وقد عَمِلَتْ خالتُها بوجهاتِ نظرِ أبويها؛ فقدَّمتها في البيوت، وأتت بها إلى المجتمعات، وأحضرتها إلى الولائم والأعياد، وعرَّفتها بالنَّاس، وإن شئتَ فقُل عَرَّفت بها النَّاس، وذلك مع كونِ صوفيةَ قليلةَ المبالات بهذه القَرْقَعات، ومع ذلك فقد لُوحظ أن صوفيةَ لم تجتنب مَن يَبْدون متواضعين ذوي احتشامٍ من وُسَماء الشُّبَّان، حتى إن احترازها ينطوي على فنٍّ في اجتذابهم مشابهٍ للدَّلال، ولكنها ارتدَّتْ عنهم بعد أن حادثتهم مرتَين أو ثلاث مرات، وذلك أنها لم تلبث أن اتخذت وضعًا أكثرَ تواضعًا، وأدبًا أكثرَ دفعًا بدلًا من ظاهرِ السلطان الذي يتقبَّل المجاملات كما يلوح، وذلك أنها كانت دائمةَ الانتباه إلى نفسها، فعادت لا تَدَعُ لهم فرصةَ تقديمِ أيةِ خدمةٍ لها، وهذا يعني أنها لم تُرِدْ أن تكون خليلةً لهم.
وما كانت القلوب الحساسة لتُحبَّ الملاهي الصاخبة ولا السعادة الباطلة الماحلة عند أناسٍ لا يُحِسُّون شيئًا، معتقدين أن تمتُّع الإنسان بحياته قائمٌ على خُمارِها. وبما أن صوفيةَ لم تَجِد ضالتَها مطلقًا، وبما أنها يئست مِن لُقيانها؛ فقد سئمتْ من المِصْر، وقد كانت تُحِبُّ أبويها حُبَّ حَنان، فلم تَجد ما يُعوِّضها منهما، ولم يظهر لها شيءٌ تنساهما به، فعادت لِتلحَق بهما قبل الوقت المعيَّن لرجوعها بزمنٍ طويلٍ.
وهي لم تَكَدْ تَعُودُ إلى واجباتها في منزل والديها حتى رُئيَ أنها غيَّرت مِزاجها مع المحافظة على سلوكها، وذلك أنها بَدَت ذاتَ ذهولٍ ومَلَلٍ وغَمٍّ ووهْم، فتتوارى لتبكي. وقد ظُنَّ في البُداءة أنها تحبُّ وأنها خَجْلى من ذلك، فكلَّمَاها في ذلك فردَّته عنها محتجةً بأنها لم تَرَ رجلًا أمكنه أن يَمَسَّ فؤادَها، وصوفيةُ لا تَكذِبُ مطلقًا.
ومع ذلك، فإن الذُّبول كان يزيد بلا انقطاع، وأخذت صحتُها تَفسُد، فعزمتْ أمُّها التي ساورها الهمُّ من هذا التحوُّل على معرفةِ العلة، فخلَت إليها، واتخذت نحوها لهجةً مؤثِّرة، وأظهرتْ لها من الألطاف التي لا تُرَدُّ ما لا يَصْدُر عن غيرِ عاطفة الأم، قالت لها أمُّها: «بُنيتي، لقد حملتُك في بطني، ولا أفتأ أحمِلُك في فؤادي، فأَفْضِي بأسرارِ قلبِك إلى ضميرِ أمِّك، وما هذه الأسرار التي لا تَقدِر الأمُّ أن تعرفها، ومَن ذا الذي يتوجَّع لكروبك، ومَن ذا الذي يُقاسِمك إياها، ومَن ذا الذي يريد أن يكشِفَها عنك، إن لم يكن والدكِ ووالدتكِ؟ آه! يا بنيَّتي، أتَوَدِّين أن أموتَ بسببِ ألمكِ من غير أن أعْرِفه؟»
لم تكتُم البنتُ همومَها عن أمِّها، ولم تطلُبْ ما هو أحسنُ من أن تكونَ أُمُّها مُفرِّجةً لِغُمَّتها محلًّا لأسرارها، غيرَ أن الحياء كان يَمنعها من الكلام، وما هي عليه من حِشمةٍ كان لا يجدُ لسانًا لوصفِ حالٍ غيرِ خليقٍ بها كالهَيَجان الذي يُبلبلُ حواسَّها على الرغم من جميع جهودها، وأخيرًا اتخذت أمُّها من حيائها نفسِه دليلًا، فانتزعت منها هذه الاعترافات الفاضحة، ولم تُحزِنْها أمُّها بتعزيرٍ جائر، بل أسْلَتها وتوجَّعتْ لها، وبكتْ عليها، وهي من الحكمة البالغة ما لا تجعَلُ لها معه جريمةً من سوءٍ قَسَا عليها بسبب عفافها وحدَه. ولكن لِمَ احتمالُها، بلا ضرورةٍ، سوءًا سهلًا دواؤه شرعيًّا علاجُه؟ ولِمَ لا تستعينُ بحريةٍ كانت قد مُنِحَتْها؟ ولِمَ لا تَقبَلُ زوجًا؟ ولِمَ لا تختارُ بعْلًا؟ ألَا تعلمُ أن مصيرَها يتوقَّف عليها وحدَها، وأنه مهما يكن من اختيارها يُوافَق عليه ما دام هذا الاختيار لا يقع على غيرِ صالح؟ لقد أُرْسِلت إلى المِصر، ولم تُرِدِ البقاءَ فيه مطلقًا، وقد قُدِّم إليها كثيرٌ من طالبي الزواج فرفضتْهم جميعًا. وما تنتظرْ إذنْ؟ وما تريد؟ يا له من تناقضٍ غامض!
وكان الجوابُ بسيطًا؛ فلم يَدُرِ الأمرُ على غيرِ إغاثةٍ للشباب، ولا يَلْبَث الاختيارُ أن يَقَع، ولكن لا يسهُلُ اختيارُ سَيِّدٍ لِمدَى الحياة. وبما أنه لا يُمكِن فصلُ أحد الاختيارين عن الآخر، فإنه لا بُدَّ من الانتظار، ولا بُدَّ من ضياع الشباب في الغالب قبلَ لُقْيان الرجل الذي يُراد قضاءُ الحياة معه. وكان هذا حالَ صوفيةَ التي كانت محتاجةً إلى عاشقٍ على أن يكون زوجًا لها، ومن الصَّعب أن تجِد قلبًا كما تريد، سواءٌ أكان قلبَ زوج أم قلبَ عاشق، ولم يَقُم ما بينها وبين أولئك الشبان النضراء من موافقةٍ على غيرِ السِّن، وأمَّا الموافقاتُ الأخرى فتُعْوِزُهم دائمًا، وما كانوا عليه من ذهنٍ سطحي، ومن خُيَلاء ورَطانة، ومن طِباعٍ بلا نظام، ومن تقليدٍ طائش، كان يورثُها نفورًا منهم، وكانت تبحث عن رجلٍ فلا تجدُ غيرَ قِرَدَة، وكانت تبحث عن روحٍ فلا تجد منه شيئًا.
قالت لأمِّها: «يا لشقائي! إنني محتاجةٌ إلى الحُب، ولا أرى أحدًا يَرُوقُني، ويَرفِض فؤادي كلَّ مَن يُخاطب حواسِّي، ولا أجِد واحدًا لا يُثيرُ رغائبي، ولا أُبْصرُ واحدًا لا يَرْدعُ مُيولي، ولا يُكتبُ بقاءٌ لذوقٍ بلا احترام. آه! ليس هنالك مَن هو أهلٌ لابنتك صوفية! إن مثالَها الفاتنَ منقوشٌ في صميم فؤادها، وهي لا تستطيع حُبَّ غيرِه، وهي لا تستطيع أن تجعل سعيدًا سواه، وهي لا تستطيع أن تكونَ سعيدةً مع غيره، وهي تُفضِّل أن تضْنَى وتناضل بلا انقطاع، وأن تموت شقيةً حُرَّة، على أن تكون يائسةً بجانبِ رجلٍ لا تُحِبُّه فتجعله شقيًّا أيضًا، وأفضلُ لها أن تَهْلِك من أن تبقى لِتَأْلَم.»
ووَقَفتْ هذه الغراباتُ نَظَرَ الأمِّ فوجدتها من الشذوذ البالغ ما لم يُخامِرها معه شكٌّ في وجود سِرٍّ في الأمر، ولم تكن صُوفيةُ متصنِّعةً ولا مثيرةً للسخرية. وكيف أمكَنَ هذه الرقةَ المتناهيةَ أن توافقها، وهي التي لم تتعلَّم منذ طفولتها غيرَ الاكتفاءِ بأناسٍ كان عليها أن تعيشَ معهم وأن تقومَ نحوهم بمقتضى الفضيلة؟ إن هذا المثالَ للرجل المحبوب الذي فُتِنَت به كثيرًا، والذي تُردِّد اسمه في جميع أحاديثها غالبًا، قد جعل أمَّها تظُنُّ أن لهذا الهوى أساسًا آخرَ لا تزال جاهلةً له، وأن صوفيةَ لم تقُل كلَّ شيء، ولم تحاول هذه الشقية المُثْقلة بكَرْبها الخفي غيرَ الكلامِ بثقةٍ تامة. وتُلِحُّ أمُّها، وتتردَّد، ثُمَّ تُذعن، وتَخرُج من غيرِ أن تقول كلمة، وتعود بعد هُنيهةٍ حاملةً كتابًا بيدها، وتقول: «اشفقي على ابنتكِ الشقية، فلا دواءَ لكَرْبها، ولا يُمكِن أن تَكُفَّ عن البكاء، وأنت تريدين معرفةَ العلة، حسنًا، ها هي ذي.» قالت هذه الكلمة وطَرَحَت الكتابَ على المِنضدة، وتتناول الأمُّ الكتابَ وتفتحه، فإذا هو: «مغامرات تِلِماك»، ولم تُدرِكْ شيئًا من هذا اللغز في البُداءة، وتدور أسئلةُ مبهمةٌ وأجوبةٌ غامضة، فترى الأمُّ في آخرِ الأمر، مع دَهَشٍ يمكن تصوُّره، أن ابنتها منافِسةٌ لأُوكَارِيس.
وكانت صوفيةُ تُحِبُّ تِلِماك، وكانت تحِبُّه بهوًى لم يستطِع شيءٌ أن يشفيَها منه، ولمَّا عَلِم أبوها وأمُّها هُيامَها ضَحِكا منه، ورأيا أن يَرُدَّاها عنه بالعقل، وقد كانا على خطأ في ذلك؛ فلم يكنِ العقلُ كلُّه بجانبهما؛ فقد كان لصوفيةَ عقلُها أيضًا، وكانت تَعرف أن تنتفعَ به، وما أكثرَ ما حملَتْهما على السكوتِ بتوجيهها إليهما براهينَهما الخاصة، وبإثباتها لهما أنهما أساسُ العِلَّة لِمَا كان من عدمِ إعدادِهما إياها لرجلٍ من رجال عصرها، وأن الضرورةَ كانت تقضي بأن تعتنق أوجُهَ تفكيرِ زوجها أو أن تَمْنَحه أوجُهَ تفكيرها، وأنهما جَعَلَا الوسيلةَ الأُولى أمرًا متعذِّرًا عليها بالأسلوبِ الذي نشَّآها عليه، فتبحثُ عن الوسيلة الأخرى تمامًا، وقد قالت: «أعطياني رجلًا مُشْبَعًا من مبادئي، أو رجلًا أستطيعُ تعليمه إياها، حتى أتزوجه. ولكن لِمَ تؤنِّبانني حتى ذلك الحين؟ ارحماني؛ فأنا شقية، لا حمقاء. وهل القلبُ تابعٌ للإرادة؟ ألم يَقُل والدي ذلك بنفسه؟ وهل يقع الذَّنْب عليَّ إذا كنتُ أُحِبُّ مَن هو غيرُ ميْسُور؟ ولستُ تخيُّليَّة؛ فلا أريد أميرًا مطلقًا، ولا أبحث عن تِلِماك مطلقًا، وأعلم أنه ليس إلا وهمًا، وإنما أنشد له شبيهًا. ولِمَ يتعذَّر وجودُ هذا الرجل ما دمتُ موجودة، أنا التي تَشعُر بقلبٍ يشابه كثيرًا؟ كلَّا، لا ينبغي أن نَشِين البشريةَ هكذا، ولا يجوز أن نذهبَ إلى أن الرجل الفاضل المحبوب ليس إلا وهمًا، إنه موجود، إنه حي، وقد يكون باحثًا عني؛ فهو يبحث عن نفْسٍ تَعرف أن تُحِبَّه، ولكن مَن هو؟ وأين هو؟ أجهل ذلك. ولا غَرْو؛ فهو ليس ممن رأيت، وليس واحدًا ممن أرى. أمَّاه! لِمَ جعلتِ الفضيلةَ مُحبَّبة إليَّ كثيرًا؟ إذا كنتُ عاجزةً عن حُبِّ غيرها، فالذَّنْبُ يَقَعُ عليك أكثرَ مما يقع عليَّ.»
وهل أسُوقُ هذه القصة الشجية حتى آخرها؟ وهل أذكرُ المناقشاتِ الطويلةَ التي سبقَتْها؟ وهل أعْرِض أُمًّا هَلوعًا تُغيِّرُ بصرامةٍ ألطافَها الأُولى؟ وهل أَدُلُّ على أبٍ غَضُوبٍ نَسِيَ عهودَه الأُولى معاملًا أفضلَ البناتِ مِثلَ مجنونة؟ ثُمَّ هل أصِفُ الشقيةَ التي صارت أكثرَ ارتباطًا في وهْمها بفعلِ الاضطهاد الذي آلمها ماشيةً إلى الموت مشيًا وئيدًا، ونازلةً إلى القبر حين يُظَنُّ أنها تُجَرُّ إلى الهيكل؟ كلَّا، إنني أبتعد عن هذه الأمور السيئة؛ فلا أحتاج إلى المغالاة حتى أُبيِّنَ بمثالٍ بارزٍ بما فيه الكفاية على ما يلوحُ لي أنَّ حرارةَ الصلاح والجمال عادت لا تكون أكثرَ غرابةً عن النساء مما عن الرجال، وأنه لا يُوجَدُ بتوجيهٍ من الطبيعة ما لا يُستطاعُ نَيلُه مِنَّا ومنهنَّ، وذلك على الرغم من المُبْتَسَرات التي تنشأ عن طبائع العصر.
وأُوقَفُ هنا ليُسأل منِّي عن كوْن الطبيعةِ هي التي تَفْرِض علينا أن نُعانيَ كثيرًا من المتاعبِ لزجرِ الرغائبِ الجامحة، فأُجيب بالنفي، ولكنني أقول إن الطبيعة أيضًا ليست هي التي تُعطينا كثيرًا من الرغائب الجامحة مُطلَقًا، والواقع أن كلَّ شيءٍ ليس من الطبيعة مخالفٌ لها، وقد أثبتُّ هذا ألفَ مرة.
ولْنَرُدَّ صوفيةَ إلى إميل، ولْنَبعَثْ هذه الابنةَ المحبوبة لِنُوحي إليها بخيالٍ أقلَّ شِدَّةً وبنصيبٍ أكثرَ سعادة، وقد أردتُ وصفَ امرأةٍ مألوفة، وقد بَلْبَلْتُ عقلَها من حيث رَفْعُ روحها، فضللْت، فدَعْنا نَعُودُ إلى خُطانا؛ فليس لدى صوفية غيرُ طَبْعٍ صالحٍ في رُوحٍ معروف، وكلُّ ما لديها أكثرَ مما عند النساء الأُخَرِ هو أثرُ تربيتها.