قريباً سيكون حالنا: عواد باع ارضه يا ولاد
قبل أكثر من عشر سنوات تواصل معي رجل “فقير” من غزة، بعدما طلب مني محام إسرائيلي زميل بالتواصل معه، لربما أمره يعنيني. اعتقد الرجل انني اعمل مع المحامي الإسرائيلي بنفس المكتب، واعتقد بالتأكيد كذلك انني إسرائيلية. ربما لم يعتقد أي شيء، كل ما أراده بيع مئات من الدونمات او ربما الالاف منها المملوكة لجده والتي تقع على خطوط التماس مع إسرائيل وتم مصادرتها. كان الرجل يائسا لدرجة كان مستعدا فيها ان يبيع نفسه.
حينها فكرت، ما ذا لو كان الزميل المحامي الإسرائيلي ابن حرام أكثر بقليل، او كان يعنيه العمل بالأراضي لا بالأمور الجنائية. ماذا لو كان أكثر يمينية وأكثر تطرفا؟ حاولت التواصل وقتها مع “كبار” كثيرين اعرفهم قد يحاولوا انقاذ الوضع قبل ان يهتدي هذا الرجل اليائس الى من يأخذه الى الجمعيات الاستيطانية التي تشتري ما تمتد يدها اليه من أراضي. مصادرة او غير مصادرة.
كل من كلّمته كان لسان حاله: هذه أراضي مصادره، لا نفع لها.
لم أكن بالسذاجة لكي لا اميز عدم قيمة الارض التجارية، ولكنني في مخاطبتي للسياسيين كنت أرى قيمة اهم في حربنا غير المنتهية مع الاحتلال.
إسرائيل سيطرت على الأرض منذ الاحتلال بالعربدة والاستيلاء في معظم الأحيان، كما سيطرت على الوطن نفسه الذي ينتهي في كل يوم الى تعريفات جديدة، حتى صار لسان حال الحكومة الفلسطينية يخاطبها “بالجار”.
في ذلك الوقت حاولت دق الخزان عاليا عل هناك من سامع بفكرة تغيير المبدأ الذي تقوم إسرائيل تبينيه في موضوع شرعيتها او بالأحرى فرض شرعيتها. لطالما عشنا مع مبدأ كارثية البيع حتى لو كانت تلك الأرض ستصادر لا محالة، لان ملك الأرض لنا هي اثباتنا لجذور وجودنا هنا. يستطيعون ان يسرقوا ويصادروا ويستولوا ولكنهم لن يشتروا، لأنه هذا ما نريد ان نتركه لأبنائنا في المستقبل. نريد ان نترك لجيل قادم ما مساحة للمقاومة واسترجاع الوطن المنهوب والمنكوب. فما الذي سيتبقى للأجيال القادمة إذا ما كانت الأرض قد بيعت؟
لا يحتاج الامر الى تحليل ولا خبرة ولا بحث علمي. الموضوع واضح كوضوح الشمس. فإسرائيل لا تكترث للمواثيق الدولية أصلا. وما تقوم به منذ سنوات هو شراء شرعيتها. ولن احتاج للتفسير كثيرا، فما يجري اليوم هو أكبر دليل.
عشنا على مدار سنوات ولا نزال في القدس من خطر التهويد. وعانينا ولا نزال من تسريب العقارات. ولكن ما جرى ويجري بالقدس أسهل للمتابعة من حيث حصر المكان بسكان بعينهم. ومع هذا، سلوان بيعت الكثير من بيوتها ونرى يوميا الإعلان عن تسريب لعقار ما. وهكذا تجري الأمور لتمتد من شكال الوطن الى جنوبه.
حاول الكثيرون او البعض اثارة الامر على مدار السنوات، جبال في قرى محاذية للمستعمرات تم بيعها من قبل اشخاص معرفون باسمهم. تسريب أراضي على كل المستويات، لن يتوانى الاحتلال بكشف أسمائهم. لم يعد الاحتلال بحاجة الى خمسين سنة لفتح ملفات وسماح المخابرات والامن بتداول الاسرار. لن نحتاج الى باحث إسرائيلي كهليل كوهين ينبش بأرشيف التاريخ ليخرج علينا بكتاب جديد يفضح فيه اسماء “العرب الجيدون”
في السنوات التي سبقت النكبة، كانت التسريبات حكرا على أصحاب الأراضي من الاقطاعيين والمتنفذين. ربما لم يلحظ الانسان البسيط الثراء الفاحش الذي عاشه الأغنياء من قبل وعاشوه لاحقا، خاصة ان المعظم ترك البلاد وعاش في رغد غربة ما.
كان حينها، من يبيع ارضه من الناس العاديين يعامل معاملة العملاء، ولا يكون مكان له في البلد التي يعيش فيها. لم يتغير الوضع حتى سنوات طويلة. ولكن في السنوات الأخيرة شهدنا ما هو يوازي العمالة والاجرام في تسريب الأراضي، ونراهم يمشون بيننا ويعيشون مرحا وترفا امامنا. بل أكثر، يتقرب منهم الكثيرين من اجل مصالح وتراهم بين الناس في الافراح والاتراح. وفي مناسبات أخرى يقدمون لنا فتاوى بالوطنية والدفاع عن الأرض.
كان من الواضح منذ فضيحة عقار جودة في البلدة القديمة في القدس وما تلاه من بيع لعقارات قريبة من المسجد الأقصى من قبل اشخاص معروفين لجهات استيطان معروفة، ان الامر يأخذ منحى اخر.
حتى هذه اللحظة لم نعرف ما الذي جرى مع العطاري وقضية بيت جودة؟ ما الذي جرى بقضية بيت العلمي وشتية؟ وقد تطول القائمة وتتشعب كلما تناولنا منطقة قريبة منا.
منذ مدة ويحاول بعض المتنفذين بالسلطة اثارة هذا الامر، ربما لتصفية حسابات خاصة بين أصحاب السلطة ضد بعضهم، ولكن حتى صاحب السلطة المتنفذ لم يكن ليجرؤ على التصدي لما يجري من بيع لألاف الدونمات من مساحة أراضي وجبال بالضفة تم بيعها لصالح المستوطنين.
اليوم بينما تمد إسرائيل شباكها لتصطاد ما بقي من أراضي بالضفة الغربية، تدخل بقوة أكثر من أي وقت مضى، لأنها هذه المرة تمتلك عقود شراء للكثير من الأراضي.
ولن ننتظر سبعين سنة ولا خمسين ولا سنة ربما. فلم تعد تأبه إسرائيل بفضح عملائها ووكلائها. بالسابق كانت تحميهم لأنهم كانوا قلة. اليوم كثر العرض فبخس الطلب.
قد يختلف الامس عن اليوم بأننا نعيش هذه التفاصيل المؤلمة من الحقيقة. وكما الامس كان مليئا بالعملاء المقنعين بأثواب الوطنية، كان مليئا كذلك بمن قدموا حياتهم فداء لهذه الأرض. اليوم كذلك لا تخلو البلاد من أبنائها المخلصين.
ولكن في الامس كان الفلسطيني الذي باع غير واع ربما لمغبة المشروع الصهيوني. فكيف يعقل لفلسطيني اليوم ان يبيع وطنه. بالأمس ربما كان بيع العقار او الأرض امرا يخص صاحبه على حسب فهمه، ولكن اليوم، هل يمكن لاحد الا يرى الأمور يوضحوها الفاضح؟
بين الامس واليوم، كان من باع مختبئا لا يجرؤ على البقاء بالقرب من ابن بلده، ولكن اليوم يتحول بائع البسطة البسيط الى صاحب بنايات وسيارة رينج روفر بين ليلة وضحاها، وموظف بدخل محدود يصبح فجأة من أصحاب الملايين، وخير عجيب يظهر باستثمارات لا تفهم من اين جاءت أموالها…. ستفضح أصحابها إسرائيل عما قريب. وسنستمر بالقول ان تلك مؤامرة لتطال الشرفاء من اهل هذا الوطن.
وسنكون كما عواد …. الذي باع ارضه….
تضم الضفة هذه المرة، صفقة شارك فيها كل من سولت له نفسه بيع وسمسرة الاراضي لحجج واهية، بينما كان يبيع بلا هوادة وطنه.
كان صاحب سلطة او صاحب بسطة او صاحب ارض.
وستبقى الأرض الصامدة صامدة بأصحابها مهما كبر العداء وتفشت العمالة وتحول الوطن بالنسبة للبعض أموالا مقبوضة.
الأموال تصرف ولكن الوطن باقي بأبنائه المخلصين.
وكما في السابق هرب أولئك الخونة ليبنوا استثمارات في الخارج، سيهرب هؤلاء وسيبقى الوطن لأصحابه.
عواد باع ارضه وسيكشف طوله وعرضه… ولكن ستبقى فلسطين عامرة بالصالحين الاوفياء من أبنائها. لأنه وبالرغم من ظلمة ما يجري وظلامه، على هذه الأرض من يؤمن بأن وجوده هنا حق وكفاح وصمود. لا يخلعه ابتزاز ولا يغريه أموال وتراب الأرض هي ذهبه وكنزه ورأس ماله الباقي.
هؤلاء باقون مهما كثر “العوادون” …