بين حرب وحرب، قادني الزمن لزيارة غزة . لا يزال ارتباطي كمعظم الفلسطينيين الذين شقتهم المسافات الى شقي وطن معزول ومحاصر ومقسم ، بغزة ، ارتباطا حنينيا اقرب الى الرومانسية حتى . شعور تجاه تلك العروس المستباحة بذنب لا نكاد نغفره لأنفسنا . وما نكاد نتصالح مع انفسنا تجاه ذنبنا ، لا نتردد في عرض هذه العروس البهية بسوق النخاسة من جديد ،ومرة تلو المرة بلا حياء ولا تردد.
حتى اصبحت تلك العروس بالية ، بثوب ابيض مهتريء ملطخ بدماء اغتصابها بلا هوادة. تصر على غسل نفسها بمياه بحرها المالح. وكأن في ملوحة البحر تطهير من شنيع صنع البشر . ترمي رذاذها بأمواج البحر وتغتسل في مياهه ويخرجها في كل مرة مليحة .
غزة تلك المليحة …تعجز الكلمات عن وصف ما تراه بعد عامين من عدوان دام لنحو الشهرين المتتابعين دكت الحرب فيها ارض هذه المدينة وسوتها ودماء ابنائها بين انهار دم وركام وحطام وكأن زلزال مدمر ضربها .
دخلت المدينة ومشاهد الحرب السابقة تستيقظ امامي . بين مشاهد تجلت منذ لحظتها في عقلي ومشاهد لمخلفات الحرب امام بصري . وبين ما احتفظ به عقلي في زوايا ذاكرتي وبين المشاهد الحية لما كان دمارا وبقي …كان الانسان يمر امامي بعزة اسم المكان ، متحديا الدمار والحصار والموت نفسه.
تطاردني عيون الناس هناك بحدية يملؤها الاصرار على الحياة رغما عن الحياة .
كان اللقاء بالأماكن أولا . لا يمكن الا أن يترصد لك وجودها . مصابة بطلقات مختلفة من اعيرة وقذائف .وكأنها اصبحت جدارية تشكل جمالية فنية بطراز غريب فريد ربما . يدمج بين الاسى السابق الحالي ، وبين الاصرار على الوجود من بين الحفر والثقوب .
تمشي الناس امامي ، وتتوقف الذاكرة لتعود بي لايام العدوان . قصص وبطولات وصمود والكثير من الخراب والدمار . وافتح عيني من جديد ،لارى الشارع بزحامه وحراكه في تناغم معين لحياة ما … تشبه شوارع القاهرة ربما .. او رام الله … او اي مدينة تتزاحم فيها الحياة بفوضوية بها استقطاب غريب للانسان ببساطته الكونية الاولى .
يصر السائق ان يشرح لي . وكأنها فرصة ثمينة تمكنه من ان يرى العالم مأساة الحروب المتعاقبة على شعبه. يستعرض بطولات لنا وانهزامات لعدونا . صور الشهداء تعلو كل لافتة . صورة وراءها قصة بطولة تعلق على لافتة ،تخفي وراءها مأساة قلب ام يتمزق حزنا ، عائلة تتحرق يتما ، شعب فقد ابنا الى الابد ..
هنا كان مركز شرطة ، هنا كانت عيادة ، هنا كان منزلا ، فيلا ، بيتا ، ملعبا ، مأوى .. ومن هنا كانت تخرج القذائف . “كانت تخرج الانفاق من تحت جواربنا ” .قال لي احدهم ضاحكا.
بينما كان يشدني كلامه تارة ،وتسحبني ذكريات الحرب الماضية تارة اخرى بدأ البحر يسدل مياهه على الشاطئ امام ناظري . وكأنه بهذه اللحظة احتضنني اليه مرحبا .
ما بين غزة والقدس جراح مشترك ..لدم نازف واحد …القهر والظلم هو العنوان فيه .
غربة لمدينة بوطن باكي على ابنائه ، مودعا لهم بكل لحظة وداع الامواج للشاطيء.
مررت عبر الشاطيء الممتد . وقفت للتأمل . استنشق عبير الهواء الممزوج برطوبة البحر. “سمك غزة الوفير” عرض السماك صيده امامنا . “بالرغم من الحصار البحري كذلك ، وبالرغم من محدودية الامتار التي نستطيع ان ندخل فيها بعمق البحر للصيد . الا ان خير الله وفير.” اشكال من السمك كثيرة ومتعددة كانت وليمتنا الاولى في غزة.
ضحكات لا تفارق وجوه اصحابها ، ،كرم لا يمكن وصفه او رده . لا لكثرة الفرح وهدوء البال ولا لجود المال ورخاء الاوضاع ، ولكن لإشعارنا بأن غزة بأهلها عامرة ومرحبة وبانتظار الخير القادم من ابناء الوطن المغترب. .
عندما وصف ابو عمار بأننا شعب الجبارين ، كان يقصد بلا ادنى شك أهل غزة . لا أعرف ان كانت قسوة الحياة ونزعة الانسان للبقاء هي ما يجعل هذا الشعب بهذه القوة والجبروت والعنفوان . غريب وضعه كذلك المنظر الذي يسحبك اليه بحر غزة.
مشيت على حواف الشارع الممتد الي الشاطيء ساعات المساء . لم يختلف المنظر عن ذلك الذي اراه عند المشي على امتداد هذا الشاطيء في يافا وتل ابيب. الناس مستلقية على الرمل بين عائلات وشباب . تمتليء المقاعد الممتدة على الشارع بالناس بين رجال ونساء . اختلف شكلي عنهم .ربما صحبتي وشقراوات جلعني ابدو اكثر غرابة وبالتالي اكثز تقبلا من المارة المندهشين لكائنات انثوية بلا غطاء رأس.
القاعدة بالحجاب هناك ، وحتي الخمار . ولكن هذا لم يكن عائقا لتتمدد النساء على الرمال ولا ان تتجمع بصحبة نسائية او مختلطة على امتداد ما تراه على الشاطيء من حياة طبيعية بجدارة. شاب وصبية (مخطوبان على الارجح) يتمشان بيدين متعاقدتين . بعض النساء غير المتحجبات . الباعة ، الاطفال . حياة ترسم نفسها .
تمتليء المقاهي بالناس بشكل ملفت . الموسيقى الصاخبة حتى منتصف الليل تضرب بصوتها وتتنافس مع اصوات الامواج التي تضرب الصخور .” اشعر وكأننا في سهرة على نيل القاهرة”. قالت احدى زميلاتي الالمانيات .
هناك تشابه في تناغم الحياة كبير بين تلك القاهرية والغزية . الحراك اليومي والتناغم ..صخاب الشارع والموسيقى والزحام … واللهجة الغزية الاقرب الى المصرية من تلك المحلية الفلسطينية. تداعبك في خفتها وترعبك في ما تخبؤه من قوة . كتلك الامواج الهادئة من بعيد ،المرتطمة فجأة برمال البحر.
تحاول فصل تلك الرومانسية المصاحبة للمشاعر وموج البحر المداعب للرمال امامك ، وتلك الصورة المفجعة لما كان قبل وقت قصير ، ويهدد ان يكون بأي لحظة قادمة. وكأن الناس هنا في لحظة استنشاق حياة بقدر ما تستطيع انفسهم ان تأخذ حتى يوم موعود مشؤوم قادم.
وكأن القدر في تحدي دائم وما يسكن هنا من بشر .
في الطريق الى الشجاعية لم تفارقني مشاهد الدمار السابق التي اجتاحت العالم لبلدة بدا انه زلزالا مدمرا ابادها عن بكرة ابيها . بين اعادة بناء خجول ، وبين اصرار على الحياة يغلب المنظر الذي تمده لك الشوارع والاحياء.
حراك دؤوب . اناس يتبضعون وكأنهم يحضرون للعيد . زحام وسط بلد معهود في مكان ما بزحام المدن الكثيرة . المقاهي ممتلئة بفقاعات الاراجيل ورقصات المياه بداخل الزجاجات . رجال يجلسون بالمقاهي امام المارة ، وترمقك الصبابا من خلال النوافذ مستمتعات بجلسات متعددة. في خط التماس ذاك الذي اشعلته الحرب السابقة ، كانت اشباح العدوان تعم بثقل ظلالها علي. لا يمكن الا ترى الدمار الذي كان وما خلفه من ضياع . بيوت جديدة كانت قبل برهة مطبخا ربما لبيت كبير . او تسوية لفيلا او مدخلا لعمارة .تحولت للمحظوظين بيوتا ، واولئك الاقل حظا على اطراف الحي بكرافانات مؤقتة تبدو انها فخمة مقابل المنظر القاسي للدمار الممتد . ركام من حديد واسمنت وحجارة مستعد لان يكون جزءا من بناء قادم. ابنية جديدة ملونة تنصب نفسها مكان ما كان من بيوت ، تبث الامل امام البيوت المدمرة المنتظرة دورها . “هنا كانت الحديقة العامة”. اخبرنا طفل كان على دراجة هوائية امام منزل عائلته النصف مدمر ونصف يعاد ترميم ما يمكن ترميمه منه.
تجتمع الناس بالحدائق العامة القليلة ، ولكن بشكل ملفت .
حياة بالرغم من انحسار سبل الحياة….
انسانية تغلب قباحة الموت وجبروته….
إصرار على الوجود رغم الحتف المنتظر ليغدر بأي لحظة….
عزة….بغزة….تقول ما لا يستطيع استيعابه الغاصب ولا الخائن ولا الخانع ولا الخائف ….
عزة بشعب يخرج الحياة من فيه الموت…
شعب يصر على الحياة متى استطاع اليها سبيلا …