حرق نعش الحريات
لا اعرف كم من المرات سأعيد الكلام. ولا اعرف ان كان هذا يحميني أو يزيد وطأة الخطر المترتب على التحدي للترهيب الحاصل. فبعد أسبوع من اضرام النار في سيارتي الخاصة بداخل منزلي، والتي ترتب عليها حرقا للسيارة والكثير من اللطف من الله. فلولا رحمة الله، او ربما أكثر، مشيئته بأن تلك الليلة ليست ليلتي وعائلتي الأخيرة على هذه الحياة. فالجريمة مع سبق الإصرار والترصد. يرمي الفاعل المأجور- على الاغلب- زجاجاته الحارقة. فلا يكتفي بواحدة، ولا يكتفي بالحاق ضرر يقرص فيه اذني ليحذرني. ولكنه يصر على فعله بحرق ما يمكن حرقه. بلا أدنى عناء تفكير بأن من بالبيت عائلة، وان الحريق قد يؤدي الى كارثة. كارثة حقيقية محتمة. فشاء العبد ما شاء، ولكن من قدّر وقدِر كانت مشيئة الله ولطفه. ومن اجل سخرية القدر، كانت الشرطة الإسرائيلية والاطفائية هي من تدخلت لإنقاذنا وحصر الكارثة في سيارة!
سنوات من النقاش الحقيقي، وفتاوي وتحليلات عن احقية اللجوء الى الشرطة الإسرائيلية عند التعرض لجريمة او تعدي او انتهاك. وهنا كان الامر أكثر الحاحا، فهناك حريق مشتعل، لا يمكن إطفائه بدون تدخل الاطفائية التي تعيز لها الشرطة بالتدخل.
المهزلة، او السريالية في الامر، هو وجود ارباب السلطة الفلسطينية بالقدس من اجل اثبات الحق بهوية المدينة الفلسطينية، وعليه حماية أهلها ودعمهم والوقوف الى جانبهم اما غطرسة الاحتلال من تنكيل وتصعيب للحياة. وإذ بنا نجد أنفسنا محاصرون من قبل زمرة تدب الرعب في نفوسنا وتهددنا. مع الأسف فتاوي وتحليلات يبدو انها وُضِعَت لتزيد البطش الذي نظنه أحيانا كنساء مجرد بطش نظام ذكوري مركب، ولكن الامر على ما يبدو هو أكبر، فالبطش الحاصل من نظام سيادي سلطوي ظننا بسذاجة انه متواجد للحفاظ على المدينة من الاسرلة، وإذ به يبطش بأمننا وسلامتنا ويرهبنا، ويظهر امام بطشه الاحتلال رحيما ومنقذا. لا يختلف الامر بما نعيشه اليوم من هجوم غير مبرر على قانون حماية الأسرة وتجيير او تأجير الرأي العام ضد سيداو في عملية إلهاء باتت ممنهجة، تختبئ السلطة ورائها بينما تمتد يد بطشها على الآمنين منا.
يزداد الامر ترديا، والاغلبية الصامتة باتت خرساء. فالكل يخاف على مصلحة ما او يخاف من أذية ما. صرنا نعيش وكأننا نتعامل مع عصابات، لا يعرف أحد متى تأتي ضربته ومِن مَن وكيف.
على مدار السنوات كنت استمع الى تعليقات الأصدقاء والغرباء بأن ما يحميني وجودي بالقدس. فكم مرة سمعتها مباشرة بأنه لو كنت بالضفة لتم سحلي منذ وقت. وكنت أصر على ان المساحة التي أحظى بها ليست بسبب وجودي بالقدس فقط، ولكن بسبب حرصي على عدم الإساءة او التحريض او استخدام المعلومات الخاطئة في مقالاتي. فكما كان قلمي حادا على مواضيع سلطوية، كان كذلك بشأن الاحتلال الإسرائيلي. فقواعد حرية الكتابة في زمننا قانونها واضح: عدم التحريض او التشهير او نقل المعلومات الخاطئة. ولم تكن هذه اساليبي يوما ولن تكون. فآمن بأن كل كلمة اكتبها لا تعكس الا الواقع وتناقشه وتحاول دق الخزان على ناقوس الخطر المحاصر لنا منذ سنوات.
ربما كان على التأكد بأن أذى خفافيش الليل أكبر من الجردان المطلقين بالعراء، يهيبون وينفرون، كما جرى ذات مرة عندما تم الهجوم على من قبل أحد المحسوبين على دائرة السيادة في المقبرة بينما كنت أغطي قضية متعلقة بسرقة القبور.
كان على الحذر والتعامل مع استشعار الخطر عندما لم تختبئ وراء صناديق المراسلات الخاصة ذلك التعليق على احدى المجموعات التي تضم “صفوة شخصيات المدينة ” عندما كتبت بلا تردد: ” الا يوجد من يوقف هذه عند حدها”. إشارات كثيرة مرت امامي بينما استرجع ما الذي جعلهم يطلقون الزناد. وكنت على أيمان مطلق، مُصرّة، ولا اعرف الى متى يمكنني القول انني سأبقى، بأن الله خير الماكرين مهما مكروا. صاحب القضية الحقة هو دائما اقوى. والسكوت عن الأذى يساوينا بالشيطان الاخرس، وانا لا اريد ان أكون ابدا في مرتبة الشياطين.
اعيد تكرار المشاهد التي رصدتها الكاميرات، ويدوي برأسي صراخ ابنتي التي كانت تظن حتى تلك الثواني ان حياتها امنة. كان صراخ خوفها اعلى من صراخ صوتها المدوي دوما من اجل حقها بحرية التعبير بكافة اشكالها بمسالك حياتها، من ابداء رأي او مناقشة امر او الوقوف من اجل قضية. فجأة كان الرعب هو سيد الموقف. رعبي بينما اشاهد النار تلتهم الحديد ويستعد شررها بالزحف نحونا. اصرخ بالهاتف نحو صوت كان حتى لحظات هو الصوت الذي يخيفني، اصيح ولا اعرف ان كان سيستطيع ان يخلصنا من مغبة الكارثة القادمة أحد. كنت اتحدث او بالأحرى اصرخ على المتلقي بالجانب الاخر من المكالمة بينما ينتابني يأس مركب، فلا اعرف كم ستتفاعل الشرطة مع صراخ امرأة عربية أخرى عبر الهاتف من اجل انقاذها وعائلتها من جريمة قادمة.
ولكن على عكس التوقعات، وكالغريق المعلق في قشة كنت بتمنياتي، فاجأني سرعة تدخلهم واحتوائهم للأمر. هزتني عبارة ابنتي المدافعة بقوة عن هويتها الفلسطينية والغاضبة على الاحتلال بلا تحفظ عندما قالت لي هامسة بعدما اخذنا انفاسنا ولملمنا أنفسنا واستعدنا ما جرى قائلة: اسفة يا امي، قد تستغربون ما أقوله. واخجل ان أقوله، ولكني شعرت بالأمان عندما رأيت الشرطة.” تدخل الشرطة ربما كان التدخل الطبيعي جدا في وضع طبيعي، ولكنها نفس الشرطة التي لا نأمنها ولا نتوقع منها أي شيء يخدمنا. كان تدخلهم فوري ومتلاحق بين استجوابي والتأكد من سلامتنا وجمع للأدلة ورصد للكاميرات. ولكن لم يحمل عقلي أي امل لإيجاد الفاعل، فكل ما نعيشه في هذه البقعة ملوث بالسياسة.
وبالمقابل، صمت خائف خانع مريب، لا تعليق، لا مكالمة، لا بيان، لا استنكار من صفوة السيادة التي تدير المدينة. فجأة خرست الأصوات التي تلتقط الاخبار من اجل سبق. وكأن منهم من ارتعب فاختار الصمت، وكأن منهم من ارتعب بأن صوتي لم يحترق فآثر الاختباء. وبين الجاني المجرم والساكت الجبان لا اختلاف. ليبقى صوت الحق أكبر منهم، وصوت الاشراف الحقيقيين اهم واعلى مهما خفتت أصواتهم. فالشعب الحقيقي منا بهؤلاء الكثر الذين رأوا بحرق السيارة حرق حرية التعبير. بتكميم صوتي مهما اختلفت على ما تصدر منه اراء هو خنق وحرق لما يمكن ان يعول عليه من تبقى منا بذرة امل بإصلاح.
بينما أفكر بجدوى إيجاد المجرم ومن ارسله، أخاف من ايجاده. أخاف من تبعيات الامر السياسية. واخاف ان لم يتم التمكن من ايجاده من الخطر الذي سيستمر بملاحقتي.
وتدور بي دوائر التفكير لأسأل نفسي من جديد: هل لهذا السبب يصمت الجميع؟
نعم.. الخوف قاتل.
ولكن ما يجري ليس خوفا قاتلا فقط.
ما يجري هو رعب، كرعب المريض من تفشي السرطان في جسده، لينتهي الى قتل كذلك.
وهنا تزداد الأمور تعقيدا بجدوى الموت.
هل نموت من اجل قضية؟ ام نموت خوفا من الأذى من اجل حياة نرهب فيها الحياة؟
تعودنا ان نواجه الموت ونتصدى له اما احتلال استلبنا ارضنا ووطننا. ولكن هل سنموت اليوم خوفا ممن يتولّون السلطة علينا من أبناء جلدتنا لأننا ندافع عن عيشنا من اجل تحرر بما يليق بالإنسان الحر في هذا العالم؟ في أي عالم؟
إذا ما كانت السلطة تريد ان تحكمنا بطريقة داعش او طالبان فعليها ان تعلن هذا. لكي نحتاط ونؤمن أنفسنا بقدر الاستطاعة. او ريما لكي نستطيع ان نتأقلم. فنعرف حدودنا ونلزم مواضعنا. ليعلنوها لنا انها دكتاتورية داعشية. ولكن لا يمكن التغني بالديمقراطية بالخطابات وكفالة حق الانسان بالتعبير بينما يتم ترهيبنا وتكميم افواهنا وتهديدنا وتعريض حياتنا للقتل والحرق والإرهاب.
كتبت وكتبت. صرخت بقوة من اجل حقنا بالتعبير. صرخت من اجل اصلاح الفساد المستشري ومن اجل قضايا لم تنصف ضحاياها ومن اجل ضحايا هدرت حياتهم ولا يزال التحقيق في امرهم في أحسن الأحوال مستمر. بينما القتلة يتجولون ويتحكمون بمآرب السلطة وكأننا مجرد عبيد او حتى حيوانات مسخرة لهم.
في مثل هذا اليوم كان اغتيال صاحب الرأي الذي لم يمت غسات كنفاني. قلبت بعض التواريخ ورأيت انني في مثل هذا اليوم قرعت الخزان من اجل الصحفي جهاد بركات واعتقاله.
وقد تعود ذاكرتي لأيام كثر دققت فيها عاليا عل دوي القرع يصحي النيام.
قد تكون الحريات ماتت ودق مسمار نعشها الأخير منذ أطلقت صرخة سابقة، ولكن يبدو انني كمن يعيش صدمة الموت لا يصدقها، واستمريت بالدق على جدران نعش لحريات ميتة…. أزعجهم حتى القرع على نعش… فحاولوا اضرام النار فيه.
فلسطين يا اسيرة الزمان
عنوان خاطرتي