تخطى إلى المحتوى

في رحيل الكبار

 

 

رحل المفكر والفيلسوف الايطالي امبرتو ايكو ، وسبقه بايام الصحفي والمفكر المصري محمد حسنين هيكل . وبينهما رحل الامين العام السابق للامم المتحدة بطرس غالي.

ثلاثتهم عاصروا القرن الماضي مع بدايات ازماته وكانوا بلا شك جزءا من الحراك سواءا بالمواجهة او المجابهة.

وثلاثتهم بطريقة ما تم بلعهم وسط السلطات …اكان بوعي ام لا ..ليس مهما . فهناك مما لا شك فيه مكيدة تعرف السلطة حيكها في الاغواء .

اذكر عندما كنت صغيرة ، كتاب لهيكل . كان ضمن الكتب المعدودة التي احتوت قراءات امي . فكبرت وهذا الهيكل يشكل هامة بالصحافة والتحليل السياسي الذي يتوقف بعده الجميع . وعندما وعيت اكثر ، لم يكن ما عهدته في زمن امي … لكنه بقي مؤرخا شاهدا على مجريات العصر وتقلباته وتفاعلاته. كنت اتساءل ، كيف يعرف كل ما يعرفه ، ولا يوجد هناك تأثير حقيقي للصحافة .

وبطرس غالي كان مثالا اخر لي في صغري . رجل عربي في الامم المتحدة . لا بد ان بوجوده سيكون للحق ترجيحا ما بقضيتنا الباحثة عن عدل. وانتهى غالي ولم تنته القضية . وكنت اسمع ومن ثم احيك المؤامرات مع نفسي مما اسمعه عن المؤامرات . اكان السبب زوجته يهودية الاصل؟ ولكني كنت كذلك احلم بفكرة “الولايات العربية المتحدة” التي طرحها وانتهي ليكون فيما بعد كذلك، حافظا لعصر شاهد عليه …ولم يكن لوجوده اثر ولا لمكانته تأثير مقابل جل ما عرف وشهد.

اما ايكو ، فلم تكن اهميته لي بسبب الرواية الاشهر له “اسم الوردة” ،ولكن كتبه النقدية ومقالاته هي التي دائما ما اثارت قريحة المعرفة عندي. هناك نزعة فلسفية معاصرة احسستها دائما بنهجه ،جعلتني دائمة الفضول نحو ما يكتب. وطبعا ، احببته اكثر عندما كتب بالشأن الفلسطيني الاسرائيلي .

كنت ولا ازال ،اكن الكثير من التقدير للكاتب والانسان الذي يكرس القضية الانسانية بعدالتها ويجعل منها قضيته . سواء كتب بموضوع محدد ام لا . سواء كان نقاشه ادبيا بحتا ، او سياسيا بحتا ، الا ان هناك ما تلمسه وبوضوح جلي بالنزعة الانسانية في كلماته .

لذا .. كان ايكو ممن نصبتهم ابطالا في عالم خيالي الادبي ، واجلسته على نفس الطاولة المستديرة مع نيتشة وكازانتزاكس وجبران وساراماغو وارسطو وابن رشد وحسن البرغوتي وغيرهم في قائمتي غير المتناسقة لمن لا يفهم نزعتي الخاصة بأنسنة البشرية.

هيكل لم يكن ممن اثاروا فضولي .. فلقد تحول للاستاذ الكبير والاكبر بالتقادم وبتقربه وعي او بلا نحو رجال السلطة ، وفي نظري صار ممن يمثلون السلطة .

افكاري هذه القاسية ، لا تبنى بالضرورة على وقائع . فقد يقدم الرجل اعظم ما يمكن تقديمه للعالم . ولكن يكفيني كلمة زالة ليصبح وكلامه هباءا منثورا .

مرت عني مقالات هيكل في زمن وعيي للقراءة بلا توقف ملفت . مقالات وكتب مهمة عن حرب ٦٧، قناة السويس، عبد الناصر، المفاوضات السرية والمعلنة، التداعيات المختلفة في عالمنا العربي، هو وكيسنجر ، الثورات ، عهود الملوك والعسكر . كنت اتساءل عما افقده في عدم اهتمامي بهذ الرجل في كل مرة كنت اقرآ تقديمه لكتاب لكاتب احبه ، كادوارد سعيد ومقدمته في “غزة-اريحا” ، او نوعم تشومسكي و:ماذا يريد العم سام” ، ورجيه جارودي في “الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية” .وكان اخرها الحلقات التي بثتها قناة الجزيرة “مع هيكل” ، والتي حدث فيها عن الحاضر السياسي ورؤيته لمستقبل الصراعات في المنطقة.

في يوم من ايام القدس الثقافية ، والتي يتباهى الكتاب في المجيء اليها لعرض اخر منتجاتهم الادبية ، حل امبرتو ايكو ضيفا على المعرض . تلك الاشكالية التاريخية الاخلاقية اليوم .كيف يأتي كاتب مخضرم اعماله الادبية والفكرية فيها تصريح واضح لحقوق الانسان والعدالة ليأخذ جائزة او يشارك في احتفالية حتى ولو كانت ادبية في بلد محتل . كيف تتكلم امام من ينتهكون حقوق الانسان ، وانت ممن ينتقد هذا بجرأة؟

كان كتاب “مقبرة براغ” ، والذي تحدث فيه عن المؤامرات التي حكمت التاريخ الانساني . جرائم الكنيسة والغطاء خلف التدين .ارتكاب الجرائم بالنهار واضاءة شموع المناولة بالليل . تناول موضوع بروتوكولات صهيون . كتاب اعتبر من اهم تحف ايكو الادبية . ولم يكن ليمر بسلام لدى القاريء الصهيوني الذي احس وبسرعة بانه ممن اشير اليه بالتورط بالمؤامرات الكونية على الانسانية . ومع هذا تم تكريمه عليه من قبل الجالية اليهودية في القدس .

لم اكن بعيدة في تبريراتي لشأن المقاطعة كل البعد عن تبريزات ايكو نفسه بالزيارة . فكان لقاؤه بالنسبة لي لقاءا تاريخيا . فهو احد المختارون من الاهم في مكتبتي ، وكتبه لا تخلوا ابدا من برنامج قراءاتي. وبررت دعوتي بأنني سأكون ضمن الجالية الايطالية . لم يكن هناك شأن اسرائيلي . والحقيقة ان هذا ما كان . فلقد كان اللقاء على هامش المعرض في عشاء خاص للجالية الايطالية . ولعلم القنصل العام (الذي كان صديقا مقربا لي) بشغفي بايكو استغل الفرصة لدعوتي معهم.

جلست استمع لكلامه ، وكان الانبهار يتناثر . مهما قال من كلام .كان هناك حقيقة واحدة. كيف تبرر وجودك هنا ؟ كيف تتماهي معهم بنقاش عن الحقوق والعدالة والانسانية وانت تعرف تماما انهم ينتهكونها من نفس هذا المكان ؟   ولا انكر ان بكلامه كان هناك نقدا مبطنا للصهيونية . كان قد بدا عليه الخوف والتوجس . فهذا الكتاب كان به اتهاما له بمعاداته للسامية . وكنت انا هناك .

مما لا شك فيه ، انه لم يخطر ببال ايكو ان فلسطينية ستكون بين تلك المجموعة . فاثار سؤالي الاضطراب في نفسه . عندما وجهت له ما تساءلت به مع نفسه .

بتلك اللحظة فهمت معنى التهاوي نحو السلطة . ولم اغضب منه ولم اكرهه. ولكنني ارجعته الى انسانيته العادية الطبيعية . مسلمة ان الانسان بطبعه الضعف . والسلطة مفسدة . حتى ولو كان عبق الكتابة هو ما يزين افاق الانسان .

كان كتابه الجديد بحوزتي مع العديد من الكتب الاخرى لاحصل على توقيعه . التفت الي صديقي الايطالي متباهيا بأن احضر الكتب ليوقعها ، ولكني كنت قد اخفيتها في ظلمة حقيبتي . لم ارد توقيعه .

قد يكون ما جري فيه الكثير من المبالغة من ناحيتي . الا اننا تبادلنا نظرات كان في مجملها اعتذار لضعفه . لعدم تماسكه الاصيل بين ما يكتب عنه وبين ما يقوم به . على الرغم من نقده الحاضر . الا ان وجوده كان من المستحيل ان يكون مبررا … له هو تحديدا . لانه لم يكن رجلا عاديا . فلقد كان مفكرا حقيقيا ..تناول هذه المواضيع مباشرة وغير مباشرة .. فلما اهوته سلطة لا يحتاجها ؟ لما خاف من معاداة لما ما ليس فيه ؟ لما ارتعب من الحق ولقد كان حاملا شعلته ؟

ليس هباءا ان “الكلمة” هي اصل هذه الحياة . ان بالكلمة تخرج المعاني الى النور . ان النور فتيله كلمة….

الكلمة حق لا يمكن الرياء فيه ….

وقع هؤلاء الكبار في فخ الرياء بلا قصد ربما … ولكن بإغواء من السلطة ونحوها …فتهاووا…. حتى صار كلامهم هباءا منثورا ….

وماتوا اليوم …. وقد يكون لكلامهم فقط وجود يمكن لملمته في لحظة انتهى دورهم وبقي كلامهم ليكون كلمة حق لم تستطع اجسادهم بحياتهم الدنيا عكسه… فلقد رفع الجسد وبقي القلم لتكون الكلمة هي الاساس.

1 أفكار بشأن “في رحيل الكبار”

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading