تكميم الافواه واضطراب الحكومة
لم اعد أحاول ان اكتب من اجل تصويب ما بنهج السلطة او تحسين الأداء في أماكن الخطأ. فلقد وصلنا الى قعر الحضيض وما نحتاجه تدبر في كيفية الخروج من هذا القاع، قبل ان ننتهي الى اختناق او انهيار يدفننا احياء.
لم أعد حتى أفكر بنشر المقالات على وسائل الاعلام لأنني لم أعد اميز ما هو المسموح وما هو المحظور. فصرت جزءا من الية التكميم او الحظر الذاتي. وكما دوما، نحتاج هذه الفترة لتكون ربما استراحة محارب، او انهزام محارب لا يهم.
ما يهم هو مكاننا في هذه اللحظة التي يبدو وكأنها ستخرجنا من التاريخ.
عند بدء ازمة الكورونا، اعجبتني عبارة منشورة لإحدى الصديقات تقول فيها: نحن امام مرحلة اما سندخل فيها التاريخ او نخرج فيها من الجغرافيا. وبما ان كل شيء اختلط، وأزمة الكورونا امتزجت مع الازمة السياسية لطول امدها. أصبحنا وكأن ما يحدث معنا مآله على الأرجح بالخروج من الجغرافيا.
من السهل لوم السلطة ومن البديهي. ولكن أصر كذلك اننا والسلطة في نفس المكان من تبيعة ما يحصل. فلقد وصلنا الى مرحلة القاع، وفي القاع لا يهم من هو المسؤول أكثر. كلنا في نفس القاع ونحتاج ان نفكر كيف نخرج سالمين او بأقل الاضرار. ولكن ما يحدث هو ان النجاة تحولت الى مشروع فردي لانعدام الثقة ما بيننا وبين السلطة. فبينما نصارع نحن الشعب من اجل بقائنا في هذا الوجود، تصارع السلطة من اجل بقائها علينا. فبقاء السلطة مرتبط بالصعود علينا، وبقائنا مرتبط بمحاولاتنا الدائمة للبقاء نفسه.
وهنا نقف امام ما تقوم به السلطة من اجل بقائها. أنا على يقين ان الشعب في معظمه مثلي، استيائه من السلطة وادائها كان دوما يصب في مكان الأسف والتمني بتصويب الأحوال. ولكن ما اعاني منه اليوم وغيري، هو كذلك ما يعاني منه المعظم من خوف ورهبة وتهديد حقيقي لم يعد مجرد هاجس او حرص زائد. وليس القول بأن تكميم الافواه هو أسوأ ما يمكن ان يمارسه نظام على شعب بالقول المبالغ فيه. فحرية التعبير تمثل المجرى الامن للشعوب والأنظمة، وسدها واغلاقها يعني طفح وتفجر وفيضان.
ولكما ضاقت افق التعبير ومساحاته، كلما ازداد وعي المواطن حتى لو ظهر غير ذلك. وقد يكون هذا الوعي سلبيا كما نرى اليوم من ممارسات يومية وظواهر اجتماعية جديدة لم نعتد عليها، من عنف وقتل، واستهتار، وتسيب. نعم تستطيع الحكومة ان تقمع الافواه من التعبير، ولكنها تترك المجال للتعبير عن النفس في سياقات أخرى، حتى صارت الجريمة والعنف والقتل أسهل من التعبير عن الرأي.
وعليه، نحن نعيش بلا شك في الأسوأ.
ما تقوم به أجهزة السلطة من مطاردات وترهيب وتهديد واعتقالات يجعلها بأسوأ احوالها بلا شك. وكأنها انتقلت من مرحلة إطلاق النار على الأصابع الى مرحلة إطلاق النار على الصدر. وهذه عملية تدمير ذاتي بجدارة. فالسلطة تحول بهذه الممارسات المنتقدين لها الى أعداء. وشتان ما بين الانتقاد والعداوة. وكأننا ينقصنا فرقة أكثر وعداوة أكثر في هذا الوطن.
استخدام السلطة لحالة الطوارئ واستغلالها من اجل تنفيذ مخططات لا أحد يعرفها الا اربابها، وعليه يصبح تكميم الافواه بلا حساب ولا سؤال حيث يصبح القانون هو الغطاء لهكذا ممارسات، لا يمكن وصفه الا بكبس زر الدمار الذاتي للسلطة. كما يقال، ان الشمس لا تغطى بغربال. فالفساد لا يمكن ان يسود مهما طال الوقت ومهما كثر الظلم. لأن الفساد لا يؤذي فقط المتضرر ولا يعود بالفائدة فقط على الفاسد. ان أثر الفساد كانتشار الوباء، لا يمكن ان يكون مسألة فردية. انتشاره يستفحل بكل مكان وبالتالي يفسده. فمحاربة الفساد واجب لو كانت السلطة تملك أدنى درجات الذكاء لاستخدمت المنتقدين كسلاح لها لا عليها. التاريخ ترك لنا الكثير من العبر. حتى في أكثر الأنظمة قمعا، كان هناك فسحا للتعبير تسمح به تلك الأنظمة. والأنظمة الدكتاتورية البوليسية تملك بالعادة اليات ومعدات ومساحات من الأرض والبشر تستطيع ان تخفي جرائمها وتتنصل منها مؤقتا، الا ان في حالنا الفلسطيني، فلا ماكن لجريمة او فعل بالتستر والاخفاء طويلا. فاذا ما همس أحدنا سمعه اخر. والناس هنا تعرف بعضها، فليس من السهل إرساء صفة العمالة والتخوين وصقل كلمة اجندات خارجية وداخلية على الناس. فأن تصل الأمور بنا ان يصبح من يعارض ممارسات السلطة وافعالها وفسادها بالخائن والكافر وصاحب اجندة عميلة جعلت من السلطة نفسها خارجة عنا. فكما تتكاثر الاختلافات والخلافات لتصبح عداوة بيننا، تتزايد الأسباب في تعارض المصالح وتضاربها فتتقلص فرص السلطة بتعاضد الناس حولها.
لا يمكن الا يكون أصحاب السلطة قد لاحظوا كم الاستياء الحاصل منهم. الشعب نفسه لذي التف وراء السلطة بتعاضد غير مسبوق بداية ازمة الكورونا، هو نفس الشعب الذي تنافر في تباعد غير مسبوق كذلك عن هذه الحكومة. والأسباب واضحة وجلية تتمثل بالإضافة الى عجز الحكومة عن تأمين ابسط احتياجات الناس في ظل هذا المصاب العالمي، علنية التلاعب بالقوانين وبالتالي الفساد، والتعامل مع كل من ينتقد او يحاول الدق على الخزان كعدو.
حالة الاضطراب التي نعيشها منذ أشهر، والتي لا يمكن عدم ربط وجود حالة الطوارئ بها، كسرت ثقة المواطن بالحكومة وجعلتها حكومة فاسدة بلا مواربة. وجعلت من الماسكين على جمر الحريات ابطالا. فكان هؤلاء بضعة اشخاص نتفق معهم ونختلف معهم. نحبهم او لا نحبهم. تعجبنا طريقتهم بالتعبير او لا تعجبنا. نضحك مع كلامهم ونصفق لهم ونقول في سرنا او علننا انهم ينطقون بما لا نستطيع التعبير عنه، ثم ننساهم بعد ساعة ا ويوم.
ما جرى من تكميم للأفواه يبدو وكأنه ممنهجا خلق من الناس التي كانت ترى في نفسها مجرد أناس تقف امام كلمة حق وتعبر عنه من اجل مصلحة عامة كلنا جزء منها. أناس يؤمنون بأن الحرية حق بديهي، والوصول اليه هو شرع وجودنا كشعب، ومن نشأ على فكر مقاومة الاحتلال لا يمكن له ان يقبل بالقمع وتكميم الافواه. نحن شعب نتصدى لاحتلال عسكري هل يعقل ان نركع امام اعلاء كلمة حق وان نخضع لفساد؟
حاربت السلطة الشعب بتكميم صوته واستخدمت كل ما تستطيعه من ترهيب، سواء بالاعتقال او المطاردة او التعدي على الممتلكات سواء بالحرق والتخريب، او التعرض للناس بأرزاقها. ولكن بالمقابل، اسدت لهؤلاء خدمات تفوق قيمته الخسارة الجسدية او المادية، فلقد جعلت من هؤلاء ابطالا حقيقيين في معركة وجودية جديدة، يخلدهم التاريخ حتى لو أخرجت السلطة ومن عليها من الجغرافيا.