بينما تصارعني الأفكار، بظلم تكون به الأنثى فريسة مجتمع أبوي ذكوري. أفكر بوالدي. تأخذني الكلمة الى سياق أحاول بث الروح فيها. والد ام أب؟ قد تكون كلمة والد دخيلة على فعل الابوة، لأن في الانجاب يوجد من يلد، وهي الانثى. ولكن أتذكر فلسفة افلاطون بمساواة الرجل بالمرأة عند الحمل والانجاب. فيعتبر انه من الصحيح ان حمل الأنثى للابن شهورا بالرحم والولادة فعل شاق للغاية. ولكن الذكر يحمل الأفكار العظيمة التي تكون ولادتها بحجم صعوبة المخاض ..ان لم يكن اكثر. وهنا يكون الوالد.
وكلمة أب، فيها من القسوة ما يعطي دوره رفضا مباشرا. فدوره بالعلاقة ان يأبى.
نسمي مجتمعاتنا بالأبوية، لنجعل من الاب هو مصدر القرار الأخير وصاحب الرفض او الموافقة لما يترتب علينا من حياة.
ولكني أفكر بوالدي، وبكلمة ابي التي تلفظ معانيها على لساني ببابا، أشعر بها بكل مرة ان الاب هو بوابة حياتنا كإناث. بوابة تدخلنا الى جنة. بوابة مفتوحة على مصراعيها بقفل ومفتاح يحمله هو.
أبي هو هذا الشعور من الحرية والأمان، وهو كذلك، الشعور من هيبة خسارة الحرية وانعدام الامن.
تمنيت لو كبرت بعلاقة مع ابي تشبه تلك التي يمارسها ابنائي معه. ففي ذكريات طفولتي، وجوده متقطع محدد بأماكن ومناسبات وتوقيتات بعينها. تبدأ صباحا بذهابنا الى المدرسة وقد يتخللها حدث ما. ابي كان دائما هو ذلك الرجل الذي يوصلنا الى المدرسة. متفرقات من الذكريات تلك التي تتخللها ذكريات طفولتي، حفرتها على الاغلب امي في مخازن الذكريات.
ولكن، على الرغم من تواجده القليل في ذكرياتي البعيدة جدا من طفولتي، كان لابي على بوابة حياتي مفاتيح فتحت بها وقفلت ما شكلني من مبادئ واخلاقيات. غريبة هي هذه الحالة. فأمي هي التي شكلت كل ما انا عليه من صفات وتصرفات وشخصية. انظر أحيانا الى نفسي وأفكر ان من يعيش بداخلي هو ارتداد امي لا انا. ولكن بتلك المرات القليلة التي فتح لي ابي بوابة حياتي لاستمر بالعبور، تشكلت بالفعل تحدياتي المستقبلية التي شكلت معاييري وتصرفاتي. امتحانات لا اعرف ان كان يقصدها، ولكنه نجح بأن يترك فيها اثرا ابديا لكيفية تفكيري. على الرغم من بساطة تلك المواقف كان لها الأثر العظيم علي… إيجابا او سلبا.
سلبا، كانت تلك التي عشتها في مراهقتي المحدودة ، بين ضغوطات لكيف تكون عليه البنت حسب مقاييس المجتمع، وبين ” رجولة” متوقعة مني بالتصرف ك”رجل” يحمل عبء “الكبير”، وكذلك كونه (انا) مؤثرا في سلسلة الاناث الكثيرة اللاحقة. فأفعالي كانت مثالا لأخواتي، وكذلك نتائجها. يعني مر عن تلك السنوات حتى زواجي كف مدوي ، بصقة ملأت وجهي، ، ومنع من الخروج وتهديد بتزويجي لأول قارع على باب المنزل.
ولكن، تلك ذكريات تضحكني عندما اتذكرها. فبمراهقتي اضطرابات بأعصاب المخ عندي كانت كفيلة على ما يبدو ل”عبادة العجل” بسببي.
ما حفر الى الابد بحفريات ذاكرتي كان آخر…
كنت ربما في السادسة او السابعة من عمري، عندما اعطاني بعض النقود لأشتري شيئا (ربما كان خبزا) وارجع له الباقي. اذكر وقفته امام السيارة وبيدي باقي الخمسة شواكل مما تبقى، منتظرة ان يكون قد نسيها او انه لا يعرف كم ثمنها. بالنهاية هو اب مشغول بالكاد اراه. يعمل ليل نهار بكل ما تعنيه تلك العبارة من معنى. قليلا كانت تلك الليالي التي عاد بها قبل نومنا في ساعاته المحددة لنا بصرامة من امي. كنت بتلك اللحظة اتحايل على فرضية ان الرجل مشغول ولن يكون هناك وقت لديه ليتعب عقله بحساب الباقي من النقود. فكرت كيف سأخدعه، ربما أفتش في جيبي وادعي أني اضعت الباقي. ربما أقول له انني اشتريت شيئا اخر وأكلته بالطريق. اردت ذلك الكنز من باقي النقود التي حملتها. ولكني لم أكن بصدد سرقتها او الانكار. فقد يفتش جيوبي، وانتهي الى عقاب من امي يترك اثرا أعمق الى الابد بداخلي. كنت قد تعلمت درسي الكوني من السرقة، عندما “سرقت” ما يساوي ربما الشيكل بسنوات او سنة سابقة، عندما كان العقاب حشري بالحمام ليوم كامل والطلب من اخواتي التي تصغرنني مع كل دخول الى الحمام بالإشارة الي ونعتي باللصة. شعور لم يخرج مني طيلة حياتي. كنت انا المهيمنة الجبارة على اخواتي، بقيت احداهن تذلني في كل موقف جبروت لي لتقول: حرامية!
من اجل ذلك كان علىي الاعتراف بالحقيقة والتخلي عن باقي الكنز في جيبي. بالنهاية فإن تاريخي موصم باللصوصية. فقلت لوالدي بأن ما اشتريته كلف كذا وما بقي معي كان كذا وادخلت يدي في جيبي من اجل اخراج الباقي، ونظر الي قائلا: اتركي الباقي معك. خبيهم.
منذ ذلك اليوم وعشت في مهمتين: الأولى ان أثبت انني جديرة بالثقة ، والثانية بأنني استطيع ان “أخبيهم”. فبعد سنوات كنت اسافر للامتحانات في الجامعة ويعطيني والدي مبلغا ما يفترض انه أكثر من المبلغ المطلوب ويقول لي: سأرى كم سترجعين من باقي. وارجع دائما بباقي يتعدى المبلغ المتوقع بكثير. قد يكون من المضحك ان تعلم هذه التجربة بذاكرتي هكذا، كالوشم، في حين ابحث بكل ثنايا عقلي عن ردة فعل ابي عندما رجعت مشيا على الاقدام من الروضة الى مكان عمله، في يوم أنزلني فيه الى الروضة وكان يوم عطلة (ولم ينتبه) . تعتبر هذه الحادثة اهم احداث حياتي (طفولتي) في المطلق. فبذلك اليوم الذي بالكاد كنت فيه ابنة الرابعة او ربما اقل، نفذت اهم عملية وصول في تاريخي… من المدرسة الى مكان العمل. (من الشيخ جراح الى المنطقة الصناعية بالقدس) مغامرة لا يزال عقلي يفكفك كيفية تدبيرها واتعب كما تلك الطفلة كلما فكرت بطول المسافة والمخاطر التي كان علي تجاوزها والابتعاد عنها بالطريق. ولكن لا أستطيع ابدا ان أتذكر كيف استقبلني والدي. جزء من حيوية هذا الحدث هو ذكريات امي له. فأمي تروي تفاصيل كل خطوة خطوتها في ذلك اليوم وكأنها هي التي تركت واضطرت للوصول بنفسها. اما ابي الذي وصلت اليه، فربما لم يكن هناك، وربما وهو الأرجح، انه عندما رآني قال : اه وصلتي ياللا اروحك عالدار. وكأنه امر عادي تستطيع فعله بسهولة طفلة لم تتجاوز الرابعة بعد. بعد سنوات كثيرة جدا جدا ، بينما كنت في جلسة للعلاج النفسي ، استعدت هذه الحادثة لاعرف مدى أهميتها. عندها اجتمعت بالعائلة حول طاولة المطبخ واصريت على ان اصارحهم بما اكتشفت انني خسرته في ذلك اليوم. نظر الي والدي بكل جدية وخوف. اذكر توتر امي وهي تفكر ربما : مقعول صار معها اشي ما قالت لي إياه في ذلك اليوم؟ وابي ينظر برجفة لا تستطيع رموشه التحكم بايقافها. فقلت لهم مطمئنة : لا تخافوا لم افقد عذريتي في ذلك اليوم ، فقدت ما هو اهم … طفولتي. طبعا نظرت امي الى ابي وكأنها تقول له: قلت لك انه البنت مضروبة. وهب ابي عن كرسيه يلوح بيده بإشارة ” روحي من وجهي بلاش اخمعك كف”.
ولكن ربما هذه كانت ضريبة كوني الابنة الكبرى. بين وجودي بحياة “مراهقين” وبين كوني انثى، كان تحدي وجودي مع والدي لأصير ما انا عليه اليوم. فبينما يبلغ ابي اليوم التاسعة والستين من عمره، اتممت انا الثماني والأربعين من عمري. واحد وعشرون سنة تفصلنا. سنوات حولت الرجل الذي نظم له والده حياته وبالتالي أحلامه الى اب. ابنة بدل ابن متوقع. وكنا طبعا البنت تلو البنت.. احباط بدا مزمنا لتوقع اتى بعد سبعة.
من ضمن المشاهد التي تتربع في حفريات ذاكرتي، ذلك اليوم الذي بكى فيه ابي. اذكر دموعه كاللآلئ التي تمنيت لو لممتها وارجعتها الى عيونه في ذلك اليوم. بكاء غامر يملأه النحيب بصمت، في أروقة بيت العائلة الكبير وسرير في غرفة يرقد فيه جدي مغطى بشرشف ابيض، وسط بكاء ونحيب من كل الاتجاهات. كان ذلك يوم الانكسار العظيم.
تمر السنوات وارى الدموع تسرق طريقها عنوة من عيني والدي بينما كان يودعنا لعرساننا واحدة تلو الأخرى. دمعة لضعف ام لحب حاولت ان افهمها كثيرا. وعشت كثيرا فيما بعد لأشعر حب هذا الاب الحنون.
منذ صرت اما، تحول ابي الى حنون. معادلة عجيبة في فقه الاباء على ما اعتقد. فجأة يصير والدك هو حلمك بالرجل الذي تريدينه. تتمني لو يكون زوجك بحبه وعطفه وحنانه. تتمنى لو يكون زوجك أبا لأبنائه كوالدك.
في مغامرة الحياة مع عائلة بدأت صغيرة بالعمر، مليئة بالصغار الاخرين. تعطيك هذه الحياة جوائز ترضية لا تتوقعها: أنك تستطيع ان تعطي ابنائك من والدك ما لم تأخذه انت.
عندما أرى ابي ينظر الى ابنائي. عندما يأخذهم معه الى مشاوير الجد والاحفاد. عندما يحضنهم. عندما يقبلهم. اشعر بغبطة حنان الاب الذي طالما تمنيته. وكأنه يعوض كل تلك القبلات والاحضان التي لم يعطنا إياها في صغرنا، فيعطيها بحنانه المتزاحم للخروج من أعماقه لأبنائنا. لو نعيش في زمن الامثال لكان المثل المخصص لوالدي يقول : “كل فتاة بجدها معجبة.” فأبي هو الرجل الأهم والاحب ومصدر الاعجاب في حياة حفيداته الاناث.
لم يكن ابي حاضرا في حفرية وصولي التاريخي اليه في صبيحة ذلك الايلول من حياة طفولتي، ولكنه كان الوحيد الحاضر في خريف عاصف وقاتم اتى لحياتي عندما تطلقت.
في وقت اختفى العالم بمعظمه من حولي. وقف والدي امام تلك البوابة وأشار الي بالاستمرار بالعبور، راميا ذلك القفل والمفتاح من يده وتمنى لو حضنني.