تخطى إلى المحتوى

القدس تودِع الفنان التشكيلي الشاب محمد جولاني إلى مثواه الأخير

القدس تودع الفنان التشكيلي الشاب محمد جولاني إلى مثواه الأخير 

رحل الفنان الشاب ابن مدينة القدس محمد جولاني عنا بالأمس فجأة. باغته المرض اللعين بلا استئذان ليحط الموت عليه هكذا بجبروت الى ظلماته. 

الموت يبدو وكأنه استهزاء الحياة بنا… وكأنه تجسيد لواقع لا يمكن للإنسان التحكم به مهما ظن انه متحكم. لا شكل ولا وقت ولا صيغة ترشدنا اليه او تجنبنا منه. ميقات يقرره هو ساخرا منا ومن جبروتنا الواهم كبشر. دنيا فانية بالفعل الا من تدبر الخالق لنا منها…. مؤقتا… وحسب نظام وميقات يقرره هو لا نحن. 

محمد جولاني، على الرغم من سنوات عمره القليلة نسبيا، فلقد فارقنا ولقد بلغ للتو ٣٧ سنة لحياة انطفأت فجأة. ترك بصمة في كل مكان مر منه، وبكل انسان عرفه. هذا ليس رثاء لإنسان مات وعرفنا قيمته للتو. 

لا ابدا… 

قد يكون وقع الفاجعة اقل مأساوية عندما ينظر المرء لحظات الى الوراء ويفكر كم ترك محمد جولاني خلفه من اعمال ستبقيه خالدا كروحه التي عاش بها. 

برع محمد جولاني بأعماله بطريقة ملفتة. لم يترك المجال بأن يكون مجرد فنان اخر. ولم يترك المجال لوضعه بقال محدد يشبه أحد ما. فلقد تتلمذ على يد الفنان الكبير سليمان منصور، وهذا يكفي لتكون الموهبة التي حملها قد استطاعت شق طريقها من مكان صحيح. ولكنه على عكس معظم من تتلمذ على يد الرائع سليمان منصور سرعان ما خرج وحلق نحو أسلوبه الخاص. وبرع في كل ما قدم من لوحات واعمال فنية. في كل عمل له كان هناك معنى ورسالة ونفحة فلسفية تجعل المتابع لأعماله يقول في نفسه: لا يمكن ان يكون هذا الشاب من هذا الكون. خصوصا في بلد مثل بلدنا، وفي عالم كعالمنا. لا يقدر الا الاستنساخ ولا يبجل الا الأموات او أولئك الاحياء الذين اكتشفهم الغرب. كان محمد يسير على خطاه هو، متأثرا بالكثيرين، يتعلم من كل التجارب ويرى كل من يعلمه حركة في ريشته او تقنية في عمله استاذه. كان أستاذا منذ تخرج من كلية الفنون بجامعة القدس. وكأن القدر الذي اعد له كل شيء مبكرا اضفى بعض العدالة لفعلته الأخيرة بخطفه. فكان أستاذا ولم يتجاوز النصف الأول من سنواته العشرين. وقدم العديد من المعارض الفردية والجماعية، وكان بقدر ابداعه كفنان تشكيلي، مبدع كنحات، ورسوماته الدقيقة بالقلم الرصاص كانت في قمة الابداع. 

وعلى الرغم من نبوغه الواضح وجولة العالم من ادناه الى أقصاه في معارض ومشاركات وحوارات وجوائز، شغلت اعماله الخاصة بالقدس صبغة متفردة، لا تلك المرتبطة باللوحات فقط، ولكن بالأعمال التي اتسمت بالنشاطات الجمعية في تجميل المدينة والمحافظة على صبغة هويتها. فصعد على الاسطح ورسم، وجال حول الجدران في المدارس والمراكز والشوارع ورسم، وفي كل مناسبة طلب منه ان يقدم عملا للقدس كان مستعدا بلا كلل. 

غريبة جدا كانت طاقته وزخم اعماله. وكأنه كان يعرف ان عمره لن يكفي ليرسم على مهل ووهن. كان دائم الحراك والعطاء، وانشغاله في السنة الأخيرة بدراساته العليا، جعلت منه أكثر التزاما وتفانيا، وكأنه اكتشف مسارا جديدا أراد من خلاله تعويض كل ما سبق من اعتماده على اساليبه التي اتقنها من قبل. وكأنه اكتشف الفن من منظار جديد أراد ان يعوض فيه.. او بالأحرى أراد ان يشاركه معنا قبل ان يرحل. 

ولكن بين مشاهد للوحات واعامل محمد جولاني بالقدس وعن القدس، وبين مراسم دفنه الى مثواه الأخير بمقبرة اليوسفية عند مدخل باب الاسباط على مشارف المدنية العتيقة، امام مطلة جبل الزيتون، يبدو وكأن دائرة ما قد أغلقت من اجل راحة حقيقية. ليرقد أخيرا ليكون من جديد بداخل لوحة لطالما رسمها وجال بداخلها، الا تلك التي رسمها للمدينة. قبر خلفه سور المدينة القديم وضوضاء الشارع على مقربة منه ليأنس به، وشجرتين تظللان حر التراب، واجراس الكنائس القريبة قرعت من غير استئذان لتشاركنا هول المصاب بعد ان انتهت الصلاة عليه. وحل الليل بقمر مكتمل على هيئة بدر مضيء. ليؤنس وحشة القبر وظلمه للزائر الجديد. 

اتابع لوحاته المعبرة دوما، ولكني توقفت امام لوحتين بالذات الأولى تحت عنوان “خارج السياق” ضمن مشروع للهامش على حساب المتن”، وصفها بكلماته ” القداسة والقيمة بمعزل عن السيادة والسلطة باختلاف اشكالها، عن الهالة الفارغة من المفهوم، عن اليسار قبل اليمين. اللوحة مستوحاة من فكرة دا فنشي في لوحة الرجل الفيتروفي والتي تسمى أحيانا شريعة الانساب، التي تمثل رجلين عاريين في وضع متراكب أحدهم داخل دائرة والأخر داخل مربع. ما قام به محمد في تلك اللوحة هو رسم العشرات من الرجال بوضعيات كثيرة مع كل الاحتمالات الممكنة ولم يكن كل رجل في تلك الصورة غير محمد نفسه. 

ما الذي يسعى اليه الفنان عندما تكون رسماته مهما كانت ومهما حملت من معاني مختلفة يكون هو محورها؟ 

كانت اللوحة التالية هي الصادمة لي، ليس بخروج محمد من اللوحة في تلك اللوحة، وليس ما وصفه بنفسه بالكلمات التالية: 

ها أنذا أخرج من عملي لأكتب عنه. أبتعد وأنظر إلى شبحي يدير ظهره لورشته اليومية، فأرتبك. أرتبك وأمد يدي إلى اللوحة لأعيدني إليها، دون أن أدري ما الذي أريده بالضبط؛ هل هو وصف الشكّ حين كان فكرة أم وصف الشكّ حين اكتمل وصار شكلاً. هل أحاول في هذا العمل إحياء التوازن بين الواقع والخيال أم أحاول قتله وتحطيمه. أم أن ديغاس كان محقاً حين قال: “يرى الشخص ما يرغب برؤيته، وهذا الزيف هو ما يشكل الفن”؟ لم يكن هذا العمل نتيجة لبحث قمت به أو لمخطط وضعته لتنفيذ فكرة ما كجزء من مشروع أو معرض شخصي، ليمكنني تقديمه بلغة المشتغل أو لغة الناقد أو حتى المتذوق. بل بالعكس تماماً، إنه تصريحٌ فظٌ تقوم به اللوحة ذاتها عني وعن مكاني وعن تحركاتي اليومية. وأنا لستُ إلا جزءً من العمل أقف فيه وأمامه كشاهد عيان لا أكثر. إنه الحوار اليومي بيني وبين أشيائي؛ رفوفي ولوحاتي وأقلامي وريشي. لكن هل هو حوار خصومة أم صداقة؟ لا أعرف. كل ما أعرفه أن الصوت فيه ضائعٌ لأن الزمن مضى. مضى منذ أن رفعت يدي عن آخر لون في اللوحة. هذا العمل إذن هو أنا في لحظة ما، صورة لا تُنسى لشيء لا يمكن الاحتفاظ به في الذاكرة.”

ما أرعبني في تلك اللوحة هو ذلك الظل عند خروجه من الباب. كان ملك الموت منتظرا بلا شك. فهل كان محمد على وعي بما ترسمه ريشته؟

A person standing in front of a building

Description automatically generated

في أحد منشوراته بداية هذا العام العصيب، شارك محمد أنطولوجيا الموت للشاعر المغربي محمد بنميلود. اعيد قراءة كلمات القصيدة وسماعها وأفكر كم هو قاس الموت…. قصة أخرى لمعاني الحياة التي نرفض ان نعتبر منها… نسلم بها فقط…. ونكمل في حياتنا بلا اعتبار…ويذهب الميت وحده الى عالم اخر ليضحك منا ربما… ويتركنا معلقين وراء اغراضه وذكرياته نلملمها ونحللها ونحاول فهمها لنأخذ عبرة بما لن نعتبر منه الا للحظات عابرة. 

أشارك هنا (قصيدة محمد بنميلود ما الذي يعنيه الموت) ما شاركه محمد جولاني لعلها تكون كذلك رسالته هو.. الميت الان لنا نحن الاحياء مؤقتا. 

“ما الذي يعنيه الموت بالضبط؟

إنه لا يعني غياب الأشخاص. بل يعني أن تستيقظ وتجد جثة الشخص مضربة عن الحركة. رافضة القيام من مكانها، رافضة العمل. رافضة الأكل والشرب. رافضة الوفاء بمسؤولياتها. رافضة دفع الإيجار والفواتير والديون العالقة. رافضة كل شيء هكذا ببساطة شديدة ودون مقدمات.

هذا بالضبط هو الموت. إضراب ساخر وعصيان مدني فردي مفتوح وغير قابل للتفاوض. إنها ليست مشكلة الجثة بل مشكلتك أنت. لا يمكنك تركها هناك في الداخل ولا إخراجها إلى الشارع لإسنادها على الحائط والعودة إلى البيت كأن شيئا لم يحصل. معضلة كبيرة، طامة عظمى. لقد مات الشخص وذلك يعني أنه تنازل عن نفسه. لم يعد يريد جثته. لم يعد محتاجا إليها. غادر وتركها هنا كخردة النفايات. كمن يستبدل حذاء قديما بحذاء جديد. يرتدي الجديد على كرسي مقابل لجسر أو لميناء، يعقد خيوطه جيدا، يرفع ياقة معطفه إلى أقصاها ضد نزلات البرد وضد نزلات الحنين، ينهض ويغادر دون أن يستدير، تاركا الحذاء القديم فوق الكرسي قبالة السفن الغريقة والنوارس. 

ماذا سنفعل الآن بعد أن مات الشخص؟ بعد أن غادرت روحه تاركة لنا فقط الحذاء، المعطف، القبعة، اللحم والعظام. ماذا سنفعل بكل هذه الخردة؟ ماذا سنفعل بدولاب ثيابه الكبير الذي من دون قفل؟ بأحذيته المهترئة، بكتبه القديمة، برائحته على السرير، ببصماته على الأثاث التي لم تعد لأحد، بفرشاة أسنانه وبماكينة حلاقته التي تركها بالأمس قرب حوض الأسماك الذي لا أسماك فيه. ماذا سنفعل الآن بأنفاسه التي مازالت عالقة بين الغرف؟

إنها ورطة حقيقية. لا يمكن تركه هنا. أيضا لا يمكن إخفاؤه خلف الستائر ولا تحت السرير. لا يبدو أن هناك حلا معقولا لهذه الكارثة.

يجب التخلص منه فحسب على ما يبدو. كان عليه فعل ذلك بنفسه لكنه لم يفعل. ترك هذه المهمة العصيبة لنا. 

والآن حتى وإن حنطناه فسيظل نائمًا فقط، رافضًا القيام بأي نشاط. نائمًا وفقط كأنَّ العالم كله ليل. كأنَّ النوم هو الخلود وكأن الحركة هي الفناء. 

لكن التحنيط ليس بالحل الأمثل. لو أن البشر حنطوا كل الذين ماتوا لكان الآن عدد الموتى الأحياء أكبر من عدد الأحياء الموتى.

تخيل ذلك: عالم مصنوع من المحنطين. لن يجد الأحياء حيزا على هذه الأرض يمشون فوقه ولا حقلا يحرثونه ولا حديقة ينزهون فيها كلابهم الكنيش الصغيرة المشعرة الجميلة والمسلية. ستتحول الأرض إلى متحف هائل للجحيم. كل من مات يجب أن يحنط؟ كأنك تعترض على إرادة الموت وسطوته وسلطانه. كأنك تقول: لقد مت؟ حسنا هذا جيد، لكن ابق هنا إلى الأبد فوق سطح الأرض كأنك حي. غير مرئي للموت. ابق هنا وفقط، لا تفعل شيئا، فقط ابق هكذا هادئا ولطيفا ومرعبا للأطفال. 

طبعا لا يمكن للأحياء قبول شيء كهذا. إنهم يرفضون أن يبقى الأموات هنا. يرفضون أن يشاركهم الموتى الحياة. لا يريدون تذكر أنهم أيضا سيموتون. لذلك يشيدون المقابر عند أطراف المدينة وليس قرب حديقة الألعاب. لا يجب أن ترى المقبرة وأنت ذاهب إلى العمل أو إلى احتفال. 

الموتى يفقدون كل نفع باستثناء إخافة الأحياء. شخص نائم ولا يتكلم ولا يتحرك، إنه كارثة حقيقية. ماذا يقصد بذلك؟ لا أحد يعلم. ماذا يريد بالضبط؟ لا أحد يدري. والأدهى من ذلك لم يعد خائفا من أي شيء. تخيل أنك تسند رقبة ميت بركبتك وتبكي. ثم فجأة يقتحم المكان أسد هائج. ستهرب دون شك بينما سيظل الميت ثابتا في مكانه بشجاعة. عندها الميت هو من يجب أن يبكي عليك وليس أنت. 

يغلق الناس أعين الموتى، يرتدون السواد ويقيمون العزاء. هذا مضحك. الموتى هم من يجب أن يقيموا العزاء للأحياء وليس العكس. 

ليس للميت ما يخسره ولا ما يربحه، بالتالي لماذا عليك الحزن لأجله أو البكاء. أنت لا تبكي في حقيقة الأمر سوى على نفسك. 

لقد تنصل الميت من كل شيء. نكث بكل وعوده وعهوده. لم يعد يخيفه قانون ولا أمراض ولا أوبئة ولا مجاعات ولا فقر ولا غنى. لم تعد تخيفه جيوش ولا أسلحة ولا سموم. حتى الموت نفسه لم يعد بإمكانه إخافته، ببساطة شديدة لأنه مات وانتهى الأمر. مات فهزم حتى الموت. مات، كمن وجد حلا أبديا لنفسه. حلا نهائيا لكل الأسئلة والأجوبة التي بلا طعم وبلا معنى وبلا هدف. حلا ناجعا. لو لم يكن الموت حلا ناجعا لعاد كل الموتى إلى الحياة للبحث عن حلول أخرى. سوى أن ما يحدث بالضبط هو: لا أحد يعود. لا يمكن لعاقل ترك الراحة الأبدية بعد أن ذاق حلاوتها والعودة إلى قرف الحياة وقلقها ورهابها

إنهم كمن يعبر الجسر بعد خوف وتردد وريبة. يصلون أخيرا إلى الضفة الأخرى. بينما ما يزال الأحياء هنا خائفين، مترددين ومرتابين، عالقين في مخاوفهم وترددهم وارتيابهم. يمكنهم التمتع بالآيس كريم وبالشمس الدافئة وبالطعام وبكل شيء في انتظار الموت. يمكنهم السفر وممارسة الرياضات والهوايات والحب لكن لابد من عبور الجسر ذات يوم. لابد من التشجع، وإن لم تتشجع فالجسر هو الذي سيعبرك. لا مفر من ذلك. 

الحس الآيس كريم لكن حدق في الجسر الذي يحدق فيك والذي يستدير أينما أدرت عينيك. أما الميت فقد فعلها وانتهى الأمر. لقد عبر. لقد تخلص ولم يعد محتاجا للآيس كريم. عبر وورطك في جثته. تخفف منها قبل العبور كي لا تغرقه. قذفها في اتجاهك وغادر من الشقوق ومن درفات النوافذ والأبواب. لقد هرب وتركك وحيدا داخل الأسر رفقة جثة. 

ماذا ستفعل الآن بهذا اللحم الذي سيتعفن في غياب صاحبه؟ وبهذه العظام التي ستهترئ؟ التحنيط لن ينفع معها، وبالضبط لن ينفع معك. تركها في صالون الضيوف أيضا لن ينفع. الصراخ في أذنها ببوق لن ينفع. صعقها بالكهرباء لتستيقظ لن ينفع. نغزها بسفود محمى لتنتبه لن ينفع، لا شيء سينفع..

وبالضبط لن ينفع معك. تركها في صالون الضيوف أيضا لن ينفع. الصراخ في أذنها ببوق لن ينفع. صعقها بالكهرباء لتستيقظ لن ينفع. نغزها بسفود محمى لتنتبه لن ينفع، لا شيء سينفع..

قذفها في اتجاهك وغادر من الشقوق ومن درفات النوافذ والأبواب. لقد هرب وتركك وحيدا داخل الأسر رفقة جثة. ماذا ستفعل الآن بهذا اللحم الذي سيتعفن في غياب صاحبه؟ وبهذه العظام التي ستهترئ؟ 

التحنيط لن ينفع معها، وبالضبط لن ينفع معك. تركها في صالون الضيوف أيضا لن ينفع. الصراخ في أذنها ببوق لن ينفع. صعقها بالكهرباء لتستيقظ لن ينفع. نغزها بسفود محمى لتنتبه لن ينفع، لا شيء سينفع..

الحل الوحيد إذن هو حفر الأرض ودفنها، أو جمع الحطب وإحراقها، والعودة إلى البيت للبكاء. البكاء على أنفسنا طبعا. فالميت لم يمت فقط، بل في كل الأحوال ورطنا أيضا في إخفاء جثته، دفنها أو حرقها لإخفائها عن العيان كما يفعل القتلة بالضبط.

مات وحولنا الى قتلة.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading