تخطى إلى المحتوى

الفن الاستعراضي بين تحية كاريوكا وروبي… واهتمام ادوارد سعيد

الفن الاستعراضي بين تحية كاريوكا وروبي… واهتمام ادوارد سعيد

 

شاهدت اغنية مصورة (انت عارف ليه) للفنانة المصرية روبي، بعد أن سمعت تصريحا لها تقول فيه، أنها لا تريد العودة للغناء بسبب هبوط مستوى الأغنية بالوقت الحالي. 

استهزأت من التصريح للحظات، ثم استذكرت تاريخ روبي الذي بدأ بأغنية أشبه بتصوير إباحي بحركاتها قبل الكثير من السنوات، والذي شكّل في حينها صدمة حقيقية لجمهور المتفرّجين. فكان حينها لا يزال للصوت قيمة، كما للمظهر الذي يخرج فيه الفنان، والالتزام كان سمة الفن. فكانت روبي بجرأتها الخدشة والكلمات الهشة المعنى والايقاع، هزّت بتحريكها لمفاتن جسدها ما أصبح حالة تتسابق عليها النجمات فيما بعد. 

أذكر انه وفي تلك الحقبة اشتهرت بالغرب جينيفر لوبيز وتلتها شاكيرا بتأثير رقصهن قبل أن تثبت كل منهما قوة ما تكمن من إبداع. على الصعيد العربي، لا أنسى كيف تلت حالة روبي التي كان الاستياء منها عاليا، نانسي عجرم، التي عرفها الجمهور من قبل في أدائها لأغاني كلاسيكية ملتزمة، وإذا بها قد تغير شكلها بالكامل ودخلت العالم العربي على طاولة بمقهى وفستان احمر أو اسود لا اذكر وهزّت من بعدها عرش الالتزام بالغناء من خلال “اخاصمك آه”. 

سنوات كثيرة مرت، وانهار الفن كما ينهار الكثير من الأمور في المنظومة المشكلة لمفاهيمنا وأخلاقنا، فصار الزحام على من تتعرى أكثر، حتى صارت هيفاء وهبي و”ابوس الواوا” عنواناً آخر للمرحلة المترهلة للفن. وشاهدت اغنية روبي وإذ بي أرى فنّا وابداعا وجمالا. ايعقل ان معاييري اختلفت؟ ام ان المقارنة بما نعيشه اليوم من اسراف وامتهان وانحطاط للفن جعلت روبي ايقونة فنية بالمقارنة؟  

أثناء قراءتي لكتاب صبحي حديدي، الخاص بإدوارد سعيد: ادوارد سعيد الناقد، استغربت وجود مقال مسهب لإدوارد سعيد عن الراقصة المصرية تحية كاريوكا بعنوان: احتفاء براقصة شرقية تحية كاريوكا. 

كانت قراءة مختلفة تماماً عن أي توقّع، بقدر ما كانت صدمة التساؤل: ما الذي يمكن ان يكون قد رآه ادوارد سعيد أدبياً برقص تحية كاريوكا. طبعا، تساؤلي تساؤل ساذج، يمكن دحضه عند التفكير ان الابداع يشمل الرقص كما يشمل الادب واشكال الفن المختلفة. ومقال ادوارد سعيد عن تحية كاريوكا ليس اقل من وضع الرقص الشرقي كفن أساسي في فهم الحضارات ولا يقل أهمية بالحاجة لفهمه وتأمله من أنواع الرقص الأخرى كالباليه مثلا. 

ومقال ادوارد سعيد هذا ينتمي كما يشير الحديدي في هامش المقال الى “النوع الاستثنائي (النادر) الذي اعتاد سعيد كتابته بين الحين والآخر، يجمع في ضمير القارئ إحساس المفاجأة بأحاسيس ضرب القدوة الممتازة في موقف المثقف الموسوعي من قضايا وشخوص عصره، وحاجة ذلك الموقف الى المزيج من اللمسة الإنسانية، والعمق الفكري ونزعة المسح البانورامي للعناصر الثانوية ذات التأثير الخاص في صناعة التفصيل الشخصي والتفصيل المشهدي.”

طبعاً، لم يخل ابداع ادوارد سعيد في ذلك المقال من طريقته الخاصة بالتعبير الذي مزج الفكر والادب في تحليله وتصنيفه وتعريفه لرقص تحية كاريوكا وعلاقة تحية كاريوكا بالحراك السياسي واهميته في حينه بمصر، ودورها في ذلك، ومن ناحية أخرى كان نصيب ذكريات ادوارد سعيد المراهق ووجود تحية كاريوكا كجزء فاعلا ممتعا من ذكرياته البعيدة. 

في مقال بديع للغاية، تناول فيه كذلك أهمية ام كلثوم وكونها المطربة الأعظم في العالم العربي على مر القرن العشرين، وسحر تأثيرها واعتبارها شخصية طاغية في عملية إعادة اكتشاف فنون الشعوب الجارية على نطاق عالمي، ودورها في انبثاق حركة نساء العالم الثالث بوصفها كوكب الشرق التي تحولت صورتها الى مثال للاحتشام الداخلي والوعي النسائي. فاعتبرت رمزا وطنيا وحظيت بالاحترام على مر عهود الحكم من العهد الملكي الى عهد عبد الناصر بعده. 

بنفس القدر من الأهمية لأغانيها بكلمات قوية ومحترمة ورومانتيكية، كانت أغانيها إلهاما للراقصات. فملأ صوت أم كلثوم بأغانيها العظيمة الآذان وأطربها، وكان الرقص على إيقاع أغانيها تغذية العيون. وكانت تحية كاريوكا التي تتلمذت على يد الراقصة بديعة مصابني أكثر من أبدع في تجسيد هذه الحالة من التماهي بين المطربة العظيمة بكلمات أغانيها وسحر الالحان. 

تحية كاريوكا على حسب وصف ادوارد سعيد جسّدت نوعاً محددا للغاية من الجاذبية الجنسية، عبّرت عنها بوصفها الراقصة الأسلس والأقل ادّعاء، وبوصفها سيدة الإغراء الأعلى كعباً في الأفلام المصرية. 

في فقرات رائعة يعود ادوارد سعيد بذاكرته ليصف تفاصيل ما رآه عام ١٩٥٠ عندما كان ابن ١٤ عاما ليحضر مع رفاقه عرضا لكاريكوكا بكازينو على ضفة النيل في الجيزة. يقول: ” …كنا نجلس بعيدا عن خشبة المسرح قدر المستطاع، لكن الزي الأزرق اللامع والمتلألئ خطف الأنظار ببساطة، وكان التوتر والتوشيح البراق يتألق بقوة، وكان سكونها الطويل منضبطا وهي تقف هناك رابطة الجأش. 

وكما في مصارعة الثيران، يقوم جوهر فن الرقص الشرقي الكلاسيكي العربي ليس على كثرة، بل على قلة، حركات الفنانة. وحدهن المستجدات، والمقلدات البائسات اليونانيات والأمريكيات ينخرطن في درجة مريعة من الهز والتقافز هنا وهناك، معتقدات ان هذه الحركات هي “الجاذبية الجنسية” وصخب وعجيج الحريم. المسألة تتعلق بأحداث تأثير ما عن طريق الإيحاء أساسا (ولكن ليس حصرا على الاطلاق)، ثم القيام بذلك عبر سلسلة احدوثات محبوكة معا في نوبات متغايرة موتيفات متكررة دوريا، على غرار التشكيل التام المفتوح الذي قدمته تحية في تلك الليلة.” 

ويضيف: “أثناء ذلك كله تواصل التحديق في الأجزاء المتحركة، إذا جاز القول، وتثبت انظارنا عليها أيضا كأننا نشهد دراما صغيرة منفصلة، بالغة الانضباط ايقاعيا، تعيد تكوين جسدها بحيث يتم التشديد على الجانب الأيمن شبه المنفصل. كان رقص تحية اشبه بأرابسك مديد يصاغ من حولها زميلها الجالس. وهي لا تقفز ابدا، ولا ترج ثدييها، ولا تنخرط في حركات سحن وطحن الجسد. كان الامر باسره ينطوي على قصديه مهيبة اسرة ظلت محافظة على طابعها حتى أثناء المقاطع الأسرع. وكان كل منا يدرك ان ما نشهده هو تجربة ايروسية بالغة الاثارة لأنها مرجأة الى ما لا نهاية، ولأنها من نوع ليس بوسعنا ان نأمل في مطابقته على الحياة الفعلية. تلك كانت المسألة على وجه الدقة: كانت هي الجنسانية بوصفها حدثا عاما يجري التخطيط له وتنفيذه ببراعة، لكنه يظل، على نحو كلي، غير قابل للاستهلاك او الوقوع.”

فكرت بالرقص كما يطغى على عالمنا اليوم، فيفي عبده وقفزاتها غير المنقطعة، الاغراء لا الرقص الذي يتمثل بكل راقصة أخرى. أكثر من ذلك، امتهان الكثيرات للرقص بالأغاني والاستعراض بكل ما تم وصفه في الفقرة السابقة. 

هكذا خطرت لي روبي في هذا الموضع. 

أضحك بينما أفكر بجديّة أو أهميّة الكتابة بهذا الصدد… ولكن أعود وأقول، إذا ما كتب إدوارد سعيد عن تحيّة كاريوكا، فلروبي الحظ في الكتابة عنها بهكذا مقاربة. فعلاقتي بروبي كعلاقتي بتحية كاريوكا، لم أفهم أبداً بالرقص ولا الغناء وكنت أغرّد مع المغرّدين في رفضهم وسخطهم على أدائهما في فترات زمنية مختلفة. 

ما كانت تقدّمه روبي ببداية ظهورها بالفعل لم يكن إلا إغراء. كل ما قدّمته كان مرفوضاً بالنسبة لأمثالي. ولكن، بلحظات زمنية متسارعة صارت روبي بعرضها الاغرائيّ المفروض لا تشكّل حتى حفنة غبار خفيفة أمام ما حدث لاحقاً. فامتلأت الشاشات بالمعروضات الأقرب الى العريّ المليئة بالإغراء والايحاءات، التي تجعل المتلقّي يشعر بالأسى من ناحية، والى حجم البخس التي صارت عليه الأجساد، وترجيح الاثارة والاغراء والتعري على الفن. فكان كل ما نراه اليوم، فقد تشكّل هيفا وهبه عرّابة هذا النهج، لأن نانسي عجرم وبالرغم من جرأتها أوّلا، الّا انّها كانت صاحبة صوت قد فرض نفسه. هيفا أثبتت انّ النجومية بالغناء أو بالموهبة الفنية ليست بالضرورة مرتبطة بالصوت. فيكفي أن تمتلك الانثى حضوراً مليئاً بالإغراء الطاغي والجرأة على التعرّي وإقحام المشهد بالإيحاءات لتصبح أيقونة الفن والغناء والرقص والتمثيل.  ولكنها كذلك، تبدو قدّيسة وفنّانة ملتزمة أمام ما يجري الآن. 

بعد أن طغت روبي لفترة محدّدة الشاشات بعروضها الإغرائية المثيرة، شقّت طريقها إلى التمثيل، وأثبتت أنّ ملكتها الفنية حقيقية. وقد يكون اختيارها لأدوار بعيدة عن الإغراء بمثابة تحدّي قامت به لتغيّر كذلك الصورة النمطية التي حُفظت لها أمام الجمهور.

فأغنيتها الأولى (ليه بداري كده) التي انطلقت منها كانت أشبه بفتاة الأفلام الإباحية. وبدت انها لا تصلح الا كممثلة إغراء. الا انّ اداءها بدأ يأخذ شكلا أفضل من اعتمادها على الاغراء عندما قررت ان تترك نفسها للرقص كما تحبّه لا كما تحتاج اليه كفعل إغراء. وتبيّن لها ربما أن جرأة الملابس والإغراء لا يصنعوا موهبة، أو ربما استطاعت أن تقرر ما تريده من نفسها بعد ان انطلقت في طريق نجوميتها.  

وكانت امامي اليوم أغنية (إنت عارف ليه)، واستمتعت بالفعل بكل ما جاء بالأغنية، من كلمات (غير مهمة) وصوت (عادي) وأداء مليء بالإثارة. فبدت صفاتها هذه إيجابية للغاية بالمقارنة بما يهجم على شاشاتنا مع اللحظة. ولكني بتأمّل الرقصات التي قدّمتها وجرأتها وارتياحها مع نفسها، وجدت الكثير مما أعجبني، فجمالها صارخ، وكأنّها أميرة عربيّة من زمن الصحراء البعيدة خرجت لتجوب شوارع بلد أوروبية ما ببدلة رقص، كانت “ياسمينة” الخاصة “بسندباد” ربما. لم تحتج لتضع الكثير من المكياج ولا الإفراط بتغيير شكلها ولا الاستعراض بما ظهر أكثر من مفاتن جسدها. جمالها “عضوي” اذا ما صحّ التعبير، نفتقد إليه بلا ادنى شك. جمال بما صنعه الخالق لا طبيب التجميل. جمال يعكس الكمال في صنع الله للبشر، -غير كامل- كما نشتاق لنرى بشر على الشاشات بجمال صنع الله لا ترميم أو تجميل الأطباء. 

تبدو روبي في هذه الاغنية متصالحة للغاية مع شكلها وجسدها ولم تأبه لما رأته مناسباً من كشف أكثر لمفاتنها، ولكنها بالفعل قدّمت لوحة فنية جميلة. رقصها مريح للنظر، لا تحاول التصنّع بالحركات ولا تزيد عليها قفزة ولا هزّة ولا ابتذال (على عكس اكثر من اغنية سبقت تلك الاغنية لها). الحقيقة انّها قدّمت عرضاً رائعاً جداً. بالإضافة الى جمالها العربي. فلا يكفّ المرء النظر الى جمال وجهها، بسحنة غجرية، بدوية، عربيّة. جمال غير مطلوب في سوق النجومية المبنية على الألوان والاغراء. 

اذكر أوّل مرّة شاهدت الكليب، سببت عليها، ومنعت بناتي من المشاهدة، فكيف تمشي تلك المرأة ببدلة رقص بشارع. 

اليوم، وبينما لم أعد أعرف ما الذي يمكن أن تشاهده البنات على التك توك او الكليبات العربية والأجنبية

ما تقدمه روبي يشبه المادة الخام بصوتها ورقصها وآدائها وشكلها. تقوم بفعل ما تشعر به. وهذا هو الرائع. 

متصالحة مع صوتها وجسدها ويبدو شغفها للرقص كذلك أصيل. تذكّرني بطفولة معظم البنات في ذلك الزمن، اللاتي كبرن على التدرب على الرقص في أوقات الفراغ العائلية لتستعرض امكانيّاتها بالأفراح والمناسبات. وكأنّها قرّرت كذلك بأن بدلة الرقص الخاصة بالرقص الشرقي هي المقدّس لفعل الرقص الشرقي، فجولاتها ببدلة رقص استعداداً لجولة رقص في مكان ما بمدينة أوروبية كان امراً، لم يجعل منها راقصة، بل جعل من الرقص فعلا له طقوسه الخاصة… لا يمكن بدون بدلة خاصة به. 

أظنّها انتبهت لهذا لأن ما كانت تقدمه من أغاني مليئة بالإثارة كان ما ترتديه هو المثير لا ما تقوم به من حركات راقصة. أو ربما تكون قررت أن مقدرتها على الرقص يجب الا تُمتهن في الإغراء البائس. وقد تكون روبي نضجت فنياً وعقلياً كذلك، باستنهاضها لمقدراتها بالتمثيل، لأنّها قدمت اعمالاً فنية جيدة للغاية بالأدوار التي قامت بتمثيلها. 

ومن تحية كاريوكا الى روبي، تبقى شخصية الانسان هي العنصر الأكثر هيمنة على ما يمكن ان يتركه هذا الانسان من اثر. 

ولكن مهما حاولنا النظر للأمور بعين تخصصها، فان السياسة غالباً ما تحكم نظرتنا. فلتحية كاريوكا جانباً مهماً في النضال الوطني المصري من أجل التحرر والحرية دفعت ثمنه غالياً. وربما كونها راقصة جعلها “خصرا رخوا” أمام الجمهور العريض. ولكن يكفي مسيرتها أهمية ان يتوقف أمامها باسهاب أدبي ممتع مفكر كادوارد سعيد. 

في المقابل نرى ما نعيشه من انحدار، صار الفن سلعة استهلاكية يستخدمها كل متنفذ، والفنان مجرد بضاعة معروضة لمن يدفع أكثر. والمتلقّي يشتري البضاعة لأنه وقع فريسة الاستهلاك. والمنتج لا يهمه من البضاعة الا إمكانية بيعها. فبتنا نرى كل الأشكال والألوان للفنّ الهابط، تبدو فيه روبي بهذه المقاربة مظلومة بإنهاء عصرها الغنائي، فصوتها ليس الأسوأ- على العكس يمكن تصنيفه بالجيد، واستعراضها الغنائي الراقص يبدو احترافياًّ وحقيقيّاً أمام ما نراه من ابتذال وتصنّع  وانحطاط يمكن أن يوصَف بالانحراف في كثير من الأحيان. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading