قصة قصيرة
الدنيا آخر وقت
استعد الوالدان كعادتهما يوم الجمعة لاستقبال الأبناء والبنات. الأحفاد والحفيدات. غداء اليوم تم نقاشه بتروي مساء الامس. الزوجة تريد ضلعة، والزوج يريد رقبة. في نهاية الامر اتفقا على رقبة وضلعة. فيوم لقاء الأبناء الأسبوعي هو يوم مقدس. يستحق الضلعة والرقبة والرأس والكوارع والأفخاذ وما طاب للأبناء. ففي حياة الانشغال اليومية يبقى يوم الجمعة هو يوم الوصال والتواصل. يوم الطعام الوافر والضوضاء حتى أسبوع قادم اخر من الهدوء النسبي في رتابة الحياة.
بالعادة لا تحب الزوجة هذه اللقاءات الأسبوعية، فهي مجهدة ومقلقة، وتغلق إمكانيات الاستمتاع بيوم الجمعة مع الصديقات. والزوج يفكر أن تكلفة عدد من كيلوات اللحم في زيادة او نقصان لا يؤثر على أحد الا جيبه. وبضع الدنانير هذه قد توفر في قطعة ارض جديدة. دينار على دينار يبني هذه القصور ويؤمن الأراضي الشاسعة… ليؤمن البنين والبنون في المستقبل. لا داعي للقلق، سيتم إرضاء البنات في شيء ما، يهمس في صمته. فالحمد لله كثيرا على نعمة المال والبنون. فلقد جهد كل منهما وبذل حياته من اجل الاستمتاع بنتاج حياتهم المليئة بالتضحيات من اجل ان يكبر الأبناء.
يخرج الزوج كعادته بعد ان يختم جزءا من أجزاء القرآن. عادة يومية على مدار عشرات الأعوام لا تتغير. التقرب من الله من خلال قراءة القرآن يزيد ثوابا وايمانا. وها هي الصفحات تشهد يوم القيامة بعدد قراءتها. وان غاب عن الملائكة العد، لا قدر الله، فها هي كل ختمة للقرآن مدونة بالتاريخ واليوم. فلا مجال للخطأ. هذه كفيلة بإدخال رجل الجنة. حسبة دقيقة تزيد في ميزان الحسنات.
يخرج لشراء الحاجيات قبل صلاة الجمعة. يجلس بالصلاة بورع وايمان. يدعو الله بان يكون مكانه محفوظا بالجنات. يستغفر الله كثيرا، يبكي من كثرة الخشوع، يزيد في الصلاة والركعات، فركعات إضافية بالمسجد بعشرات الحسنات الإضافية.
لا بد ان هفوة ما قد مرت بحياته، وها هي الصلاة وقراءة القرآن والزكاة واطعام البنين والبنات وتعليم الغرباء في ميزان الحسنات لتمحي أي من الهفوات.
الزوجة هناك تستعد للغداء. وصلة من الاتصالات بين الصديقات والاقارب للتأكيد على يوم الجمعة العظيم. الصلاة والاستغفار، والبكاء من الخشوع.
هي أكثر تقدمية في ايمانها من زوجها التقليدي، تؤمن على طريقة محمد شحرور. تصلي وتمارس العبادات والتقوى على طريقته. فالله بالمحصلة يحاسب على ما في القلوب.
كم يتعب الاهل من اجل أبنائهم…
كم يحترقوا وكم يبذلوا حياتهم….
همهمت الزوجة في نفسها قليلا متذمرة من تعب الطبخ والنفخ.. ولكن لا يهم.. كلها مرة بالأسبوع..
ختم الامومة والابوة موضوع بإحكام.
لا يمكن ان يشكك أحد في هذه الامومة التي استباحت نفسها وضحت بشبابها من اجل ان يكبر الأبناء والبنات والعيش من اجل هكذا يوم يجتمع به الجميع على طاولة واحدة أسبوعيا.
كم تفتقد الكثير من العوائل لهذه اللحمة.
كم يحسدهما القريبون والبعيدون على هذه الصورة العائلية العظيمة.
جاء وقت الغداء ولم يأت أحد بعد.
كانت الزوجة قد تذمرت قليلا في الأسبوع الماضي، هل يعقل انهم اخذوا على خاطرهم وقرروا ان يأتوا فقط على موعد الغداء.
أحسن.. قالت في نفسها…سيأتون بالأسبوع القادم بكل تأكيد او ما بعده او ما بعده.. سيأتون بالتأكيد.
رجع الزوج من الصلاة والخشوع يملأ قلبه. تعب وحرارة، وكورونا في المحيط.. ولكن لا يهم… الله بحمي.
استلقى قليلا حتى يأتي الزائرون الأحباء. تناول القرآن من جانبه وقرر انه بحاجة الى ثواب جديد، لعل هناك هفوة لم ينتبه اليها اليوم مرت من حياته الورعة.
ما أجمل العيش من اجل الثواب في خضم الايمان.
رنت لاحد الأبناء، ولم يرد.
هاتفت الثاني والثالث والرابع… ولم يردوا. يا لعقوق الأبناء وجحودهم قالت في نفسها.
قام الزوج من قيلولته وقد زاد الى ثوابه جزأين من القراءة القرآنية. وطلب الطعام.
اين الأبناء؟
يا لهم من مستهترين. ماذا سنفعل بكل هذا الطعام. سنوزعه على الفقراء والمساكين.
لم يفكر أحدهما للحظة ان هناك مسألة ما …
كظمت الزوجة غيظها من الاستهتار ووضعت لزوجها والعاملة المنزلية صحنا من الغذاء، واستمرت في محاولة الوصول الى الهواتف المغلقة.
قررت هي كذلك تناول الطعام.
صورة للفيسبوك مع المائدة سيبدو جميلا لهذا اليوم.
صورة للرقبة والضلعة مشوية بعناية مع الصنوبر واللوز على السطح والرز الشهي على الجوانب. وعاء سلطة كبير، وصحون كثيرة امام المائدة الكبيرة.
صورة جميلة جدا توجتها عبارة: جمعة مباركة.. تفضلوا
قلبت حائط الفيسبوك في جولة سريعة حتى تبدأ اللايكات والتعليقات بالقدوم الى صورتها الجميلة وطبيخها الشهي في يوم جمعة العائلة.
وبدأ الزوج بمتابعة حسابه على الفيسبوك بينما يأتي موعد صلاة العصر
صورة لاحد الأبناء.. لابن، لابنين، لثلاثة، لحفيد، لأحفاد….
صورة للأبناء والاحفاد مع جدتهم حول مأدبة غداء بسيطة في بيت المسنين
