نحن شعوبٌ نُحبّهم أمواتاً: رحيل صائب عريقات
رحل الدكتور صائب عريقات، أمين سر منظمة التحرير، عضو اللجنة المركزية في حركة فتح، ورئيس ملف المفاوضات منذ أوسلو أمس، بعد صراع على مدار الشهرين الأخيرين مع فيروس كورونا، عن عمر ٦٥ سنة.
كان الخبر محزناً ولكنه متوقع. فنحن نعيش في زمن الرحيل مع الكورونا، والراحل كان قد أجرى عملية زراعة للرئة قبل أعوام قليلة جعلت منه ضحية أسهل للوباء الفيروسي.
الحقيقة، انني لم أكن أتوقع أن يثير موت الدكتور صائب عريقات كل هذا النحيب والحزن. فلقد كان دوماً عرضة للانتقادات اللاذعة بسبب ملف المفاوضات الذي لم يزد الا من تحييد التفاوض ليصل الى نقطة مسدودة بالمطلق. فالتفاوض على أسس أوسلو لا يمكن ان تمخض الا هكذا نتيجة، الا ان وجود عريقات بفوهة الامر جعله المسؤول الأول والدائم والأبدي عن هذا الملف الذي لم يعد من المفاوضات فيه الا اسمها. بالإضافة لكونه العنوان الوحيد على مدار ثلاثة عقود لهذا الملف، فمما لا شك فيه ان رحيله سيترك فراغاً حقيقياً.
من جانبي، حزنت لوفاته، فالموت بالمحصلة أمر محزن. حزنت لأن للراحل عائلة تحبه وكُسرت في عامودها برحيله. حزنت لحزن من رحل عنهم واحبّوه على الصعيد الشخصي، خصوصا اننا نعيش في بلد صغير تتداخل فيه العلاقات الإنسانية، كما جعلت وسائل التواصل من البعيد قريبا أصلا.
ولكنني لم أفكر لوهلة ان هناك خسارة المّت بالشعب الفلسطيني برحيله. نعم، قد يبدو الأفق خاليا من أي امل، وقد يكون الدكتور صائب عريقات برحيله قد دفن معه ملف التفاوض الذي حمله وحيداً ومتفرّداً على مدار ثلاثة عقود، ولكنه كان ملفا ميتا من قبله ولقد تم الإعلان عن وفاته منذ سنوات كثيرة.
ولكني ذهلت بكم التعازي والتأبينات التي حصلت لدى وفاته ليظهر ان من يكنّون الحب والاحترام والتقدير له كانوا أكثر من المقرّبين منه من حيث القرابة أو العمل المباشر.
تحول صائب عريقات بلحظة وفاته الى ايقونة، الى قائد، الى رجل سلام استثنائي، الى مفاوض مقاوم، الى فلسطيني يحمل غصن الزيتون كمن يحمل البندقية.
وهنا لم أستطع الا ان أتساءل: هل خسرنا شخصا عظيما بالفعل؟ ام اننا شعوب منافقة؟
افهم تقدير البعثات الأجنبية والمسؤولين الأجانب لصائب عريقات وفراغ غيابه، واعترف ان هناك ما بدى وكأنه بالفعل ثمين لما شكله صائب عريقات بصياغة دبلوماسية المفاوضات. ولكن بلا شك، ما فهمه الأجانب لم نفهمه، او بالأحرى ما تكشف لهم من قيمة لم تتكشف لنا كشعب. فنحن لم نر من المفاوضات الا عبثيتها وهوانها وخنوعنا الفلسطيني على المستوى التفاوضي. لم نعرف من حقائق الا تلك التي كان هناك حاجة لتسويقها من اجل التأجيج الشعبي، ولم نعرف من تفاصيل الا تلك المسربة عبر الوثائق كما جري بشأن المفاوضات نفسها قبل سنوات، وتسريبات لمكالمات او صور لا تعكس الحقيقة بالضرورة، بقدر ما تعكس ما يراد منها ان تعكس بالنسبة للفرقاء.
وبين ما كنا نعرفه عن صائب عريقات في حياته وبين ما صرنا نعرف عنه عند وفاته قد يتوجب الوقوف قليلا وإعادة تقييم ادائنا كشعوب وقيادات. فلم تسعف شبكة العلاقات الكبيرة التي بنى عليها صائب عريقات وجوده في حياته بإنقاذه من حكم الناس على أدائه. الا ان هذه الشبكة وقفت باكية ناحبة فراقه عند وفاته. فهل الخلل بهذه الشبكة؟ ام الخلل بالشعب الذي لم يفهم ابدا من الحقيقة الا الشعارات والشعارات المضادة؟
وبين ما نسيء تقديره وفهمه بحجم القيادات واستثنائيتها وايقنتها وبطولتها، يقف موت صائب عريقات بنا على مفترق صعب بمنظومة اخلاقياتنا الوطنية والمؤسساتية، ففي نفس اليوم ارتقى شهيد في سجون الاحتلال الشاب كمال أبو وعر عن ٦٤ عام، والذي على عكس صائب عريقات، عانى من سوء الخدمات الصحية التي كانت شحيحة من قبل سلطات الاحتلال والتي ساهمت في موته. وصائب عريقات الذي مكث في مستشفيات الاحتلال على مدار أكثر من شهر وقدم وجوده هناك دعاية طبية مجانية للطواقم الطبية والخدمات الصحية للاحتلال خصوصا امام عدم وجود أي فرصة لخدمات صحية تستطيع ان توفرها مستشفيات السلطة لحالة مرضية كحالة عريقات الذي تعرض لمضاعفات صحية كبيرة إثر اصابته الكورونا.
في نفس الوقت، تقام جنازة مهيبة وتفتح بيوت عزاء جماهيرية في وقت يتم فيه فرض تدخل المحاكم العسكرية الإسرائيلية بفرض عزل ومنع لدخول الفلسطينيين من القدس ومناطق ال ٤٨ لأراضي الضفة في المناطق أ وب في خطوة خطيرة من اجل حصر تفشي متعاظم للوباء، متناسيين الإجراءات الوقائية والمخاطر المترتبة على عدم انحسار انتشار الوباء في سلطة تشح خدماتها الصحية لدرجة يتعالج فيها مسؤوليها بمستشفيات الاحتلال عند الحاجة!
وجثمان كمال أبو وعر الذي لم تنكس من اجله الاعلام الفلسطينية بقي محتجز في ثلاجات موت الاحتلال، لأن الموت لم ينه مدة سجنه!
رحم الله صائب عريقات
والمجد والخلود للشهيد الأسير كمال أبو وعر
لعلّ العدل الحقيقيّ تلمسه الأرواح في السماء