قلب كلب

قلب كلب

قلب كلب هي رواية للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف (١٨٩١-١٩٤٠). صدرت الرواية سنة ١٩٢٥، الا انها لم تنشر\تطبع حتى سنة ١٩٨٧. وهي رواية تندرج ضمن الادب الهجائي، الذي يمزج بين الفنتازيا والواقع. 

الحقيقة ان بولغاكوف قلب اسد، إذا ما تابع المرء اعماله وسيرة حياته. وهذه الرواية تتفوق على كل ما يمكن ان يحاول العقل ابداعه بهجاء السلطات. وقد تكون اخذت كذلك ابعادا أكثر من هجاء الطبقة الحاكمة، ولكن ربما ما هو اهم، دور النخب الاكاديمية- الفكرية- بصناعة ما يؤول عليه الحكام من سطو ودكتاتورية. 

لأول وهلة سألت نفسي ان كان يعقل انن يكون جورج اورويل قد تأثر بقلب كلب لبولغاكوف في مزرعة الحيوان؟  بالنهاية هناك من جعلنا نعيش وضعنا الانسانيّ المزرى من خلال مزرعة حيوان، واخر من خلال قلب كلب. 

ولكن لم تصدر رواية قلب كلب قبل ال ١٩٨٧ أي عشرين سنة بعد مزرعة الحيوان ووفاة اورويل شخصيا، وثلاثة سنوات بعد رواية ١٩٨٤ يبقى ان كتابة بولغاكوف لقلب كلب كانت في أواسط العشرينات (١٩٢٥) وهي نفس الفترات التاريخية التي عاشها الكاتبين. فلو كان لبولغاكوف نبوءة، فهي تتجسد بمآل ما، ان يمكن ان يحصل بمزرعة الحيوان لو كتب لها التجسد الواقعي. ولكان الخنازير من سنوبول ونابليون قد جلبوا بلا شك البروفسور فيليب فيليبفتش ليجعل من يمشون على أربع من صفوة الحيوانات يتبخترون على اثنتين. وكان البروفسور نفسه هو الأخ الكبير في ١٩٨٤.

هو بلا شك التأثر بذلك الزمان، الثورة البلشفية ولبروليتاريا والشيوعية وتوجسات العارفين من مغبات أنظمة تغطي بطشها بثورات، وتبيع الشعوب وهم الشعارات او الأغاني الصاخبة او الرنانة.

بولغاكوف تأثر بلا شك بجوتيه وفاوست عندما قدم رائعته الملحمية المعلم ومارغريتا. وهنا يبدو انه خرج في خياله الى ما هو ابعد من أنسنة الشيطان عن طريق التواجد بجسد كلب، وكل محاولات انتاج الانسان الخارق الذي يحتاج الى انبوبة ديمومة الحياة او الشباب التي اشتراها فواست مقابل بيع روحه للشيطان. فهذه التجربة كانت اهم باكتشاف وظائف الغدة النخامية ” أي الزائدة الدماغية. انها تتحكم بالمظهر البشري، ويمكن ان تسمي هرموناتها وهي الأهم في الجسم بهرمونات المظهر. وانكشف انسان اصطناعي دونما أي حاجة الى انبوبة فاوست. لقد بعث مشرط الجراح الحياة في نموذج بشري جديد.”

الرواية تتلخص في طبيب عالم (فيليب فيليبفتش) اوى كلب شارع من اجل تجربة علمية، قام بها بعد ان عالج الكلب الذي عانى ويلات التشرد والجوع وجرح حرق أخير كاد يفتك به لولا انقاذ الطبيب الانسان له.  أطلق على ذلك الكلب اسم (شاريك). فيغذّه، ويهتم بمظهره وصحته ويرسنه ليصبح الرسن طوقا غاليا يميزه عن باقي الكلاب بالنسبة له. في حوار بين الطبيب ومساعده يعبر فيها المساعد عن استغرابه بإعجاب باستطاعة الطبيب التحكم بالكلب، فيجري الحديث التالي: 

كيف تيسر لكم استدراج هذا الكلب العصبي؟ 

-بالملاطفة، ايها السيد. تلك هي الطريقة الوحيدة الممكنة في التعامل مع الكائن الحي. فمن المستحيل ان تفعل شيئا بواسطة الإرهاب مع الحيوان أيا كانت درجة التطور التي بلغها. ذلك ما أكدته وأوكده وسأوكده. فهم عبثا يظنون ان الإرهاب سوف يسعدهم. كلا، يا سيدي، لن يساعدهم، أيا كان نوعه، سواء ذلك الإرهاب الأبيض او الأحمر او حتى البني! فالإرهاب يصيب الجهاز العصبي بشلل كامل.

 وفي اللحظة المناسبة يقوم الطبيب بإجراء عملية نقل الغدة النخامية من شاب عشريني مات للتو بدماغ الكلب الذي يصحو ليجد نفسه تدريجيا يقف على رجلين وتتحول تعابيره من عووو واووو الى كلمات بعينها تتطور بسرعة فائقة لتعبر عن مخزون من المصطلحات البذيئة تصاحبها عادات سيئة لصاحبها شاريك. فنرى اتحاد صفات الكلب الجائع الذليل مع مواصفات الانسان (المانح) (كليم) الذي كان صحاب سوابق ومدمن على الكحول. وتصبح عملية إعادة تربية الكلب شاريكيف متعثرة.

يعاني الكلب كما يعاني الطبيب، وفي أحد الحوارات بينهما يأخذ الحديث مجراه الآتي: 

-مالك تمنعني.. تارة لا تبصق. وتارة لا تدخن. ولا تذهب الى المكان الفلاني. فما هذا، بالفعل؟ كما في حافلة الترام عينا. مالك لا تتيح لي ان أعيش؟ وبخصوص البابا فذلك عبث. هل رجوتك، يا ترى، ان تجري لي عملية؟ نبح الانسان بانزعاج. – امر جميل! اصطادوا حيوانا فشقوا رأسه بالسكين ثم ها هم يتقززون الآن. اعتقد انني لم اعط موافقتي على العملية. شأني. شأني شأن اهلي أيضا. ربما يكون من حقي ان أقيم دعوى.

تكورت عينا فيليب فيليبفتش تماما وسقط السيجار من يديه. “اما نموذج”، مرقت في رأسه هذه العبارة. 

  • حضرتك مستاء من تحويلك الى انسان؟ ـ سأله وهو يزم عينيه. (لعلك تفضل ان تركض ثانية من بالوعة الى بالوعة؟ وان تتجمد في الثغرات؟ لكن، لو كنت اعرف…
  • مالك لا تكف عن اللوم- بالوعة، بالوعة. لقد كنت ابحث عن لقمة العيش. وماذا لو انني مت عندك تحت السكاكين؟ بم تحيب على ذلك، يا رفيق؟ 
  • –       – قل فيليب فيليبفتش! فانا لست رفيقا لك! شيء غريب! يا للفظاعة، يا للفظاعة! قال في نفسه. 
  • –       – اوه، طبعا، وكيف لا.. قال الانسان ساخرا، وغير موضع قدمه ظافرا، اننا نفهمكم يا سيدي، أي رفاق نحن لكم! من اين! فنحن لم نتعلم في الجامعات، ولم نسكن في شقق مكونة من ١٥ غرفة وحمامات. غير انه حان الوقت الآن لإيقاف ذلك. فلكل انسان في الوقت الحالي حقه…”

حتى لحظة اجراء العملية، يصاحب القارئ شعور بالاسى والحزن والتعاطف مع الكلب امام الانسان المتوحش الذي اتدخل في حكمة الطبيعة من جهة، وسرق حياة كلب كل ما أراده من هذه الحياة هو اللقمة التي تشبعه والحجر الدافئ. ولكن بتحول الكلب الذي يحمل نخاع انسان الى انسان بقلب كلب، تتغير موازين مشاعرنا كقراء، ونرى أنفسنا متعاطفين مع الطبيب الانسان ضد ذلك الكائن بقلب كلب وجحوده للنعمة بتحوله الى انسان. 

يبدو الكلب وصاحبه بمشهد تلك الشقة ومن اقام فيها من مدبرة وممرضة وطبيب مساعد، بتلك العمارة التي تغيرت إدارة سكانها لهواة من حماة النظام الثوري الجديد، اشبه بتجسيد في غاية الاتقان لما نعيشه اليوم، وما حاول الكاتب عكسه بوضع روسيا في ذلك الوقت بعيد الثورة وظهور النخبة الحاكمة الجديدة. 

فهل صنع اباطرة روسيا تلك النخبة من تجارب شبيهة بتجربة الطبيب العالم؟ 

التشابيه والتعابير بالرواية مليئة ولا يمكن تجاوزها بعدم ملاحظة او فهم لما أراده الكاتب. فنرى انزلاق المجتمع حينه الى شعارات الاشتراكية، وتبني شاركيف لها بسرعة واستخدامها كما رأينا بالحوار السابق، حتى صار هو نفسه مدافعا عن المصالح الثورية، واوجد لنفسه من شقة الطبيب مساحة خصصتها له لجنة العمارة، ومن ثم وجد وظيفة مهمة. فيذكر القارئ بالكثير من الأمثلة المعاشة على مر السنوات من استحواذ التخلف والانحطاط الادبي والأخلاقي وتحكم الأفعال الطفيلية من تملق ومحسوبية وتطورها ليصبح الشعار السائد حينها ” من كان لا شيئا- سوف يصبح كل شيء” هو قوة اندفاع شاركيف. وكلما لعق شاركيف نحو أصحاب الحكم تقربا، كلما وجد لنفسه مكانا أكثر أهمية، وعزز ذلك بإيجاد وظيفة خنق القطط لتخلص منها، واستفادة البلدية او أصحاب المصالح باستخدام جلدها. 

. يتجلى انحدار الذوق العام برفض شاركيف الذهاب الى الاوبرا وإيجاد متعته فقط من خلال الذهاب الى السيرك. 

ويستمر الخطر بالازدياد بما يشكله شاركيف على صاحبه الطبيب، فبدع اخذه مساحة من البيت يبدأ بجلب أناس كضيوف يسرقون وينهبون ما في البيت ويحاولون دب الشك في نفوس الافراد المتواجدين منذ زمن. وكلما ازدادت سلطة شاركيف كلما ازدادت وقاحته وخطورته على المحيط 

بالنهاية، يقوم الطبيب واعوانه بتصويب الوضع بعد صراع حقيقي كانت نتيجته تكسير الكثير من الزجاج وخراب كبير في المنزل وجروح كثيرة نالت الطبيب ومن معه. 

في المشهد الأخير من الرواية، وبينما تقتحم الشرطة باحثة عن معاونها نائب مدير قسم التطهير في البلدية الذي اختفت اثاره لمدة عشر أيام، يقف الطبيب امامهم ويجري هذا الحوار: 

-لا افهم شيئا، من هو شاركيف هذا؟؟ اخ، عفوا، تعنون كلبي… الذي أجريت له عملية جراحية؟ 

– عفوا يا بروفسور، لا نعنيه كلبا، وانما عندما كان قد أصبح انسانا. تلك هي القضية. – أي عندما كان يتكلم؟ ان هذا لا يعني بعد انه أصبح انسانا. وعلى اية حال، فهذا ليس مهما. ان شاركيف ما يزال حيا حتى الان، ولم يقم أحد بقتله ابدا. 

– عندئذ، يجب اظهاره، لقد ضاع منذ عشرة أيام، بينما المعلومات، اعذرني، سيئة جدا. 

(ينادي البروفسور معاونه ليأخذهم الى الكلب) 

عاد وشرع يصفر قفز خلفه من باب المكتب كلب من نوع غريب. كان في جلده بقع جرداء، وأخرى نبت فيها الشعر. خرج الكلب على خلفيته كأنه مدرب في السيرك، ثم وقف على أرجله الأربع وراح ينظر. خيم صمت القبور في غرفة المكتب.. نهض الكلب الرهيب الشكل على خلفيته من جديد، وعلى جبينه ندبة قانية فابتسم وجلس على الكنبة. 

رسم الشرطي الثاني إشارة صليب واسعة على صدره. 

نطق الرجل ذو المعطف الأسود بالكلمات التالية دون ان يغلق فمه: وكيف، اسمحوا لي؟ لقد كان موظفا في التطهير.. 

–       – انني لم اعينه هناك، أجاب فيليب فيليبيتش، لقد أعطاه السيد شفوندر (مسؤول لجنة العمارة) تزكية، ان لم أكن مخطئا 

انني لا افهم شيئا، قال الأسود محتارا والتفت الى الشرطي الأول. أهذا هو؟ 

.هو …أجاب الشرطي بصوت اصم.. شكليا هو. 

هو بالضبط، غير ان الوغد اكتسى بالشعر من جديد 

كان يتكلم ..خي.. خي… 

وما زال يتكلم حتى الان، ان كان اقل فاقل، فلتنتهزوا المناسبة والا فانه سرعان ما سيصمت كليا. 

ولكن لماذا؟ استفسر الرجل الأسود بصوت خفيض. 

هز فيليب فيليفتش كتفيه

ما يزال العلم لا يعرف طريقة لتحويل الوحوش الى بشر. وها انا قد جربت. ولكن دونما نجاح، كما ترى، فقد كان يتكلم وبدأ يتحول الى الحالة البدائية. لكنه الارتداد الى الأصل. 

اترك رد