باراك اوباما والأرض الموعودة: رحلة اوباما وصولاً إلى البيت الأبيض

باراك أوباما والأرض الموعودة

رحلة أوباما وصولاً إلى البيت الأبيض

(الجزء الأول)

منذ صدور كتاب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قبل أسابيع قليلة، وردود الفعل تتزاحم مع الفضول نحو ما كتبه وعمن كتب. وفي مكاننا هذا من “الأرض الموعودة” التي نعتقد ان العالم يدور حولها ومن اجلها، قفز الكثيرون من اجل قراءة ما دلى به أوباما من انطباعات وكشف من اسرار عنا. فبدأ الاعلام العربي والإسرائيلي بتناول ما قاله أوباما عن الرئيس الفلسطيني ووصفه بصاحب الشارب الخفيف والشعر الأبيض الذي يفضل مصالح أبنائه على وطنه. ونائب إسرائيلي كتب بنقد لاذع متهماً أوباما بالانحياز. 

بدأت قراءة الكتاب بنفس النية. أردت القفز الى ما خصّه أوباما عنّا. وكأنّ النميمة صفة إنسانية تبدأ بأمريكا وتنتهي إلينا بتلقائية. 

ولكن لم أستطع الّا قراءة الكتاب الذي كتب بحرفية مدروسة ومشاعر إنسانية لا يمكن تجاوزها منذ الاهداء والمقدمة. 

ولأن الكتاب يحتوي على ما يقرب الألف صفحة، فالكتابة عنه قد تحتمل التجزئة كذلك لأهمّيّته. وعليه سيغطي هذا المقال القسم الأول والثاني من الكتاب (الفصل الأول لغاية الفصل التاسع) حتى فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية.

صحيح أنّه يمكن للمرء تجاوز قيمة قراءة تجربة انسان مثل أوباما. قدرة المرء ان يبقي مشاعره الإنسانية بنفس القدر الذي استطاع فيه أن يحكم الدولة الأقوى في العالم لمدة ثماني سنوات يبدو للإنسان الطبيعي مستحيلا. بالنهاية لم يأت أوباما من مكان بديهي لسدة الحكم في بلاده. فهو مثال على ان أمريكا هي بلد الاحلام. وهو الامر الذي يشدد عليه، فيقول في الصفحات الأولى انه أراد ان يعكس بهذا الكتاب للشباب ان العمل والامكانيات والوصول يحدده الفرد. أيا كان. أراد ان يجسد بتجربته مثالا لإمكانية الطموح للشباب الذين لم يولدوا بمعالق ذهبية تملأ افواههم. وترى بين السطور رجل يؤكد ان العمل الرئاسي ليس أكثر من وظيفة لها ما لها وعليها ما عليها. 

أنسنة كل شيء حوله… هذه قوة أوباما… إصراره على الأنسنة فوق كل الاعتبارات، والتكلم بصدق وشخصانية. فلا يتردد بالتعبير عن مشاعره المخيّبة لدى اعتلاء ترامب الحكم، ولكنّه مع ذلك تنفّس الصعداء بصحبة زوجته مؤمناً انّ أمريكا بعده ليست كأمريكا قبله، فعمله طوال ثماني سنوات على اصلاح ما خربه سالفه من صعوبات اجتماعية واقتصادية كان العمل الأهم في حقبة أوباما. 

يتكلّم أوباما عن الظروف الحاليّة التي رافقت فترة إنهاء الكتاب من وباء الكورونا وقتل الشرطة المجحف للمواطن الأسود فيقول: 

“إنّ النضال ليس جديد بالطبع. لقد حدّدت التجربة الأمريكيّة من نواحي كثيرة. إنّه جزء لا يتجزّأ من الوثائق التأسيسيّة التي يمكن أن تعلن في نفس الوقت أن جميع الرجال متساوين ومع ذلك تعتبر العبد ثلاثة أخماس رجل.

من الممكن إيجاد تعابير في الآراء المبكرة، كما هو الحال عندما يشرح رئيس القضاة صراحةً للأمريكيين الأصليين أن حقوق قبائلهم في نقل الملكية غير قابلة للتنفيذ لأن محكمة الغازي ليس لديها القدرة على الاعتراف بالمطالبات العادلة للمحتل.”

ويضيف: “في قلب هذه المعركة الطويلة هناك سؤال بسيط: هل نهتم بمطابقة حقيقة أمريكا بمُثلها العليا؟ إذا كان كذلك، هل نؤمن فعلاً انّ شعاراتنا للحكم الذاتي وحرّية الفرد، المساواة بالفرص والمساواة أمام القانون، تطبّق على الجميع؟ أم أنّنا بدلاً من ذلك ملتزمون بالممارسة وليس بالنظام الأساسي، بحجز هذه الأشياء لقلّة مميّزة؟”

ويضيف متسائلاً إن كان الوقت قد حان لأن يرمي الأمريكيين هذه الأسطورة، و”الاعتراف بأن كل تلك الشعارات ليست الا ثانوية، أمام واقع الفتوحات والقهر، نظام طبقي عنصريّ ورأسماليّة جشعة. والادّعاء غير ذلك ليس إلّا تواطؤ في لعبة تم تزويرها منذ البداية.”

وهنا، ليتأكّد القارئ العربي والفلسطيني والإسرائيلي أنّ الأرض الموعودة ليست أرضهم يقول أوباما: “بينما كنت أكتب هذا الكتاب، وبينما تأمّلت فترة رئاستي وما جرى منذ ذلك الحين، عندما سألت نفسي إذا ما كنت متوتراً جداً في التحدث عن الحقيقة كما رأيتها، وحذِراً جداً سواء في الكلمة أو الفعل، مقتنعاً كما كنت، انني من خلال مناشدة ما أطلق عليه لينكولن “الملائكة الأفضل” من طبيعتنا، كانت لديّ فرصة عظيمة لقيادتنا باتجاه أمريكا التي وُعدنا بها.”

ولكن بكلّ الأحوال، لا يريد أوباما التخلّي عن حلمه بأمريكا للأمريكيين كما للعالم.

بين توقعات أمّه أعظم تجلّياتها بأن يصبح ابنها رئيس جمعيّة خيريّة، وجدّه بأن يراه قاضياً، كان نصيب أوباما أن يحكم العالم. 

حياة أوباما الاستثنائية باعتياديتها، او بالأحرى أقل من الاعتياديّة، لعائلة اقل من متوسطة، وأقل من مختلطة، وأم ربّته بتحدّيات المرأة المطلّقة مرّة ومرّتين تجعله هذا الرجل الاستثنائي بوقوفه شامخاً كشجرة متجذّرة من أتربة معاناة الحياة. كذاك البستانيّ الذي عمل بحديقة البيت الأبيض ووصف عروق يديه كأغصان الشجر. وكأنّهما خرجا من نفس التراب ليلتقيا بمكان تجذّرا به رغم الظروف المعاكسة لوجودهما هناك، رئيس للبيت الأبيض وبستانيّ يعانق حلم جنسه بأنه يمكن أن يكون الفقير رئيساً لأعظم جمهورية بالعالم وليس فقط بستانيّ اجير.  

ذكّرني حديث أوباما عن طفولته وأسئلته بينما كان يكبر بإدوارد سعيد ومذكّراته “خارج المكان”. ادوارد سعيد وتربيته النخبوية- نوعا ما- التي ساهمت بتشكيله لما اسّسه لنفسه من شخصية ستؤثر على مر التاريخ على الهوية الفلسطينية عندما يناقشها أحد، وشعوره طوال حياته انه كان خارج المكان من حياة لا تنتمي لمن هو حتى وجد ضالّته بالاستشراق. هكذا أوباما يصف نفسه بشعوره: ” انّ غرابة تراثي والعوالم التي ترعرعت عليها، كنت من كل مكان ولا مكان، مزيج من الأجزاء غير المنسجمة مثل خلد الماء او وحش متخيّل محجوز ببيئة هشّة، لم أكن متأكد الى أين أنتمى. أحسست، أنه وبدون ان أفهم لماذا أو كيف، وانه بدون ان اقطّب حياتي ببعضها وأُموْضع نفسي خلال بعض المحاور المتينة، قد أنتهي بعيش حياة اعتيادية أعيش بها وحيدا”. 

مع كل كلمة، أجد نفسي امام تلك اللحظة التاريخية التي كسب فيها أوباما الانتخابات الرئاسية. أذكر تلك اللحظة وكأنّ العالم توقّف حينها. كنت في طريقي الى عملي بالجامعة عندما سمعت الخبر على الراديو. توقّفت جانباً وصرخت: نعم نستطيع. وصرت أضحك كالبلهاء ووصلت الجامعة وأنا أصرخ وأعانق زميلاتي وكأنّني ربحت اللوتو. وكأنّ أوباما صار رئيس فلسطين. وكأنّ العالم تحرّر من عبوديته للرأسمالية… فنعم نستطيع تحقّق ليكون حقيقة لا شعار. 

أقرأ هذه السطور وتعيدني ذاكرتي بلا توقف الى هناك، الى اهتمامي وفضولي للمكان الذي جاء منه هذا الرجل، للأم التي انجبته وكبّرته. للمحيط والظروف.. لمشاعره الحقيقية بينما كان يكبر زمنا قبل أن يتخيّل أصلاً انّ هناك مكاناً للحلم في حياته أكثر من تخيّله لنفسه بصورة ذلك الوحش الذي ذكره آنفاً. 

وكأنّه يقول لنا.. تجرّأوا على الحلم… فأنا كنت المستحيل. 

وفي طريق محاولته لشقّ حلمه غير المدرج في وعيه بعد، استمرّت مسألة العرق والطبقات لتشكّل له معالم أسئلته التي بدأ معه منذ شعوره الطفوليّ بعدم انتمائه لأيّ مكان. فكان بداخله الرجل المثالي الذي أراد ان يغيّر العالم ليطرح الأسئلة والحلول التي كانت لا تكاد تبدأ حتى تنتهي الى عبثية.  

كان وعيه بإقصاء حقائق لترجيح حقائق أخرى محكماً بالتحكم من جانبه، لكي يرجّح “فكرة” أمريكا، “وعد” امريكا لتكون الحقيقة التي شكّل عليها طموحه المدرك منه وغير المدرك. اخرجت إنجازات اوباما الصغيرة بالعمل المجتمعي بينما كان يشق طريقه نحو حياته العملية ما كان يدور برأسه الى الخارج. 

الفصل الثاني يبدأ بميشيل زوجته التي تعرّف عليها عندما كانت ابنة ال ٢٥ سنة، تمارس المحاماة بنفس المكان الذي كان يتدرّب فيه صيف تلك السنة بشيكاغو. وربّما كما يقال وراء كل رجل عظيم امرأة. فلقد كانت ميشيل بلا شك جزء أساسيّ من الاقتراب من جعل حلمه بالمستقبل الذي خاف مشاركته خارج حلمه ممكناً. فكانت المرأة الداعمة له والند امامه والواثقة به. المرأة التي جعلت من الزواج حصناً آمناً ومتيناً لرجل تربّى على يقين ما بأنّ الزواج ليس الا مؤسسة هشة سرعان ما تتركها المرأة لتزول. 

في هذا الفصل تموت والدة باراك كذلك بعد صراع سنوات مع السرطان. ويشقّ هو طريقه في عالم السياسة بعزم وتخطيط وقدرة هائلة على التنظيم والكثير من الهزائم أحيانا وكسب أكبر من التوقعات أحيانا، ويصير أوباما عضوا في الكونغرس عن ولايته. ويصف بالكثير من الفرح خبر حمل ميشيل الأوّل ومن ثم فرحته بان يكون أباَ وما تبع ذلك من مرحلة الامومة والابوة من صعوبات على علاقتهما الزوجية. وما تلى ذلك من قرارات اعتبرها أوباما كانت خاطئة، وتمثّل ذلك بقراره الذهاب الى مجلس الشيوخ وخسارته الكبيرة في ذلك السباق.

بالفصل الثالث، يلملم أوباما جروح الخسارة، مطالباً دعم ميشيل بينما الطفل الثاني كان على الطريق. دعم أراده كزوج بشأن حياتهم الزوجية لا حياته المهنية. مبتعداً خلالها عن الطموح السياسي الذي عكر عليه صفو الرجل الذي أراد ان يغيّر العالم بينما كان يبني حلمه. 

بعد أعوام قليلة عاوده حلمه بالتغيير. حلم بناء سياسة تجسر انقسامات أمريكية العرقية والدينية. وكلّما تعمّق حلمه ليصير فكرة، لم تعد النتائج الصغيرة مهمّة له. كان لا بد من أن يحصل التغيير على مستوى أكبر. وهنا قرر الذهاب الى مجلس الشيوخ. والفرق هنا بين محاولته الأولى بالكونغرس وقراره الان بالمحاولة بمجلس الشيوخ كان نيّته الداخلية، فبالمرة الأولى كان طموح السياسة هو ما دفعه، وبهذه المرة كان طموح التأثير والتغيير على كافة الطبقات هو الدافع. وهنا تبدأ رحلة النجاح و”حبّات الفاصولياء السحرية” بالتنبيت الضخم والمهيب. رائعة جداً الفقرات المتعاقبة لرحلة الوصول الى مجلس الشيوخ بفوز ملفت. يشعر القارئ وكأنّه داخل مغامرة، جزء من مسابقة، تتوقف الأنفاس فيها من أجل معرفة النتائج.. ثم تنفس الصعداء أمام نجاح كان عنوان حملته” نعم نستطيع”. 

ولكن رحلة مجلس السيوخ تأخذ منحنيات أمام تحقيق حلم التغيير، فبعد الانتهاء من نشوة وصول أمريكي من أصول افريقية الى مجلس الشيوخ لأوّل مرّة بتاريخ أمريكا، كانت مواجهة مأساوية السياسة وأفعالها متجسداً امامه بحدثين: إعصار كاترينا وكارثية الحرب في العراق من دمار وقتل أبرياء، ليجعل من التغيير الواجب الحصول أكثر إلحاحاً. 

الفصل الرابع يدخل أوباما بمغامرته نحو الترشح للرئاسة- رئاسة الحزب الديمقراطي. ممتع الى حد الذروة وصفه كيف اقترح عليه زملائه بمجلس الشيوخ من الديمقراطيين الترشح، وكيف نظروا اليه كأنّه أمل لمرحلة تحتاج اليه أمريكا بصورة ملحّة، باختلافه، بلونه، بعمره، بقدرته على التأثير. ومرة أخرى تقف ميشيل معضلة في قراراته. لا يمكن للمرء القراءة بلا التفكير بأوباما كرجل بيت- زوج قبل أي شيء. أهمّية زوجته بوجودها كداعم أساسي له. يتكلّم عن طرحه الفكرة أمامها بعد مقابلته لتيد كينيدي الذي يجري معه حديثاً مهمّاً عندما يسأله: “هل تعرف كم هم الرجال بالمجلس الّذين وقفوا أمام المرآة ورأوا رئيسا؟ وسألوا أنفسهم هل لديّ ما يجب لأكون؟ ولكن الأمور لا تجري كما هو مخطّط لها، إنّما تأخذ طريقها بذاتها”…ويتابع: ” لو كنت مكانك لما خضت الأمر باكرا. ولكن أستطيع أن أقول لك هذا، إنّ القدرة على الإلهام هي نادرة. لحظات كهذه هي نادرة. ممكن أن تفكّر أنّك غير مستعد بعد، وأنّك تستطيع أن تقوم بهذا على راحتك. ولكنك لا تختار الوقت. الوقت يختارك. إمّا أن تمسك بما يمكن أن يكون فرصتك الوحيدة، أو تقرر أنك تريد العيش مع المعرفة أنّ الفرصة قد فاتتك.” 

ولكن حواره مع ميشيل يأخذ منحى شائك. فتواجهه الأخيرة بطموحه الذي لا حدّ له، وبحياتهما التي أخذت منحى لم تكن لتختاره. ولكنّه يتوقّف أمام معضلة أخرى بمحاسبة نفسه ويسأل الآن سؤالاً آخر: ” لماذا جعلتها تمر بكل هذا؟ هل كان غرور فقط؟ أم أنّه ربما كان أمراً أكثر ظُلمة- جوع فطريّ، طموح أعمى مغلّف بلغة الخدمة الشفّاف؟ أم أنّني كنت لا أزال أحاول إثبات نفسي ذا قيمة لأب هجرني، أم العيش نحو تطلّعات عيون أمي البرّاقة من ابنها الوحيد، وأن أحلّ ما تبقّى من شكوكي الخاصّة من كوني وليد عرق مختلط؟ ” 

ويتابع لاحقا عن الأسباب التي دفعته لخوض سباق الترشح للرئاسة مؤكّداً أنّه مهما كانت طيبة إيمانه، فانّه لم يسلّم إلى شعار أنّ نداء الله هو ما جعله يترشح.” لم أستطع الادّعاء أنّني كنت أتجاوب مع دفعة خفيّة من الكون. لم أستطع الادّعاء أنّني كنت في خدمة الحرّيّة والعدالة المطلقة، أو أن أنكر مسؤولية وضع عبء كبير على عائلتي.”

” قد تكون الظروف فتحت الباب أمام سباق رئاسيّ، ولكن لم يكن هناك ما وقف أمامي ليجنّبني إغلاقه.”

تستمر رحلته قبل القرار من إفريقيا وعودة إلى أمريكا، ليصحى فجأة أمام حلم أفزعه ويوقن أنّ ما يؤرقه ويخيفه بالفعل كان قد تعدّى الخوف من الخسارة او المواجهة، وإن كان يصلح أو لا يصلح، وإنّما حقيقة أنّه يمكن أن يكسب. 

 عند قرار أوباما الأخير بالترشح تسأله ميشيل عن الجديد الذي سيقدمه كرئيس أمام الديمقراطيين الآخرين الجيّدين، فإذا لم يوجد لديه ما يقدّمه فلا داعي للمحاولة. فتسأله: لماذا تريد الترشح؟ 

ويجيبها: ” لا يوجد ضمانات لما حلمت به من تغيير، ولكن هناك ما أنا متأكّد منه. أعرف أنّ الولايات، العالم سيبدأ بالنّظر إلى أمريكا بطريقة مختلفة. أعرف أنّ الأطفال في هذه الدولة- أطفال سود، هسبانيون، أطفال لا يجدون أنفسهم منتمون- كلهم سيروْن أنفسهم بطريقة أخرى، كذلك، ستُرفع آفاقهم، وستتوسّع احتمالاتهم… هذا لوحده يستحق.

ولقد اقتنعت ميشيل بجوابه. ولكنّه في أعماقه فهم كذلك، أنه إذا ما فاز، فهذا يعني أنّ فوزه بمجلس الشيوخ لم يكن محض صدفة. وانه إذا ما فاز، فهذا كذلك يعني أن ما جرفه نحو السياسة لم يكن مجرّد حلم عابر. ولكن أنّ أمريكا التي آمن بها كانت ممكنة، أنّ الديمقراطية التي آمن بها ممكن تحقيقها. 

أنه إذا ما فاز، فهذا يعني أنه ليس الوحيد الذي يؤمن أنّ العالم لا يجب أن يكون مكاناً بارداً غير متسامح، حيث القويّ يفترس الضعيف، ونتحّول حتمياً الى قبائل وعشائر متخبّطين ضدّ المجهول متجمهرين بالظلمات.

“إذا ما تحققت هذه المعتقدات، فانّ لحياتي معنى، وعليه أستطيع أن أمرّر هذا الوعد، هذا التوجّه بالنّظر إلى العالم، إلى أطفالي.”

وهنا أيقن أوباما أنّه قد تخطّى ذلك الخط غير المرئي الذي لا رجعة عنه، وأنّه حتماً سيغيّر حياته إلى الأبد، بطريقة لم يتخيّلها بعد. بطرق قد لا تعجبه. وعليه فلا مكان للتردد ولا التراجع. 

القسم الثاني 

الفصل الخامس، يشارك أوباما السباق للترشح الديمقراطي برحلة مليئة بالأسفار بين الولايات والتعلّم. يسهب من خلالها بوصف تقنيّات الحملة ومن كان وراؤها من مساعدين ومستشارين. ويتكلّم عن تأثّره بكلينتون الرئيس وزوجته الأولى وعن انطباعاته الإيجابيّة نحو أداء كلّ منهما ضمن وظيفته. وتبدو قصّة هيلاري كلينتون أقرب الى وجدانه وتعاطفه كأم وامرأة وكزوجة. وتحضر هيلاري بإسهاب كمرشّحة محتملة امامه، ويرجّح للقارئ سبب تخطّيه التّحدّي أمام هيلاري بسبب تواجد ال كلينتون المتتالي بالبيت الأبيض والحاجة لما سيقدّمه المرشح الديمقراطي للرئاسة، ناهيك عن الحرب التي كانت معلنة ضد شخص هيلاري. ولكن بقي لهيلاري أمامه حضور جعله دائم إعادة التفكير بأفضليّتها عليه. وتأكيد مستشاريه كانوا على الدوام  أنّ ما يهم الناس ليس من يتفوّق على الآخر أكثر ببعض المواضيع، ولكن إيصال الرسالة الخاصة به للناس بالمواجهات الرئاسية. الأهم هي القيم الأولويّات التي يحملها. 

رحلة تجنيد الموارد لحملته الانتخابية مليئة بالقصص الملهمة للتعلّم منها. وهنا، تعود الأنسنة لتأخذ حيزاً مهمّاً بطريقة أوباما بالتعامل. فيتكلّم عن كل شخص بفريقه بدء من نشأته، وكأنه كل تفصيل هو عامل مهم بتركيب ما أصبح عليه فريقه بحملته.

ويمكن التوقف أمام تأمّل أوباما بالسياسة الخارجيّة الامريكيّة اثناء حملته الانتخابية للحزب، حيث تجلّى لأوباما اختلافه عن منافسيه الآخرين بالحزب. يقول: “هذه الأمور كانت مؤشراً الى الدرجة التي تقود من خلالها السياسة الخارجية واشنطن الى الخلف، بأخذ العمل العسكري أوّلاً بدون اختبار الاحتمالات الدبلوماسية، متأمّلين الآداب الدبلوماسية لمصلحة بقاء الوضع على ما هو عليه، تحديدا عندما يتطلب الأمر ذلك. هذا كذلك كان مؤشراً الى الدرجة التي يفشل بها صنّاع القرار بواشنطن دوماً أمام الشعب الأمريكي.”

الفصل السادس، يعيش أوباما مع فريقه نشوة بعض الانتصار على مستوى الحزب لتستمر المنافسة على من سيكون مرشح الحزب للرئاسة. وتعود هيلاري لتأخذ حيزاً من اهتمامه وتأثّره- بالإضافة لكونها الأقوى أمامه. ربّما تعاطف الموشك على الخسارة، المختلف، الحامل لرسالة ما، هيلاري ودفاعها بكونها امرأة، وهو وقضية العرق التي استحوذت عليه. يكمل مشوار الخسائر والمكاسب في السباق، وترجع عبارة ” نعم نستطيع” التي أطلقها مستشاره في حملته بمجلس الشيوخ لتأخذ شعار ما هو قادم. فيقدم أوباما ما اعتبره أهم خطاباته بتلك الحملة قائلا: ” عندما قيل لنا أننا غير مستعدون، قلت: أوَيجب ألّا نحاول، أو لا نستطيع، أجيال من الأمريكيين ردّدوا بهتاف واحد: نعم نستطيع.. بدأ الجموع بترديد العبارة كما في إيقاع طبلة، وربما لأوّل مرة منذ ان اقترحها آكس كشعار لحملة مجلس الشيوخ، آمنت تماماً بقوة هذه الكلمات الثلاث.”

في وقع خسارته بولاية هامبشير، يتكلّم أوباما عن قدرته على التحمّل التي كان يعزيها لتنشئته بهاواي، حيث تحمّل درجات الحرارة العالية يجعل من المرء أكثر قدرة على التعايش مع الضغوطات الكبيرة. إلا أنّه يتوقّف هنا مطولاً أمام جدّته، ويعطي اسما للقوّة التي مُنحت له- جدّتي- ويصف رحلة جدّته منذ ولادتها وتأثيرها عليه بالكثير من الدفء والتقدير والإعجاب. 

وتستمر المباراة المحتدمة بينه وبين هيلاري، ومع تداعيات التحذيرات كان إصراره يتزايد: “أردت أن أثبت وجهة نظر بالفوز. أردت إثبات هذا للسود، للبيض- للأمريكيين من كل الألوان- أنّنا نستطيع تجاوز المنطق القديم، أنّنا نستطيع أن نحشد أغلبيّة العمّال حول أجندة تقدّمية، بأنّنا نستطيع أن نضع أموراً كنقص فرص التعليم واللا مساواة بمركز الحوار الوطني ومن ثمّ نوزع البضائع. ومن أجل تحقيق هذا، كنت أعرف أنّني بحاجة الى استخدام لغة تتكلم مع كلّ الأمريكيين وتطرح سياسات تلمس الجميع- تعليم عالي المستوى لكلّ طفل، نظام صحّي جيّد لكل أمريكيّ. كان عليّ احتضان البيض كحلفاء لا كمعوِّقين للتغيير، وأن أساعد الأفارقة الأمريكيّين في صراعهم بمنحنى أوسع من أجل مجتمع أكثر عدلاً وكرماَ.”

تستمر الحملة ويستمرّ الحشد على مستويات مختلفة تبرز في هذا الفصل المستوى الديني وعلاقته ببعض رجال الدين المهمّين. 

في الفصل السابع، يستمر أوباما بحصد الفوز على هيلاري ويدخل دور الإعلام أكثر من حيث الهجوم والإشاعات التي حاولت النيل منه على مستوى العرق. وهنا يعود بالحديث عن دور ميشيل بدعمه. حيث تعود هي لتظهر ببعض الحملات بعد أن كاد الفوز يتحقق. وهنا استخدم الإعلام ميشيل ضده باستخدام شائعات مزعجة وباستخدام تعابير أعلنت عنها وتم استخدامها ضد الحملة. إلّا أنّ أوباما يلوم نفسه وفريقه على هذا، لأنّه كان يجب أن تكون ميشيل مدرّبة ومستعدةّ لمواجهة الجماهير كما حصل معه بتدريبات كثيرة. 

في المقابل، مع كل حصد للنجاح، كانت الأموال تتزايد، وبالتالي كان فريق أوباما يتزايد. وكانت وتيرة الحملة تتزايد مع اقتراب الانتخابات. فيصف أوباما تنقلاته من مدينة الى اخري بنفس اليوم، والتجمعات كانت متواصلة. ولكن التهديدات صارت أكبر وأقرب على حياته. وهنا تدخلت الحراسة الشخصية في رحلته. ومع تقدم أوباما كانت هيلاري تتراجع، ومع حلول شباط من ٢٠٠٨، كانت النتيجة تكاد تكون محسومة لصالح أوباما. ولكن هيلاري لم تكن ابدا من النوع الذي يمكن ان ينسحب، حتى في خضم الفوضى التي حلت بحملتها بعد اقتراب نفاذ أموالها. ” انها مثل مصاص الدماء” تذمر بلوف. ” لا يمكن قتلها.” 

يضيف أوباما: ” مثابرتها كانت رائعة، ولكن تعاطفي معها توقف عند ذلك الحد.” 

يتكلم أوباما في هذا الفصل كذلك عن الأخطاء التكتيكية التي حصلت ببعض المدن. فكان هناك تركيز في مناطق كان يجب التوقف عند حد ما، وبالعكس في مناطق أخرى. في حين كان الحزب الجمهوري يحسم مرشّحه، كان الهجوم من قبل هيلاري عليه يتزايد. ويذكر أحد الطرائف التي لم يستطع حتّى الابتسامة لها لدى عودته من سان أنطونيو الى شيكاغو عندما قدم أحد مساعديه نظريّة، انهّم كلهم قد توفّوا وعندما وصلوا الى الحساب، كان قدرهم أن يستمروا بنقاش- مواجهة- هيلاري الى الأبد.” يقول أنّ أحدا لم يضحك، لأنّ الأمر بدا وكأنهّ أقرب إلى الحقيقة. 

وتستمر المواجهات على مدار الشهرين القادمين لتتصاعد مع هجوم إعلامي نال من كاهنه – رايت-. هنا يقول أوباما: ” بينما يوجد هناك لحظات بالسياسة، كما بالحياة، يكون التجنّب فيها، إن لم يكن الانسحاب، هو القسم الأفضل بالبسالة، هناك أوقات أخرى يكون الاختيار الوحيد أن تحصّن نفسك بالفولاذ وتذهب للكسر.”

يشير هنا؛ الى ما اعتبره أكبر خطأ في حملته الانتخابية، عندما ذهب الى سان فرانسيسكو وسئل عن الطبقة العاملة ببنسلفانيا التي لا تعطي صوتها للجمهوريين. وكان جوابه انّ إحباط هؤلاء من الإدارات السابقة سواء تلك التي كان بها بوش او كلينتون لم تهتم بهؤلاء البسطاء. وأضاف: ” كان كل شيء تمام الى أن أضفت: وعليه ليس من المفاجئ أن يشعروا بالمرارة، فهم يتشبثون إمّا بالأسلحة أو الدين أو الكراهية تجاه من هم ليسوا مثلهم، أو مشاعر مناهضة للمهاجرين، أو مشاعر مناهضة للتجارة كطريقة للتعبير عن إحباطاتهم.”  هذه الكلمات تم استخدامها ضد أوباما ككلمات أغاني لوقت طويل. ومع تزايد الحملة ضد الكاهن – رايت- الذي وصل مع أوباما كذلك الى طريق مسدود، خسر هنا أوباما حليفاً مهمّاَ. 

إلّا أنّه أعاد بعض الانتصارات عندما لم يوافق على خفض سعر البترول، وهنا، كانت طريقته غير المتوقّعة بالرفض تصبّ في مصلحته- بكونه صادق امام الناخبين. 

ومع حسم النتائج ليصبح المرشح الديمقراطي للرئاسة، يجلس أوباما مع نفسه ليعيد بعض الحسابات ويرتّب أفكاره. زوجته، طموحه، والخوف القادم الأكبر، المسؤولية التي تقف أمامه: الشعب الامريكي. 

“على الرغم من كل شيء، لقد منحوني فرصة. من خلال ثرثرة وازعاج السيرك السياسي، سمعوا ندائي لشيء جديد. حتى عندما لم أكن دوماً في أفضل أحوالي، اآنوا بما هو الأفضل بي: الصوت المصرّ على أنّنا مع كل اختلافاتنا، نتّحد دوماً كبشر. وأنّنا معاً، رجال ونساء أصحاب نوايا حسنة، نستطيع أن نجد طريقاَ لمستقبل أفضل. وعدت نفسي ألّا أخذلهم.”  

الفصل الثامن 

تنتهي الحملة بفوز أوباما وتعكّر بصفو الحزب الديمقراطي بعد المعارك الطاحنة مع هيلاري، ألّا أنّهما يتصالحان وتنضم هيلاري الى فريقه. 

يبدأ العمل على التخطيط للانتخابات الرئاسيّة. يتكلّم عن إعجابه بالمرشح الجمهوري ماكين، الذي يعتبره الأفضل بين الجمهوريين لما يمثّله أوّلا كشخص محارب، وثانياً لأفكاره الخاصة بالتغير المناخي والهجرة. كان معجباً به على الرغم من عدم التقرب له خلال فترته بمجلس الشيوخ إلّا أنّه كان يرى به الإنسان الثاقب التفكير، مضحّي، سريع بثقب الادعاء والنفاق من الجانبين. محبّ للظهور الإعلامي، سريع الغضب، إلّا أنّه لم يكن من النوع المنظّر. كان يحترم عادات مجلس الشيوخ كما كان يحترم كذلك مؤسّسات الدولة والديمقراطية. ويؤكّد أنّه لم ير منه أبداً موقفاً عنصرياًّ أو عرقيّاً كما هي العادة لدى السياسي بين الجمهوريّين، وأنه شهد له أكثر من موقف أبدى من خلاله شجاعة سياسيّة حقيقيّة.  ولم يكن كثير الاعجاب بمن أطلق عليهم المجانين من حزبه، وعليه اعتبره الكثيرين أنّه جمهوريّ بالاسم فقط. بكلّ الأحوال التنافس مع ماكين كان أكثر فرصًا بالنسبة لأوباما في ال ٢٠٠٨، من ذلك الذي كان عليه ماكين في حملته ب ٢٠٠٠. 

الّا أنّ التنافس لم يكن بالهيّن: ماكين البطل المخضرم أمام سناتور إفريقي قليل الخبرة لم يخدم بالجيش أو حتّى بأي مكتب تنفيذيّ.

تبدأ رحلات أوباما الخارجيّة هنا، فتكون محطّته الأولى أفغانستان والعراق. يعطي رأيا بكارزاي الذي كان يمكن أن يثير إعجابه ويصدّقه لولا التقارير عن الفساد المتفشّي وسوء الإدارة في حكومته. 

ثم رحلته الى العراقي واللقاء مع نوري المالكي الذي كان قد حصل على الانتخابات من خلال اتفاقية بين القبائل السنية في غرب الأنبار. كان ماكين قد فسّر هذه الإنجازات على أنّها كسب للمعركة. إلّا أنّ أوباما رأى الأمر مختلفاً، وأن التدخّل الأمريكي المثقل بالعراق منذ رحيل صدّام حسين بلا أيّ دليل على وجود أسلحة الدمار الشاملة، وانتخاب حكومة ديمقراطية، كان قد حان وقت الانسحاب. وكان عليهم ان يتخلّصوا من القاعدة بالعراق، والتأكّد من استمرار التواجد العسكري، المخابراتيّ والماديّ. وبدء سحب القوات وارجاع العراق لأهلها. يصف أوباما المالكي كما يلي: ” كان قاسي الهيئة، تقريباً “نيكسونيّ” الوجه من حيث الطول، لديه ظل الساعة الخامسة الثقيل، وتطليعة غير مباشرة. كان هناك سبب لكونه مضغوطاً، فوظيفته الجديدة كانت صعبة وخطرة. كان عليه أن يجد التوازن بين مطالب قوى الشيعة المحليّين التي انتخبته، والشعب السنّيّ الذي سيطر على البلاد في زمن صدام. وكان عليه كذلك أن يدير الضغوطات المرتدّة من قبل الأمريكيين ا”لمحسنين” وجيرانه الإيرانيّين. وبالتأكيد إنّ علاقة المالكي بإيران التي عاش بها كمنفى لسنوات عدّة، كما العلاقة غير المستقرّة مع بعض المليشيات الشيعية جعلت منه لعنة للسعودية ولحلفاء أمريكا الآخرين بمنطقة الخليج.” بكل الاحوال يبدو أنّ أوباما أيقن بعد زيارته للعراق وحديثه مع الجنرال بتراويس أنّ إنهاء الحرب لن يكون بهذا القدر من السهولة لانغماس المصالح الأمريكية هناك.

رحلة أفغانستان والعراق تؤثر بأوباما “الؤنسان” الذي دخل العراك السياسي لإيمانه إنّ هناك إمكانية حقيقيّة بالتغيير. بإلغاء الفروقات بين البشر وتحسين ظروف العيش وتخفيف الظلم. على الرغم من تصويره لمشاهد الأطفال التي بقيت برأسه إلّا أنّه يبدو كان على يقين كذلك أنّ المعارك التي ستنتظره بالخارج قد تكون أكثر إشكاليّة بالتحكم بها من تلك بالداخل من حيث القدرة على التغيير.  

وقبل رحلته التالية لإسرائيل والضفة الغربية يضع نفسه امام التساؤل التالي: ” هل أنا مُعَدٌ لأن أكون قائد عالميّ؟ هل لدي المهارات الدبلوماسية، المعرفة، القدرة على التّحمّل، سلطة القيادة؟  هذه الرحلة تم ترصيدها من أجل الإجابة على هذه الأسئلة، والاختبار الدقيق على المسرح الدولي.”  فكان اللقاء الثنائي مع الملك عبد الله بالأردن، جوردون براون بإنجلترا، ساركوزي بفرنسا، وميركل بألمانيا حيث تحدّث هناك امام ٢٠٠ ألف شخص بساحة النصر ببرلين. 

بإسرائيل التقى اهود أولمرت رئيس الوزراء في حينه، ومحمود عباس وحاول قدر استطاعته فهم المنطق والمشاعر وراء هذا الصراع المستعصي على الحل. يصف بعبارة ذهابه إلى سديروت وسماعه من الاهل عن رعبهم من الصواريخ المنطلقة من غزة. وفي رام الله سمع من الفلسطينيين عن إذلالهم اليوميّ بالمعاناة على الحواجز الإسرائيليّة. 

اعتبر أوباما أنّ المسألة الإسرائيليّة الفلسطينيّة تتطلب أكثر من تعامل دبلوماسيّ بمهارات عالية. ويذكر زيارته للحائط الغربي (البراق) كمثال او كحجّة ربّما. حيث ذهب مع بزوغ شمس صباح ٢٤ تموز من ذلك العام محاطاً بالمضيفين الإسرائيليّين، المساعدين، البوليس السري، وكاميرات الإعلام، ووقف أمام الحائط ودعى الله بخشوع ودسّ ورقة بها صلاة واستدعاء من الله بحفظه وعائلته … وسط الكثير من الأوراق المدسوسة بذلك الحائط.. معتقداً أنّ ما كتبه كان بينه وبين الله، لتتصدّر الصحافة الإسرائيليّة باليوم التالي قبل أن ينتشر في “أبديّة” الانترنت. والتبرير الذي يعطيه هنا أنّه -على ما يبدو- كان أحد المارّة قد حفر الحائط ليأخذ مقصوصة الورق الخاصة به. وهنا يقول: “الخطّ بين حياتي الخاصة والعامة كان قد بدأ بالذوبان. كل فكرة أو إيماءة الآن صارت مسألة اهتمام دوليّ. تعوّد على ذلك قلتُ لنفسي. إنّها جزء من الصفقة.” 

لا يمكن فهم تعليق أوباما على ما حدث هنا الّا التهكم بين فكرة البوليس والمساعدين والمخابرات المرافقة ومقدرة عابر طريق ان يأخذ الورقة بهذه البساطة! 

يعود أوباما من رحلته بشعور عودة رائد فضاء. يقرّر أن يأخذ عائلته في رحلة إلى هاواي. ليعيد بعض الاعتياديّة لحياته العائلية، فيكرّس الوقت لبناته ويصف كيف باتت تكبر كل منهما بسرعة فائقة. ويشعر ببعض اللوم الداخليّ عن كل تلك اللحظات التي لا يمكن إرجاعها بعلاقته مع عائلته بسبب انشغاله. ويسأل نفسه إن كان هناك حكمة في هذه الصفقة التي أدخل نفسه بها. 

يعتبر أوباما هذه الأيام التي قضاها مع عائلته بهاواي هي الأفضل، على الرغم من خسارة حملته بعض النقاط أمام ماكين بالاستطلاعات. 

جاء الوقت لاختيار نائبه. ويقف أمام مرشحين أحدهما جو بايدن. يصف بايدن بالكثير من الإيجابيّة. عن طبيعته المرحة والإنسانيّة، الفرق الكبير بالعمر (١٩ سنة)، حيويّته. ولكن من سلبياته هو حماسه الزائد عندما يأتي الأمر للكلام، فإذا ما كان لخطابه ١٥ دقيقة من الوقت كان يأخذه ٣٠، وإذا كان نصف ساعة فلا يمكن التخمين متى يمكن أن يتوقّف. عدم مقدرته على فلترة نفسه بانتظام أوقعه بالمشاكل. على الصّعيد المحلّي اعتبره أوباما ذكيّاَ، عمليّاَ، وملتزماَ. تجربته بالسياسة الخارجية كانت واسعة وعميقة. أهم ما يميّز جو هو أنّ لديه قلب- استطاع أن ينجو بالكثير من الصعوبات والكوارث التي المّت بحياته. سنة ١٩٧٢، بعد أسابيع قليلة من انتخابه بمجلس الشيوخ قتلت زوجته وطفلته بحادث سيارة، وتعرّض ولديه لإصابات.ويتكلم عن زوجته الثانية بكل ودّ وتقدير وقدرتها على جمع العائلة. 

بالنهاية يقع اختيار أوباما على بايدن، تحديداً بسبب الفروقات بينهما وليس بسبب التقارب. رأى أنّ فروقاتهما ستملأ الفراغات التي تساءل الناس عنها بشأن أوباما، تحديداً بمسألة الخبرة والعمر. 

تدخل ساره بالين، التي اختارها ماكين لتكون نائبته بالتحدي، لتتهاوى بسرعة أمامه بعد وقت قليل.

هنا يأخذ القارئ بتفاصيل ما يحدث بالحملات الانتخابية بأبعاد أكثر من المعارك والاحتمالات، ولكن كل ذلك التحليل الدقيق لكيفيّة تقدير الحسابات والفرص بلا شك مفيدة جدّاً بقدر متعة قراءتها. 

بالمحصّلة، حقّق لي أوباما في هذه القراءة اعتلاء الادرينالين المصاحب لهذه اللحظات… بحياة لا نعرف بها معنى للانتخابات. فآخر انتخابات شهدت بها بعض الكواليس كانت انتخابات مركزيّة فتح السادسة او الخامسة… والله أعلم.

الفصل التاسع

يبدأ أوباما هذا الفصل بالحديث عن الشّقّة التي اشتراها مع ميشيل ببداية التسعينات، وشرح ما يعيشه معظم الناس من ظروف الحياة بتوزيع الدفعات بين قروض شقة وقروض دراسة وتعليم أبناء ونشاطات. ثم يتدرج الى التحضير للمواجهة العامة الأخيرة بينه وبين ماكين. 

يفهم القارئ هنا قوّة أوباما التي جاءت من رحم معاناة الفرد العاديّ. لا يمكن أن يفهم معني عبء القروض والخوف من الخسارة ألّا من يشقى ويعيش هكذا حياة. ولكنه هنا كذلك، كان يعتقد أنّ التغيير الذي سعى إليه ممكن التحقيق. كان يستطيع أن يرى طبعاً ما يراه الجميع من صعوبة الوضع الاقتصادي التي تعيشه بلاده، وعليه كان مقتنعاَ انّه بوضع استراتيجيات عمل صحيحة يمكن أن يعيد التفكير الجمعي بدور الحكومة وإقناع الناس بأنه يمكن العمل سوية على تخطّي هذه المرحلة. إلّا أنّه لم يحسب أنّ هناك ازمة اقتصادية مهولة بانتظاره.

يأخذ هذا الفصل الكثير من المشاهد والمواقف وحبس الأنفاس، وكأنّك تشاهد مسلسل هاوس اوف كاردز أو الرئيس أو غيرها من المسلسلات والأفلام ذات الصلة. لقاء أوباما ببوش وهزيمته لماكين بذلك الاجتماع ، ولعب بعض الإخفاقات لدى حملة ماكين لصالحه، ومرّة تلو المرّة تعبير أوباما الصادق جدّاً لما يجول بداخله من مشاعر. 

موت جدته ليلة القاء خطابه الأخير قبل إعلان النتائج. لحظة الفوز والحوار الذي دار بينه وبين أفراد عائلته. حماته وهي تنظر أمام الشاشة غير مصدّقة، وهو يتخيّل كيف يمكن أن تكون مشاعر المرء الذي عاصر نفس الأحداث بسياق آخر مختلف تماماً مليء بالظلم والعنصرية. 

تغمرني الدموع وأنا اقرأ ما جرى في تلك الليلة من أحداث. أضحك لذاكرة تجتاحني للحظة فوز ما عاصرته كفلسطينية… فوز محمد عساف بمحبوب العرب.

وكأنّ اقصى ما نستطيع الانتصار له هو فوز بمسابقة غناء…. 

اترك رد