دحلان وسهى وكفاح دويلات المعازل
في ظل العيش بحقيقة واحدة وهي دويلات المعازل ضمن نظام فردي زبائني مهدّد بحرب أهلية قادمة. لم يعد حل الدولة او حل الدولتين او تطبيع (تتبيع الدول العربية) او الانقسام سواء بإنهائه او تكريسه، او التوسع الاستعماري وضم الضفة وتهويد القدس، او (الحلم) بإجراء انتخابات وتشكيل حكومة، او إعادة تشكيل او النهوض بمنظمة التحرير او حتى إعادة الاحتلال المعضلة لهذه المعضلة. المعضلة الحقيقية التي تهدد الكيان الفلسطيني (الذي يتم التعويل عليه من اجل التحرر والهوية والوطن) انعدام الأمن وتضييق الخناق وتكميم الافواه والتهديد السلمي وتسلح قوى ” المسترئسين” بكل مناطق السلطة الفلسطينية تحضيرا للمرحلة القادمة (مرحلة ما بعد محمود عباس).
كل ما يجري يودي بنا الى خسارة معركة التحرر ومعركة الوطن. وصلنا الى استحالة الدولة وها نحن نقترب الى استحالة بقاء الانسان الا وسط مستنقع فوضى صار الأخ يقتل فيه اخاه ، ولقد رأينا المشهد الدامي في كفر عقب عندما قتل ابن العم أبناء اعمامه الثلاثة وسط الشارع. وسبقنا حشد شعبي للانتصار امام موسيقى التكنو وتطهير المقدسات. وانشغلنا بتعريف ما هو فن وما يصلح ليكون فلسطيني وقررنا حماية المسجد كحمايتنا للشرف، وحاربنا من اجل الشرف في طعن شرف الناس ورجمهم. ولا يزال الانسان كما الأرض بضياع وسط جشعنا وانهماكنا بالأقل أهمية وتركنا لما هو مهم.
وتوالت علينا عمليات الالهاء بمقابلة صحفية لزوجة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، السيدة سهى، فجرت فيه مفاجآت جديدة كما تم تسميتها. وكأننا كنا بحاجة معرفة ان عرفات لم يقتل بأيدي إسرائيلية، وكنا بحاجة الى تحليلها بأن الانتفاضة الثانية كانت خطأ اجبِر عرفات عليه. لو ادلت السيدة سهى عرفات بما فاضت به في منبر عربي، لما اخذت كلماتها الترجمة التي تم تحويل الانتفاضة بها الى فعل إرهابي.
الحقيقة، انني لا افهم ما الذي يحرك السيدة سهى عرفات نحو هكذا أفعال. فلم تكد موجة الانتقادات السابقة ضدها بعد التطبيع الاماراتي ان تنتهي ولقائها مع نفس القناة الإسرائيلية، حتى قررت ان تحرق نفسها من جديد.
يبدو ان السيدة سهى عرفات لا تعي ان النيران التي تشعلها في كل مرة تحرقها هي فقط وتشوهها أكثر في كل مرة.
يأتي في ظل الملهاة الحاصلة كذلك، تقرير تحت عنوان الرواية المفقودة عن السيد محمد دحلان وعلاقته المبتورة بالرئيس محمود عباس.
الحقيقة انني لم أستطع تقييم ما رأيناه وسمعناه في ذلك الفيلم الوثائقي الذي بثّته قناة الكوفية التابعة لمحمد دحلان. كما بالنسبة لسهى عرفات، لا يمكن تقييم أي ادلاء صحفي عن “نخب” فلسطين به معلومات هامة يكون مصدره إسرائيل، وبالتالي يمكن ان تكون نتيجته إيجابية على صاحبه مهما كانت المعلومات حقيقية ومهمة. فهي فقدت مصداقيتها باللحظة التي قررت بها محاربة افراد السلطة من خلال المحطات الإسرائيلية. كذلك لا يقف محمد دحلان بمكان أفضل عندما نرى فيلما وثائقيا يروي الحقيقة بطريقة تبدو بنظر من قدمها براغماتيكية، من خلال محطته الخاصة.
وليس بالغريب ان يقوم أبو مازن بعمل فيلم اخر ويبثه من خلال تلفزيون فلسطين. الحقيقة، أبو مازن لا يحتاج للقيام بهذا، فجزء أساسي من فقدان أبو مازن ومنظومته للمصداقية هو تحويل تلفزيون فلسطين وغيره من المحطات الرسمية الى بوق للتعبئة الحزبية والانحياز الى طرف فصائلي ضد الاخر، وتأليه الرئيس بأوبريت وتجييش المقاومة بزرع تفاح.
وعند التوقف امام ما جاء بالفيلم الوثائقي، الذي لم يكن به أي جديد، فأزمة الدحلان مع أبو مازن في متناول الأحاديث منذ بدئها. ومما لا شك فيه، ان ما وقع على الدحلان كان به ظلم كبير. ولكن الدحلان جزء من هذه المنظومة الظالمة. فكما يقال على الباغي تدور الدوائر.
قرار الدحلان بنشر الغسيل الفتحاوي المركزي، يشبه قرار سهى بنشر نفس الغسيل، وكلاهما جزء من هذه المنظومة انقلبا عليها عندما انقلبت عليهما.
الحرب الدائرة بين الدحلان ومحمود عباس على حسب الفيلم، تؤكد فقط ان كلمة بيت فتحاوي لا تنطبق على ما يجري داخل فتح. ما يجري بالداخل أقرب الى ان يكون عش دبابير او صراع أبناء اوى على جلف.
كل ما يؤكد عليه الفيلم اننا تركنا وطننا وارضنا لحفنة من المنتفعين الذين يتصارعون فيما بينهم على نهبنا أكثر.
هل نحتاج الى ما سمعناه من تصريحات لأسماء فتحاوية بارزة لكي نفهم ان لا أحد يملك قرار نفسه؟ ان الجميع يخضع لسلسلة تكبله من المصالح الشخصية والعائلية يخرس بالكامل امامها.
هل اتهامات محمود عباس ضد الدحلان باطلة؟
نعم باطلة، لأن الدحلان كان ينفذ أوامر، وكل ما يمكن ان يكون قد اتهم به هو جزء من منظومة تشاركية بالقيام بكل ما صدر من أفعال او بالأحرى جرائم (بما اننا امام عشرات الاتهامات) ينفذها عدة افراد، يحكمها رجل واحد وهو محمود عباس.
ما جرى مع دحلان، هو ما جرى ويجري مع غيره، وسيجري في لحظة ما بالتأكيد مع محمود عباس كما جرى مع عرفات.
ولكن هل هذا يعني ان الدحلان هو البريء؟
نعم هناك جرائم ارتكبت وتجاوزات واختراقات واموال سلبت وفساد مستفحل، ولكن المظلوم هنا هو الفلسطيني الذي سلم رايات نضاله مقابل نوستالجيا الشتات وحلم العودة والدولة وبايع على ما صار تصفية لقضيته.
المشكلة واضحة في فصيل فتح الذي لا يزال يردد إنجازاته من خلال ما تحقق وانتهى عندما وصلت الحركة الوطنية الفلسطينية الى سقفها من الإنجازات.
تلك الإنجازات تحققت في السبعينيات من القرن الماضي وبعد ذلك لم تحقق أي إنجازات تذكر. وهذا امر مسكوت عنه في الفكر الفصائلي الفلسطيني التي لم تراجع اعمالها منذ ذلك الوقت، الا ان تلك الفصائل تصر على إطلاق شعلة انطلاقة إنجازها الذي يشّكل مصيرنا الكارثي هذا.
فتم اقحامنا في ازمة وطنية شاملة طالت الشعارات والفصائل وكل شيء.
استبدلوا القضية بالنظام واستبدلت الأرض بالقمع. وغلب الخطاب القومجي والخطاب الاسلاموي على خطاب الوطن.
نتحول يوميا الى دولة معازل يترأسها متنفذ يكره ابن فصيله، ويتبعه زبائن من المنتفعين موزعين بين نخب اكاديمية وثقافية و”كتائب”. بينما تتعامل إسرائيل معنا على اننا شعب واحد.
قمة المأساة ان إسرائيل ترى فينا وحدة واحدة فتعاملنا جميعنا على اننا فلسطينيين. فلا فرق بين فلسطيني واخر لدى إسرائيل الا بسقوطه من حسبتها كرقم. ونحن في داخلنا منشطرين الى جزيئات متلاحمة متباعدة.
كل ما يجري من عمليات الهاء تصب في تفاصيلها مصالح خاصة سواء كانت مصالح الرأسماليين المتنفذين، او مصالح افراد الفصيل في فتح من اجل مكاسب حزبية محتملة او منافع في غنائم الوطن لم يتم الاستيلاء عليها بعد. وسكوت لأصحاب المنافع من الفصائل الأخرى والنخب التي يشكل سكوتها تواطؤا لا يقل في كارثيته عن فساد المنظومة الحاكمة بفصيلها.
فقدنا بنيتنا العضوية التي كان كفاح الشعب هو مشكلها. وتحولنا الى كتل متخثرة من محاولات البناء التي تكافح من اجل مصالحها الشخصية وانتفاعها.
وندور حول أنفسنا بداخل دائرة نار، نحرق بنا تدريجيا. فلا نلبث نخمد حريق حتى نداوي قروح باستعداد للاحتراق أكثر.
وهنا، يمثّل الدّحلان ما يمثّله هذا الواقع. فهو كذلك يحارب من اجل سيادة نظام الفرد الزّبائني وينادي بشعارات من اجل نظام الشعب. فالحق بتقرير المصير هو ما يراه الفرد هذا وذاك حقه بالاستبداد والتنفذ وإقرار مصيرنا تحت اعلاء مصالحه.