لا للتستر على المنحرفين: هؤلاء من يشوّهون الحياة (طفلة المعادي)

لا للتستر على المنحرفين: هؤلاء مَن يشوّهون الحياة 

ضجت منصات التواصل الاجتماعي بقضية تحرش رجل اربعيني بطفلة بمدخل احدى العمارات بحي المعادي في القاهرة. 

رصد الفيديو المشهد بالكامل، حيث استقطب الرجل الطفلة بمناداتها ليعطيها شيئا ما واخذها الى زاوية منزوية تحت الدرج وبدأ برفع او إنزال ملابسها. خرجت سيدة من منزلها على الفور لتسألها ما الذي يفعله، ومن هو ظنا انه قد يكون والد الطفلة وهرب.

قامت السيدة بشجاعة بنشر الفيديو على منصة وسائل التواصل تطلب تحذر الناس منه وتسليمه للشرطة وفضح ما قام به.

انتشر الفيديو وتدخلت الشرطة وتم القبض على الرجل المنحرف، وتبين ان الطفلة تبيع المناديل بذلك الشارع. وكانت المفاجأة بردود فعل الناس التي طالبت بالتستر وعدم فضح الرجل الذي قد يكون متزوجا مما يؤثر ذلك على عائلته، وان الله طلب الستر.

في المقابل، كان هناك دعما حقيقيا للسيدة التي نشرت الفيديو التي انقذت بدورها حياة الطفلة من مغبة جريمة شنيعة. وبقي لسان حال السيدة يقول: انا لم افعل شيء، كل ما فكرت به ابنتي التي بعمرها، وان الله هو الذي سخر وجودي بتلك اللحظة للتدخل، لعل هذا يحمي اطفالي واطفالا اخرين من هكذا شرور. 

عندما شاهدت الفيديو، كانت ردة فعلي الأولى بالراحة لان ذلك الشيطان لم يقترف فعلا يؤذي تلك الطفلة الى الابد. وبانشغال الجميع بالمرأة التي تحاول مسك الرجل، والرجل الهارب، كنت ابحث عن الطفلة. كم تمنيت لو كشفت لنا الكاميرا ماذا كان يجري مع تلك الطفلة باللحظة التالية. هل كان هناك من يحضنها، يسألها ان كانت بخير، طمأنها انها امنة؟ 

اخذني المشهد الى غياهب الذاكرة السحيقة. تلك الطفلة التي انزوت بداخل نفسها الى الابد لا تفهم ولا تعي ما الذي جرى بالفعل. كم مرة جرى هكذا فعل من قبل، وكم مرة كان سيستمر الى ان تعي ما الذي يجري، فتنزوي بخارجها او تفلت جماح غضبها على العالم وتنتقم من جنس الرجال والنساء بانتقامها منه ومن نفسها. 

توقفت عند تلك الطفلة التي كنتها قبل ٤٥ سنة. يا إلهي فكرت، كم تبقى الطفولة في داخلنا مهما كبرنا. تبقى الطفولة بزهوها، بذكرياتها الجميلة المضيئة، بضوضائها، بألوانها الربيعية، وتتكرر الفصول فيها حتى نكبر نصير ذلك الانسان الواعي الذي يستطيع ان يعقل نفسه ويقرر شكل حياته وتصرفاته. يقرر شكل من هو ومن كأنه وماذا يستطيع ان يخرج من خزائن الذاكرة وما الذي يحتاج الى دفنه الى الابد. 

ولكن ما نظن أنفسنا قادرين على دفنه، نخطئ بالظن اننا أمتناه. فتلك الذكريات أرواح مكتومة متعطشة لكي تخرج الى نور الحياة، فما تلبث تخترق أجواء دواخلنا السحيقة في كل مرة تدق الاحداث الخارجية باب عقولنا بما يبدو غير متصل بنا. تضعضع امننا وتخترق سياج وحواجز وأجهزة الامن التي طورناها على مدى حياتنا من اجل التأكد من ان تلك الذكريات مدفونة دفن الأموات لابد ان تكون قد تحللت. ولكن هذه الذكريات المدفونة غير الميتة يكون تأثيرها تأثير “الزومبي” تتعطش للخروج ولا تعرف التحكم ولا تفهم من الخارج الا حاجتها لمص الدماء للاستمرار، وبالعادة تمص دمنا نحن أصحابها الذين أغلقنا عليها بلا رحمة، فنصبح بالنسبة لها مجرمين لا ضحايا كما كنا عندما دفنناها. فتطاردنا وتطردنا الى دوائر يصعب الخروج منها، وبالعادة تكون مستحيلة. 

أجد نفسي ألف وادور في الكلام، وظننتني تغلبت على تلك الذكريات فدجنتها منذ زمن. ظننت نفسي طليقة عندما اختلق قلمي شخصيات روائية وهمية البستها ما اردت من مآسي البشر. ولكن عندما رأيت هذا المشهد، لم أجد نفسي الا مهرولة نحو تلك الطفلة التي كنتها. تلك الطفلة التي لم تغادر ابدا مكان عزلتها مهما حاولت التعامل معها على مدار سنوات عمري كلها. لا بد ان تلك الطفلة في حادثة المعادي قامت بنفس ما قمت به انا تلك الطفلة القابعة في مكانها حتى هذه اللحظة. منزوية تضم رجليها الى يديها ورأسها مطأطأ تملأ عينيها الدموع ويمتزج الخرف انحاء جسدها ولا تفهم مما جرى الا ذنبها. كم تحتاج هذه الطفلة الى من يحضنها بقوة ويطمئنها انها هي الضحية ولا يجب ابدا ان تجلد نفسها لما اقترفه منحرف. 

كبرت معي تلك الذكرى لمكنا مهما حاولت الابتعاد عن التفكير به وردمه وجرفه كما تردم الامطار التراب والصخور وتحولها من الجبال الى وديان، ولكن عبثا. كنت اذهب الى بقالة في أسفل الشارع المؤدي الى بيتنا، كان الذهاب الى الدكان أكبر افعالي التي كانت تجعلني مسؤولة، كنت انتظر لحظة انقطاع الخبز الفجائي من البيت او بهار طبخة او علبة بندورة او باكيت معكرونة وهكذا لأهرول لشرائها فأستطيع ان احصل على بعض السكاكر بالمقابل. كانت تعيش بداخلي طفلة ممتلئة بالحياة. كانت بداخلي طفلة تشبه طفلة في تلك الأفلام الكرتونية سعيدة بالمروج مع كلبها وغنمتها وتنتظر تفتح شقائق النعمان لتجمعها لامها في كاس زجاجي تجعل منه مزهرية. 

كان المكان امنا بالمطلق بحسابات أي ام، المسافة بين الدكان والبيت، الوقت الذي اقضيه بين الذهاب والرجوع، واوامر امي القاطعة روحي وارجعي بسرعة لشدة حاجة امي لتلك الأغراض، ومع من تكلمت وغيره من إرشادات الأمهات البديهية. والدكان على الشارع الرئيسي، مليء بالحركة وسط دكاكين أخرى، والبقال حاج هرم، بيته ملتصق بدكانه وعائلته تعيش بنفس العمارة. هل يوجد أكثر امنا من ذلك؟ ولكن في أكثر الأماكن امانا تقع المصائب. لا تزال ذاكرتي ترفض استحضار ما كان يجري وكم من المرات جرى، ولكن اعرف ان ذلك الحاج الهرم كان يستدرجني في كل مرة وراء الكاو نتر الصغير أكثر الى داخل المحل، حتى جاء يوم رفع فيه جلبابه واراني عضوه الذكري. جملة بقيت عالقة في رأسي وانتهى بها المشهد، ومهما حاولت استرجاع ما كان يجري لا اعرف. قلت له: ستأتي الحاجة زوجتك وترانا. 

هذه الجملة كانت كفيلة بأن تجعلني حياة احتقر فيها نفسي الى ابد الطفولة. كنت شريكة مع ذلك الرجل بفعله المشين لدرجة حاولت حمايتنا من مغبة رؤية زوجته. ولكن الحقيقة كان بلا شك أخرى، ولقد اخذني سنوات كثيرة لأفهمها، لأنني ما قمت به عندما حذرته من ان زوجته ستأتي هو حماية نفسي وخروجي الامن من ذلك المكان المنزوي من الدكان. قد أكون حميت نفسي بالفعل منه، ولربما كل ما كان يصدر من ذلك الرجل هو احتكاكات ما أرادها عندما كان يجلسني على ركبته ليعطيني الحلوى، او شرطه قبل ان يبيعني بالقدوم نحوه والجلوس على ركبته ليعطيني قبلة. كان الرجل بعمر جدي بالتأكيد، وما كنت أقوم به معه كان ما هو بديهي لأي طفلة تريد الشعور بانها قادرة على جلب حلوى أكثر مما كان مفترضا منها مقابل المبلغ الذي تحمله- أشياء فوق البيعة- ولكن كل ما اذكره ومحسوم برأسي هي تلك العبارة التي قلتها عندما رفع جلبابه وقراري بعدها بعدم الذهاب ابدا الى تلك الدكان. 

صرت أحاول بقدر المستطاع الا اذهب الى الدكان، ولكن كان على بالمقابل عدم الانصياع لأوامر امي، وإذا ما اردت إعطاء تلك المهمة لإحدى اخواتي، فكنت في رعب ان يفعل بهم ما كان يفعله به. فطورت ربما مع الأيام وسيلة تذهب بها أكثر من اخت واحدة الى الدكان معا. بما انني كنت الكبيرة فكنت كبيرة لدرجة انني أستطيع ان اذهب الى الدكان وحدي، ولكن اخواتي لست بقدر كبري، وعليه كن بحاجة الى ان يذهبن كل اثنتين او ثلاثة. 

مضت طفولتي وانا اتجنب الذهاب الى تلك الدكان او المرور من جانبها. عندما كبرت صرت اقطع الشارع وامشي بالجهة المقابلة للذهاب الى وجهتي. كان خبر سماع وفاته بعد سنوات كثيرة بعيدة عن تلك الطفولة خبرا جميلا يستدعي الاحتفال. 

امر أحيانا من ذلك الشارع ولقد اختفت الدكان وابتلعت العمارات معالم المكان، فاشعر براحة، كشعور المظلوم بمعاقبة الظالم. 

كم هي بالحقيقة هذه القصة صغيرة ولا تستدعي ربما الحديث عنها. لا اعرف. ولكن كل ما اعرفه انني عندما بدأت الكتابة كل ما اردته هو اخراج تلك الحادثة وانفضها الى الابد من ذاكرتي. ولكن اشعر انني بدأت للتو. 

كم تبقى تلك الاحداث بداخلنا محفورة كحفر يسببه حرق بليغ، وكم نحاول ان نرهم تلك الحروق بوسائلنا البسيطة المتاحة كأطفال. 

لم أستطع ابدا الحديث عن هذا الامر مهما حاولت اختراقه على مدار سنوات عمري. في كل مرة كنت أحاول اخراج الامر كنت أجد نفسي بداخل دوامة من العيب والممنوع واللوم وتحمل المسؤولية، فأعيد التجربة بحروقها الممتلئة بالقروح الى الداخل من جديد. 

كبرت وصرت مراهقة… كنت مع امي في زيارة عائلية لأقارب، وإذا بأحاديث يملأها الهمس والهلع والخوف والدعوة الصارمة الى السكوت تكون القرار. الطفلة تعرضت لاعتداء من صاحب الدكان الشاب ربما او الهرم ربما، كانت بعمر تلك الطفلة بالفيديو، وكانت بعمر تلك الطفلة التي كنتها. لوهلة شعرت بالراحة، لان الامر تم اكتشافه وتم احتواء الطفلة وتدخلت العائلة بالأمر. ولكن كان القرار بالتستر هو القرار الصائب للجميع. وعندما سألت امي لماذا قالت: لأنهم خائفين على سمعة الطفلة لما تكبر! 

تلك الحادثة اكدت لي ان ما قمت به من إخفاء جريمتي- او الاجرام الذي ألحق بي كان صوابا. فلقد عشت طيلة تلك السنوات وانا أجرم نفسي على ما كان ذلك الرجل الهرم على وشك القيام به. من المؤكد انه بالفعل لم يجر بكل تلك القصة الا ما ذكرت، أي لم يحصل أي شيء، ولكن ما كان ممكن ان يحدث لو لم اقل له ان زوجته قد تأتي هو ما عاقبت عليه نفسي دوما بلوم وجلد لم يتوقف. 

في كل مرة كنت أحاول التكلم عن الامر كنت اتراجع. لان التستر هو المطلوب دوما. 

كبرت وهرمت وخرجت تلك القصة من وجداني، وصرت اتداولها بحذر وبضحك مع الجميع ليتبين ان ذلك الرجل كان متحرشا بالجميع، ولكننا جميعا تسترنا لخوفنا من اننا كنا مسؤولات عن ذلك الفعل معه. كانت اكبرنا لا تتجاوز الست سنوات. وحملنا وزر فعل رجل كان بالستين من عمره. وبالتأكيد لم يفكر ابدا ان ما كان يقترفه من انحراف بالأمر الغريب. فكان الرجل يجلسني والأطفال الاخرين على حضنه امام زوجته التي تأتي مداعبة بحنان جدة تسألنا عن امهاتنا وجداتنا يبدو لكل من يراه كالجد الحنون. 

تلك الحوادث تنتهي لكن أثرها لا ينتهي.  يعمق ويبثر ويلتهب ويحرق ولا يزول الألم المصاحب له في نفوسنا مهما مر عنه الزمن. وعليه، مهما بدا الامر بسيطا ويمكن اغلاقه بلحظات، الا انه عظيم الوقع في نفس تلك الطفلة التي ينشغل الناس حولها بينما يخافون ويرتعبون ويلتموا بالفعل لحمايتها والتأكد من سلامتها، يكون الاثر قد اخترق وجدانها، وبدل طمأنتها والحديث معها أكثر، ومعاقبة المنحرف ومحاسبته يتم معالجة الامر بالتستر. 

فتكبر الفتاة لتصير امرأة مهما بدت عليه من قوة وصلابة فبداخلها أثر حرق سبب التشوه لروحها. ويستمر المنحرف بانحرافه ويتسبب بحروق لآخرين، ويتم التستر عليه ويستمر بالعبث بأرواح الأطفال ويشوه الطفولة التي ينطفئ ربيعها الى الابد مهما تبدلت المواسم.

تحية للسيدة الشجاعة أوجيني أسامة التي لم تتستر وتحية للإعلامي المصري خيري رمضان الذي أصر على تكريم هذه السيدة. لأن أضعف الايمان هو عدم التستر على هؤلاء المنحرفين.

اترك رد