تخطى إلى المحتوى

وداعاً نوال السعداوي

اعترف انني بداخلي دائما خفت من هذا اليوم. 

قد تكون العلاقة التي جمعتني بنوال السعداوي علاقة يشاركني بها المئات ان لم يكن الألوف. فمن عرفها والتقاها يعرف ان عطاءها كان غير محدود. 

ولكن، كالملايين الذين تأثروا بنوال السعداوي على مدار العقود، اشعر بخسارة الرحيل لامرأة عاشت حياتها من اجل حقها في الوجود كانسان خلق من اجل ان يعمر هذه الحياة كما الرجل. 

امرأة حاربت من اجل ان تكون المرأة في العلاقة الحياتية ندا وشريكا لا مطوّعاً وفضلة على الحياة. 

لا يمكن وصف نوال السعداوي الا بالظاهرة عند التفكير بتأثيرها وقوة فكرها وحدة قلمها وايمانها بقيمتها كإنسانة. انسانة خرجت من أكثر الأماكن حلكة. انسانة وقفت عند نقطة الصفر واستطاعت ان تحدق في وجه الشمس. 

لا اعرف ان كان التاريخ الحديث قد شهد عملية “شيطنة” ممنهجة كما حصل مع نوال السعداوي. ولكن بالتأكيد انه وبالمقابل مثلت هذه المرأة قوة المرأة في كل مكان. تربعت قوتها في قلوب النساء وكانت الملجأ والقوة والاعتداد للملايين بكتبها التي تم حفظها بسرية بين رفوف الملابس وتحت الوسادات والافرشة وتناقلت من يد الى يد الى يد حتى اهترأت الاغلفة، لتكون دليلا يشد من عزيمة المقهورات من النساء والاقل جرأة وحيلة، وكانت دوما تلك الحقيقة التي تؤكد بقوة ان لا مستحيل يقف بوجه امرأة. 

بدأت علاقتي بنوال السعداوي عندما ورثت عن امي الحاجة لقراءة كتبتها بالسر. كانت رواية امرأة عند نقطة الصفر البداية. وتوالت الحكايات والبطلات اللاتي تجرأن البوح في سطور كلماتها. ولا اعرف لما لازمتني “تهمة” انني مثلها منذ صغري. وكنت في كل مرة أرى تلك “التهمة” قوة، تدغدغ بداخلي ربما ما هو كامن من خلجات مشاعري. كل تلك الممنوعات لما هو تفكير خارج المفروض والمطلوب الذي كانت تكبر سعته كلما كبرنا أكثر.

كبرت وكبرت بداخلي تلك المرأة، واوضعتها في سبات قصري بينما كنت اشق حياتي نحو الالتزام بما هو مطلوب مني كامرأة صالحة. 

واستيقظت عنوة في زحام حياتي التي امتلأت بالمشقة فيما بعد، لأجد نفسي بعد سنوات وبينما كنت اعمل على رسالة الماجستير اخرجها الى النور لتكون جزء من تلك الرسالة. كان هدفي حينها ان أكرمها. اردت ان أقدم جزء من العرفان لامرأة تشكل حالة استثنائية بالتحدي والمواجهة في زمننا هذا. امرأة تكاد تكون الوحيدة في مواجهة العالم الذي يحاربها من كل صوب باسم العادات والتقاليد والدين، ويا ليت ذلك العالم قرأ عشر ما قرأته، او عاش عشر ما عاشته، او تفكر عشر ما تفكرت به، او امن بعشر ما امنت به. 

لم أفكر انني سألتقي بها يوما. 

لم اتخيل ان هذا ممكنا. 

كانت قوة وجودها بالنسبة لي كما الشمس للأرض. يمكن ان تشعر بها ولكن مستحيل الاقتراب منها. 

وجاءت تلك اللحظة بترتيبات قدرية متقنة. لم احسب لها ولم أفكر بها ولم اخطط لها ولم أجرؤ ابدا ان احلم بها. 

وكانت وتوالت لتشكل ما صارت اليه حياتي. 

كلماتها اخترقتني بقوة الحدة التي تصدرها اشعة الشمس عند الشروق. تلك الاشعة التي تبزع تدريجيا من وراء الأفق وتشق طريقها عنوة وتفتح لنا نور النهار. 

كانت القوة الحقيقية وراء ما اخرج ما انا عليه من قوة اليوم. 

كانت الثقة الحقيقية بما انا عليه من ثقة اليوم. 

كانت الحقيقة الممكنة للحقيقة التي شقيت طريقي نحوها اليوم. 

لم اجرؤ ان أقول لها هذه الكلمات حينها، لأنها حذرتني بكل قوة وإصرار ” لا تجعلي من أحد الها لك او قدوة غيرك. آنت القوة الكامنة بك.” 

كانت كلماتها هذه ما استهللت به اول كتاباتي.

لن أنسى ما حييت تلك المكالمة الهاتفية بيننا، والتي انتهت بكتابتي ما قالته وارسالي لها ما كان اشبه بالنثر لأقطع وعدا لها ان هذه ستكون كلمات كتابي الأولى:

أكتبِ، صَرَخَتْ في أُذُنَيَّ، فَفي الكِتابَةِ سَتَكونينْ. كَفاكِ بَعْثَرَةً في أَجْزاءِ نَفْسِك، كَفاكِ اخْتِباءً في ظِلالِ الآخَرين. 

فَأنْتِ آلهَةُ نَفْسكِ. لا تَسْمَحِ لأَيِّ إِنْسانٍ آخَرَ أَنْ يَكونَ إلهَكِ، أَوْ مُلْهِمَكِ.

فَأنْتِ مُلْهِمَةُ نَفْسُكِ. إنَّ الإلهَ فيكِ أَنْتِ فَاتْرُكِ هذا الإلْهامَ يَقودُكِ.

أكتُبِ فَبِالكِتابَةِ حَياةٌ. الكِتابَةُ نِعْمَةٌ لا يَتَمَتَّعُ بِها الكَثيرون. وأَنْتِ مُسْهِبَةٌ مُتَدَفِّقَةٌ. 

الكِتابَةُ إِبداعٌ. والِإبْداعُ هُوَ الوُجودُ… 

أَراكِ على مُفْتَرَقِ طُرُقٍ تَنْظُرينَ إِلى نَفْسِكِ ولَسْتِ مُتَأَكِّدَةً أَيَّ طَريقٍ تَخوضينْ. 

تِلْكَ الطَّريقُ الَّتي يَعيشُها الجَميعُ؟ ذلِكَ الخَيارُ أَنْ تَكوني كَالباقينْ؟  أَوْ تَكوني أَنْتِ. أَنْتِ الكاتِبَةُ؟ 

الكِتابَةُ إبْداعٌ تَرْسُمُهُ كَلِماتُكِ. فَلا تَترُكيها. تَمَسَّكِ بِها. تَزَوَّجِ الكِتابَةَ.

هِيَ الَأبْقى … كونِ أَنْتِ. أَنْتِ الآلِهَةُ أُكْتُبِ وأَلْهِم ِ.

. لا تَتْرُكِ إِلهاً يَقودُ طَريقُكِ، أَوْ يُلْهِمُك..

أَنْتِ الطَريقُ. وَأَنْتِ الإلْهامُ.

لم تكن الا دقائق معدودة وردها على بريدي الإلكتروني بأهم عبارة قرأتها في حياتي: انت مبدعة، هذه الكلمات تصلح لأن تكون بداية كتابك. وبدأت بالكتابة، ولا اعرف كيف امتلأت الصفحات بلا توقف على مدار أيام. ولم يمر أسبوع حتى انتهيت من المسودة الأولى وارسلتها لها. كنت كالطفلة التي تريد ان تثبت لمعلمتها انها مجتهدة. 

لم تمض الا ساعات وكان بريدي الالكتروني يشير الى رسالة جديدة كانت منها. تضعني مع ناشرها وتقدمني له. 

استمرت لقاءاتنا في معظم المرات التي زرت فيها القاهرة منذ ذلك الوقت. تبادلنا الحديث والهموم والأفكار. كانت تجلس معي نوال الانسانة بخفتها وبساطتها. كانت امرأة اعتيادية جدا عندما يتعلق الامر بذلك الشق الخاص بأنوثتها، بتجربتها مع زوجها السابق. تواعدنا على اللقاء في النادي بينما تقوم بمشيها الصباحي، وخططنا لبعض اللقاءات وعندها التقيت بالمميزين ممن صاروا أصدقاء اعتد بهم. 

أحيانا لا نفهم كيف تصير الأمور، ولكن بالتأكيد انه لا مصادفات بترتيب القدر. بداخلي عاش جزء من روح هذه الانسانة. ربما تأثرت روحي بتلك الأرواح التي شكلت نوال السعداوي. الآلهة نوت- الهة السماء في الحضارة المصرية القديمة- التي كانت تجد بها امتدادا لكينونتها كامرأة مصرية. 

كانت ترى بنوت أصل القوة الانثوية. أصل الحضارة الإنسانية. عاشت نوال السعداوي وهي ترى بنفسها أصلا لا فرعا. 

تمنيت لو تعيش هذه الانسانة التقدير التي تستحقه بقدره وسط ناسها. فالملايين مثلي الذين قدّروها واحبّوها وتعلّموا منها وعرفوا قيمتها ليسوا الأغلبية التي غيمت بظلمها وظلامها على نور هذه المرأة. 

اردت الكتابة عن فكر نوال السعداوي، عن تأثيرها، عن قيمتها. كان يؤلمها ان من يقدر قيمتها الغرب لا الشرق. 

تحاورت معها بشأن مشروع بحثي تكون هي محوره، وسعدت بالتأكيد ورحبت بالفكرة عندما تطورت لتصير مشروع دكتوراه تمت الموافقة عليه أخيرا. كنت أتمنى ان يسعفني الزمن لترى هذا العمل. ولكن قدرها كان قد اتى. 

نوال السعداوي رحلت بجسدها الذي لم تعره الكثير من الأهمية. فقوتها كانت محتكمه بعقلها. لم تتوقف عن الكتابة ابدا. حتى عندما تخلى عنها نظرها وجدت السبل للكتابة. حتى عندما خانها جسدها وضعف لم تتوقف. كانت تعيش في سباق مع الزمن تريد ان تكتب فيه أكثر. 

رحلت تلك العيون الثاقبة التي حدقت بوجه الشمس، ولكن روحها متربعة بقلوب وعقول أجيال مضت واجيال قادمة. 

نوال السعداوي الخالدة منذ بدأت مسير حياتها نحو الوعي لتشكل وعي الانسان في اهم صوره. تحدت الواقع ووقفت منتصبة بين الشرق والغرب مشيرة الى مركزية وجودها … 

نوال السعداوي تلتقي الآن نوت لتحلق بين نجومها. 

نوال السعداوي الانسانة الأبدية في قلبي …. وداعاً 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading