٢٠٠م هي المسافة بين حقيقتنا وانعكاسنا : فيلم ٢٠٠ م
استقبلت القدس ربيع هذا العام بافتتاح مهرجان القدس للسينما العربية، في وقت لا تزال جائحة الكورونا تخيم فيه على كافة مناحي الحياة، وسط إجراءات وقائية مشددة.
وبقدر أهمية المهرجان الذي سيستمر على مدار خمسة أيام، تحتضن فيه مؤسسات القدس الثقافية العروض المختلفة للأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة، كان عرض فيلم ٢٠٠ متر الذي بالتأكيد سيشكل درة الأفلام خلال الأسبوع.
فيلم ٢٠٠ متر للمخرج الفلسطيني أمين نايفة الذي يعتبر الفيلم جزء من حلمه الخاص، بين حلم المخرج وحلم الشاب الفلسطيني الذي عاش قصة هذا الفيلم، يعكس بالتأكيد الحياة الفلسطينية التي يمكن ان تخرج من قعر صعوبتها قصص نجاح تنبثق من بين الصخور لتبعث النور.
القصص الفلسطينية يتداخل فيها كل شيء، حيث الواقع والخيال يندمجان في وحدة درامية واحدة لا يمكن تفريقهما.
يجلس الجمهور ويشاهد الفيلم ليشاهد حياته تمر امامه.
٢٠٠م هو قصة كل فلسطيني، عاش معاناة الحواجز او لم يعشها.
٢٠٠م هو انعكاس ما يجري في كل بيت فلسطيني.
سلوى التي تجسد دورها ببراعة وخفة دم حقيقية الفنانة لانا زريق، تشبه كل زوجة منا، حنونة ومجنونة. شديدة الاغراء للحظات وتصد أي شهوة بلحظة وتوصدها، وكأن الدلال والغنج عيب حتى لو كان للزوج، او ترف لا تسمح به الحياة الفلسطينية. زوجة وام وعاملة ومراكضة يومية بين وظيفة (أو عمل) واحتياجات الأبناء ومتطلبات الحياة ، وفي حالة سلوى اعمال منزلية لبيتين… احدهما خلف ذلك الجدار على مسافة ٢٠٠ متر.
ومصطفى الذي قام بدوره الفنان الرائع علي سليمان يحمل من اسمه معانيه، يجاهد ويتحمل ويتعب ويشق على نفسه، ولكن يحرم عليه الألم او الوجع، وبقائه قويا متماسكا قادرا، أبا عطوفا وزوجا على قدر الرجولة وصفة لا يمكن فصل مكوناتها حتى ولو كانت حياتك بتفاصيلها تلك المسافة الواصلة او الفاصلة من ال ٢٠٠ متر.
وإذا ما كانت حياتك تحديدا كحياة هذه العائلة، فأنت جزء من كل لحظة من يوميات هذه العائلة. قصتك هي هذه القصة..
قصة المعاناة المتجذرة في حياة الاف العائلات الفلسطينية. وكأن للمآسي جذور تتشعب وتشكل المعاناة الفلسطينية في هيئة رجل، امرأة، طفل، عابر طريق يشكل وتتشكل منه ملهاة تحاكي قضية تشرذم شعبها بأفراده ليعيش كلٍّ معاناته بقدره وحجمه ومقدرته على التحمل أكثر.
٢٠٠م هي المسافة بين البيت والبيت لما يفصله جدار عنصري اقصائيّ فاصل.
٢٠٠م هي المسافة التي تتدحرج بها المشاكل الاجتماعية لتشكل كرة الثلج الفلسطيني. الانسان الفلسطيني الذي يجاهد من اجل بقائه دوماً امام منظومة احتلال تصد في وجهه الابواب الا من خلال تصريح يتزاحم عليه الالاف يوميا من اجل العبور ربما في سبيل لقمة عيش يذرف الانسان من اجله كرامته مع العرق والذل مع كل اشراقة شمس صباح جديد.
يتكرر موضوع العمال في الطرح لأنه يشكل بكل بساطة حياة ٢٠٠ ألف فلسطيني يمر بهذه الرحلة من المعاناة يوميا.
٢٠٠ الف قصة يومية …. مسافتها تتراوح بأصلها نحو ٢٠٠ متر.
ويبدو المرور عن الحاجز العادي ترفاً امام مأسوية الحياة الظالمة التي يعاني منها الالاف يوميا.
رحلة جهنمية يتصدر امر الدخول اليها والخروج منها وحوش بشرية تزج الداخل الى النار وترميه اليها من كل الاتجاهات.
الفنانة الجميلة حنين طربيه تقوم بدور جندية تمنع او تسمح بالعبور بشخصية توحي الى المتفرج شخصية ميدوسا. فإن كان لملائكة الحساب التي تدخل النار يوم الحساب شكل، يكون في شكل تلك المجندة الشابة الشمطاء.
مصطفى شاب “مشحّر” من الضفة الغربية من مدينة طولكرم، “محظوظ” بعيون الآخرين بزواجه من امرأة في الجهة المقابلة للجدار ببلدة صارت إسرائيلية بعد احتلال إسرائيل لفلسطين سنة ١٩٤٨. ولكنه يرفض لم الشمل الذي يجعل منه مواطنا إسرائيليا.
قصة مبدئية أخرى للكثير من الفلسطينيين… ولكنها تتهاوى في مبدئيتها امام استحالة الحياة كفلسطيني “ضفّاويّ”.
يتنقل من والى بيته وعمله من خلال تصريح. انتهت للتو صلاحية بطاقته الممغنطة وفقد حظه بالتصريح.
رحلة التصاريح، يتم طرحها بالفيلم لتعكس حقيقة غائبة عن أولئك منا الذين لا يحتاجون اليها للعبور، وتضعها امام عيوننا بفجاجة الواقع المرير. رحلة ذل ومهانة ممنهجة ومدروسة كحبكة الفيلم الذي امامنا، الا انها حبكة لحياة الانسان الفلسطيني في يومياته المريرة المتكررة وكأنها الطبيعي في وجوده.
تضيع يوميته بعد الغاء التصريح في ورشة عمل خلعت ظهره. تتصل به زوجته تبلغه بان ابنه بالمستشفى فيخرج الى الطريق بسيارة “سمسار” يهرّب المحتاجين الى اسرائيل مقابل مبلغ باهظ.
وهنا تبدأ معاناة بداخل المعاناة… معاناة الضحية وظلمها الذي يستمر في التدحرج فتصبح الضحية جزء من ظلم يؤصل لنفسه مكانا وكينونة تبقي الاحتلال حارسا للاضطهاد الذي اسس له وصار الفلسطيني يمارسه على الفلسطيني.
في مشهد يذكّر بأولاد الشمس في رائعة غسان كنفاني عندما انتهت الرواية بسؤال لماذا لم يدقوا الخزان. يُحشر مصطفى مع آخرين على امل المرور بتهريب لا يأتي.
يُزج ّالافراد مثل الخراف في صندوق سيارة خلفي ويمارس المهربون اجرامهم الطبيعي بين استغلال لحاجة البشر والمتاجرة بهم.
في لحظة تكون فيها فوهة المسدس ما يهدد الحياة، تتفاعل المشاعر وكأن تلك اللحظة تأتي لتزيد على كرة الثلج المتدحرجة في المعاناة الفلسطينية، بإضافة جديدة الى بديهيات الذل التي يعيشها الفلسطيني ذلك مع كل لحظة. اختناق كاد ان يودي بحياة داخل صندوق سيارة، او تصويب مسدس من قبل مهرب ارعن.
اجنبية شقراء تخوض مغامرة تصوير فيلم عن المعاناة الفلسطينية …. صورة بيضاء سوداء، لليسار الإسرائيلي الذي يظن افراده (المتمثلون بهذه الحالة بالشابة المتنكرة بجنسيتها الألمانية) ان فهم معاناة الفلسطينية تتطلب منهم أحيانا ان يعيشوا بعض المغامرة.
مغامرة تكاد ان تدفع ثمنها بحياتها وحياة الثلاثة الاخرين المغلّفين في صندوق سيارة.
٢٠٠م يتطلب اجتيازها ٢٠٠ كيلومتر.
٢٠٠م يتطلب مرورها ٢٠٠ دقيقة من المعاناة المتتالية للمتفرج اثناء المشاهدة وبعدها.
٢٠٠م يتطلب الهروب نحوها تجاوز مئتي مصيبة ومئتي قصة ومئتي معاناة متراكمة تدحرج معها كرة الثلج التي لطخ بياضها سواد الحظ الذي يعيشه الفلسطيني بسواده وبياضه
٢٠٠ سبب للنذالة والاستباحة والغضب والحقد والكراهية.
٢٠٠ سبب لتفهم ان المعاناة تحول الشهامة الى بطولة تعيد تكرار نفسها في صور انسانية متكررة.
٢٠٠ متر هي المسافة الجامعة للإنسانية.
٢٠٠ متر هي المسافة ذاتها التي تقطع اواصل الانسان ويمكن ان تفقده انسانيته …
٢٠٠ متر تجعل الفلسطيني مصطفى …. ومريم ومجد ونورا وامهم سلوى هناك بانتظاره.
٢٠٠ متر فيلم يستحق قدر التصفيق المتواصل الذي لم يتوقف على مدار دقائق طويلة.
فيلم متقن في كل ثانية من صناعته بالأداء.
فيلم أبدع خلاله الفنان الفلسطيني علي سليمان بكل لحظة… فحملنا مع تعابير وجهه ولغة جسده وبراعة أدائه الى تفاصيل حياتنا وعكسها امامنا كمن يقف امام مرآته، يحب ما يراه أحيانا، يغبطها أحيانا، ويبكيها ويتألم عليها أحيانا. ويحاول جاهدا أحيانا كثيرة ان يبقى متماسكا، متمسكا بالحياة كالقابض على الجمر… فيبكي ونذرف الدمع من جانبنا عليه. ويتألم ونشعر بالغصة على وجعنا المقموع. ويجاهد من اجل ان يبقى انساناً محترما على الرغم من كل الذل والهوان متمسكا بحقه بكرامته…. كإنسان.
2 تعليقان