تخطى إلى المحتوى

يوسف زيدان في فردقان…. ماهيتاب وصفوة الانثى في روايته

متى سأنتهي من هذه الدنيا، ثقيلة الوطء سخيفة الايقاع، وقد صارت ساعاتها مريعة. فلا مشتهى لي فيها يشاغب باطني فيشغلني حينا عن فنائي المحتوم. ولا مطلب يذهب عني ولو بالمخادعة، يقيني باقتراب خراب هذا العالم…اعالج مريضا، فتفتك بالألوف الامراض والحروب وهوس السلطة وسطوة السلطنة! وفي خاتمة المطاف ينتصر الفناء. اكتب في الحكمة والمنطق، فيزداد في الانحاء اجتياح الجنون، ولا يكون متغلبا على اغلب الناس الا الجهل والخرافة. فما جدوى الكتابة. وما معنى هبوط النفس من عالمها الالهي الى هذا الخواء الارضي الزائل حتما، المحكوم بالموت والفناء فلأي شيء اهبطت من عليائها، وما الحكمة من هذه الحياة وما سبب خلق هذا العالم، البائس… هل تحن الارواح حقا الى وجودها السرمدي السابق على خلق الاجساد، والباقي بعد فسادها وفنائها، ام هي تنتحب من حيرتها فتتمنى الرحيل الى وجهك علوية، من فرط سفلية الواقع سفالته.”

ان كنت سألخص ما يفكر فيه يوسف زيدان وكيف ينظر الى العالم حوله وكيف يتعامل مع أسئلة تحوم في فلكه عن الوجود. عن وجوده، عن جدوى هذه اللحظة على الأرض، وعن الاكتفاء بها…. كانت ستكون هذه العبارة أعلاه، التي احاكتها كلمات يوسف زيدان على لسان الشيخ الرئيس – ابن سينا. 

 رواية فردقان التي حبكها يوسف زيدان حول اعتقال ابن سينا وفترة تواجده بمعتقل “فردقان”  تحمل القارئ الذي تعوّد من يوسف زيدان على الغوص في أعماق التاريخ وفذلكاته الإبداعية بقلم عبقري الى عالم الفيلسوف والطبيب ابن سينا. 

ولا اعرف ان كنت قد غصت بعالم ابن سينا ام انني غصت في عالم يوسف زيدان اثناء هذه القراءة. 

ولا اعرف ان كنت اقرأ في فلك تلك الصفحات قصة ابن سينا المنسوجة بخيال يوسف زيدان وارشيفه الغني عن ابن سينا، ام كنت اقرأ عن يوسف زيدان. 

الحقيقة ان الامر كان بالنسبة لي واحد. فبين فخامة صناعة الكلمة بأنامل “مولانا” وبين التفكر بما يجول بعقله هو وسماع صدى كلماته كانت الرحلة بالتأكيد جميلة. 

لا يمكن المرور بكتابات يوسف زيدان عن ابن سينا تحديدا بلا التأكد من زخم المعلومات وثرائها… ومرة أخرى بينما القارئ امام هذه الرحلة لأرشيف معلومات حفظتها المكتبات العريقة لمخطوطات ثمينة، مفردات يوسف زيدان وثراء قاموسه اللغوي، رحلة لا يمكن الالتحاق بنشوة الوصول بها. 

ولكن…. كما العادة، يأخذ يوسف زيدان القارئ في خضم حبكته الروائية الى بطلات نسائه. وهنا لا أستطيع الا التوقف، ولقد تغيّرتُ كقارئة امام سطوة يوسف زيدان المفعم بالمعرفة. معرفته بعالم الانوثة الذي يدور في فضائه إشكالية ربما، صارت تحيك نفسها بي كقارئة. 

هل قرأت يوسف زيدان أكثر من اللازم، فصرت افهم كيف يصيغ شخصياته الانثوية؟ 

ام ما يعكسه يوسف زيدان هو رؤيته الثابتة مفهومه للمرأة. 

اعترف، وانني بينما اقرأ الأمور بنقدية، الا ان هذه النظرة هي نظرة مسيطرة على تفكيرنا. تفكير الرجل والمرأة. كيف ينظر الرجل الى المرأة، وكيف تنظر المرأة الى نفسها من خلال الرجل. 

سطوة ذكورية بالفعل على مفهوم الانوثة، لا أستطيع التملص من المسؤولية بتكريسها كامرأة. 

فبينما اقرأ مشاعر شخصياته، روان، سندس ومهيتاب، وتدرّج شخصية المرأة بكونها الجارية المطيعة، واللعوب الماكرة، والتي ترقى لمنافسة الرجل في فكره، المرأة “الاستثنائية”، “نادرة” الحدوث، كنت أرى تلك النظرة التي أحاول كامرأة ان ابثها عني امام الرجل. كنت كامرأة نشبت في ظل رجل يجب ان يكون دوما هو الحاضر استحضر نفسي في شخصياته.  

الرجل الحكيم الذي يجد نشوة في إيجاد امرأة تحاكي عقل رجل. امرأة تستمتع بكونها تلك المرأة المختارة في خيال المعلم.. مولانا.

نظر ابن سينا نحو مهيتاب بعينين تبتسمان، وسألها عن سر إصرارها على تدوينه لأصول الفلسفة التي تعبر عن رؤاه، مع انه أخبرها سابقا بأنها لا تناسب الا الخواص من العقلاء. اما العامة من الناس وعموم القارئين، فهم يحتاجون أكثر لفلسفة ارسطو (المشائية) لأنها تشتمل على المنطق الذي هو الة العلوم ومنهج البحث….”

” غاصت العينان بالنظرات في العينين وتوغلتا الى حد التمام في الهيام، وسكن الكون من حولهما لحظات لا حساب لها ولا تحسّب فيها، بعدما اذابت النظرة الولهى كل ما كان بينهما من مسافات واعتبارات. فلا هو الشيخ الرئيس الحكيم الوزير المعتقل بلا سبب، ولا هي سليلة الزهو والبهاء الشيرازي الموروث من آل ساسان الاولين. هما فقط، عاشق يشتاق ومشتاق يعشق. او هما وجهان لمرآة تجلى خلالها جوهر العشق والاشتياق والميل الى الالتصاق. “

وفي خضم غضبي من تجسيد يوسف زيدان لشخصيات نسائه في الرواية، كنت أسلم في كل مرة بعنفوان الانثى التي تحب ان تتجسد فيها تلك الانثى، ولا اعرف ان كنت استسلم لرؤية زيدان، ام اغضب وانتفض على مفاهيم تذوتت لدرجة صارت بديهية: بديهية بمقدرة الرجل على توصيفها للمرأة، وبديهية بشعورة المرأة بانتصارها من خلال هكذا وصف. وكأن ذلك الرجل استطاع اختراقها ورؤيتها كمن لم يستطع غيره فعل هذا من قبل. 

بالتأكيد، مقدرة يوسف زيدان علي الوصف رائعة. محبوكة، متماسكة، تصعد بالخيال الى اعلى درجاته، وينتشي بصهوة منتصر، يصل الى أعمق مكنوناته. 

ولكن مرة أخرى، بين العارف العالم، وبين الانثى “عنصر” البحث والتنقيب، تكمن المشكلة، وكأننا بانتظار الرجل ليكتشفنا، ليفهمنا أكثر من فهمنا لأنفسنا، ليحللنا، وليفكك احجياتنا ويجمعها من جديد بحرفية الصانع. 

وهنا تكمن اشكاليتي بتصديق هذه الشخصيات، كذلك الرجل العارف الذي يستطيع “تصنيعها” بهذه الحرفية. هناك نماذج محددة لكيفية طبيعة المرأة، قوالب محددة لها، قد تتزين، تتغير، تتحرك، تفيض، تستعر، تخرج حتى عن المألوف فتكون في صورة هيبيتا كما في عزازيل، ومريم كما في النبطي، وماهيتاب كما في فردقان، ولكن دوما، تزهو هذه الانثى بالذكر العظيم الذي اكتشف سرها للتو. 

مولانا….

الشيخ الرئيس.

“كانت عيناها الساحرتان تلمعان ببريق العشق والق الانوثة، والاشتياق. 

قال لها: العوالم التي نعيش فيها يا ماهتا ثلاثة، وليست عالما واحدا. أولها العالم الحسي، الذي قوامه الماديات ووسيلة معرفته والتعامل معه هي الحواس الخمس والحس المشترك بينها، وثانيها هو عالم الخيال وقوامه الوهم الحاكم على الحس احكاما غير واجبة. كما هو الحال في العشق، إذا يرى العاشق معشوقه هو أجمل انسان. وبعد ذلك عالم العقل الذي قوامه الاستقراء والمنطق. وهذا الحلم مثله مثل بقية الرؤى والمنامات، من عالم الخيال لكنه موصول بالعالم الحسي ومنطلق منه.”

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading