تأجيل الانتخابات الى حين توفر شروط إجرائها في الأراضي الفلسطينية كافة، وفي مقدمتها القدس العاصمة: ذريعة ام حكمة؟
في ظل تفاقم الأمور التي ترتب عليها قرار تأجيل الانتخابات، قد يبدو ان ما جرى أقرب لأن يكون حكمة مسبقة للرئيس الفلسطيني أكثر من كونه مجرد ذريعة. فلقد ذاب الثلج وبدأ ما يبيت تحته بالتكشف.
وعلى الرغم من أهمية ردود الفعل التي نتجت من قبل القوائم الانتخابية المختلفة، وما يمكن ان يترتب عليها من قوة حقيقية على الأرض، قد يكون اول ظهورها بما حصل مع المرشح الناشط نزار بنات بين رسالته الرسمية كمرشح عن قائمة انتخابية الى الاتحاد الأوروبي ومطالبة الأخير بوقف دعم السلطة الفلسطينية، وما جرى من هجوم مسلح على بيته.
هنا، ما جرى يقول ان الناشطين أمثال نزار بنات تقدموا خطوات الى الامام نحو ما كان عليه نشاطهم، من مجرد انتقاد للسلطة، وبدأوا باتخاذ إجراءات على الأرض تتعدى حتى السلطة.
قبل الخوض بأي شيء هنا، ما قام به نزار بنات وقائمته لم يكن ذكيا ولا مدروسا برأي الشخصي ويؤكد على عدم فهمه ابجديات السياسة والقوانين (على الرغم من تقديري الكبير لنزار واحترامي له) . قد تكون الخطوة احتجاجية ورمزية، ولكن لم يكن هذا موضعها ابدا ولا بهذا السياق. وهنا يمكن ان نفهم كذلك، ان الفعل السياسي والنشاط السياسي يختلفان تماما. من السهل ان أقول كناشط سياسي ان الاتحاد الأوروبي يجب ان يراجع او ان يوقف دعمه لأسباب مختلفة. ولكن لا أستطيع ان أقول كسياسي هذا، لان هذا القول منافي للاتفاقيات وحقيقة هذه الأموال وكيف تصرف. الادعاء العام بأن السلطة تسرق الأموال او تسيء استخدامها او تفسد بها لا يمكن اطلاقه هكذا والاتحاد الأوروبي ليس ببئر الأموال الممنوحة امام السلطة لتغرف منه بالمطلق لوحدها.
من جهة ثانية، تعدى نزار بنات الخطوط الحمراء لمن يمكن التوجه، ووضع نفسه كناشط مهم جدا في مأزق رمي نفسه في حضن الأوروبيين باستنجاده او مطالبته لهم بالتدخل. على الرغم من تأكدي ويقيني ان ما قام به نزار بنات كان مجرد إطلاق رصاصة في الفراغ ليلفت الانتباه ويقول اننا لن نسمح بأن نبقى مأسورين لتفرد السلطة وسنفضحها امام المانحين لنلوي يدها.
ولكن ما الذي سيختلف هنا عن نزار وعن الادعاءات المشابهة لمن ينسقون مع الاحتلال مثلا من اجل تسهيل الحركة والتجارة والارزاق؟ أولئك الذين يرفعون صوتهم ضد السلطة ويمدون يدهم للاحتلال لمساعدة الناس في شتى الأمور التي تتطلب تنسيقات امنية وتجارية وغيرها؟
ورد نزار بنات بالقول ان “أبو مازن قد استقوى على ياسر عرفات، لنزع بعض صلاحياته، وكانت أوروبا تدعم ابو مازن، …… ” أيضا ينم عن غضب لا حكمة، وتحسب هذه التصريحات عليه لا له.
وهنا اتي الى ردة الفعل ضد ما قام به نزار بنات بترويع اهل بيته والهجوم المسلح على بيته، وكأن الرجل قام بخيانة عظمى وقرر الحريصون باسم الفصيل الحاكم التصدي له واخذ الحق بالرصاص.
ما قام به نزار بنات لا يقع الا بتعريف واحد: لم تكن خطوة مدروسة بذكاء ولا فهم. لا تحتمل أكثر من ذلك. ولكن خلط الأمور من قبل المؤسسة الأمنية يقع في المكان الأخطر. ما جرى هو بالفعل تجسيد لتهديد السلم الأهلي. وكأننا بالفعل دخلنا الى مرحلة الحرب الاهلية. وعليه، قد يكون الرفض العارم لما جرى على الرغم من اختلاف المعظم مع بيان نزار بنات مهما، ويدل بالتأكيد على ان الناس متنبهة لهذا المأزق الذي إذا حشرنا فيه، سيكلفنا الكثير من الدماء.
من جهة أخرى وفي نفس سياق البيان الذي أعلنه نزار بنات ( وهنا أؤكد انني أتكلم عن نزار على سبيل المثال فقط لا الحصر) ، محاولة وضع اليد على الواقع السلطوي، وذلك بإعلان نفسه ممثلا عن الشعب الفلسطيني لمجرد قراره خوض الانتخابات، يؤشر كذلك على إشكالية فهم لما جرى من بدء لعملية انتخابية، تكون السباق فيها من أكثر من ١٣٠٠ شخص في سباق على ١٣٢ مقعد. يعني فرص المرشحين كانت ١٠ ٪ في أحسن الأحوال. ومما لا شك فيه، ان الجميع يعرف هذا، ولكن هنا، قرر المعظم استغلال الموقف ووضع نفسه في صورة المنتصر، يعني إذا ما كان العشر الأوائل من كل قائمة يطمعون لمقعد بالبرلمان، ناهيك عن القوائم الرئيسية التي كانت تخطط لحصد الغالبية، فنحتاج الى أكثر من ألف مقعد ليلبي مطامع المرشحين.
وعليه، أؤكد هنا، ان السبب في هذا كله هو غياب العملية الانتخابية لكل هذا الزمن. فالمرشحين في هذه الحالة دخلوا الى معترك الانتخابات بمبدأ ان إمكانية حدوثها من جديد قد يأخذ عقد او عقدين قادمين من الزمن. فالسباق كان سباق وجود أكثر منه سباق على انتخابات محددة الزمن والمدة.
وهنا ارجع الى نقطتي المبدئية: كم نحن مستعدين للانتخابات؟ كم نحتاج الى تهيئة؟ كم كان الأكثر صوابا لو تمت دراسة هذه الخطوة والتحضير لها قبل فتح صمام شهوة المجتمع على المجلس التشريعي.
لماذا كان هناك حاجة ملحة لاستباق الأمور بتشكيل حكومة وحدة وطنية تحضر للانتخابات؟ وعليه تبدو الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية الآن (بعد قرار التأجيل) اكثر إشكالية وصعبة التحقق- او بالأحرى من الأصعب تحقيق أي اهداف حقيقية لها)، يأتي الجواب لسؤالي بمعرض ما هو اهم وأكثر خطورة مما يجري بداخل كل معزل من معازل السلطة، ويتعدى فكرة محاولة اقتسام السلطة التي كانت النية معقودة نحوها.
اذا ما صحت الاخبار عن مصادر امنية مصرية “أن اسرائيل أبلغت الامارات بأنها لن تمانع تشكيل حكومة مستقلة لإدارة غزة تتشكل من شخصيات مستقلة و (محسوبة) على حركة حماس .. بالشراكة مع محمد دحلان. وأبدت تل ابيب ترحيبها بهكذا خطوة مع تقديم تسهيلات لنجاحها في إدارة القطاع من خلال تحويل ٤٠ بالمئة من أموال المقاصة الفلسطينية الى هذه الحكومة. بالإضافة الى السماح بكافة المشاريع الاقتصادية التي تساهم في الهدوء بالقطاع من خلال الامارات ومنح كبار الشخصيات من قيادة حماس (بطاقات مهمّين) شريطة التزامهم بمنع كافة اشكال الاعمال الإرهابية التي تنطلق من غزة وان يكون رئيس حكومة غزة محمد دحلان او رشيد أبو شباك او يحي السنوار. واعتبر المصدر الأمني المصري ان هذه الخطوة ستغني الانفصال التام ما بين غزة والضفة تنفيذا لصفقة القرن.”
سواء كان هذا الخبر مؤكد ام لا، ما يجري على الأرض يوحي بهكذا تحركات.
ما جرى من تصريحات تتعدى ردة الفعل الفلسطينية ضد قرار التأجيل هو الأخطر، والذي يجعلني أرى أكثر حكمة أبو مازن بقرار التأجيل بسبب القدس.
ما شأن قطر والامارات وغيرهم بقرار التأجيل؟ ليس هذا فقط، كم هي مصادفة ان يدعو سري نسيبة (مرشح قائمة المستقبل التابعة لدحلان) أبو مازن للاستقالة ثم يدعو لنفس الامر كل من حكام الامارات وقطر؟
ما يجري يأخذني الى مربع الريبة الأكبر، ما تتناوله الاخبار من تفاهمات او محاولات لتفاهمات وضغوطات من قبل دول الإقليم المجاورة لتغيير السلطة لمصلحة ترتيب يحاول جس النبض فيه لمصلحة جهة ما او جهات مدعومة بالتوافق من قبل قطر والامارات يجعلنا بخطر كبير. فخطة ترامب لا تزال نافذة، ومن يتابعون ويحددون تنفيذها لا يزالوا متواجدين ويعملون بكل جدية. ما قامت به إسرائيل من السماح للفرقاء من حركة فتح بالتنسيق له والاجتماع عليه بالقدس مقابل تأكدها من عدم السماح لأي مظهر سياسي بالمدينة من قبل الاخرين يؤكد ان إسرائيل لم تكن تنظر الى الامر فقط من بعيد، فما كان يجري يصب بمصلحة إسرائيل القصوى. إذا ما جرت انتخابات كانت ستحسم القدس من القضية الى الابد.
وطبعا، كان المختلفون فيما بينهم على المقاعد من كل صوب سيلتهون في مدى الغش او النزاهة التي حصلت اثناء العملية الانتخابية، مؤكدين ان بضع مئات من الاصوات بالقدس لم تكن لتؤثر على مجرى الانتخابات، لنصحى على حقيقة تصير فيها مسألة القدس كمسألة اللاجئين، شعار يرفع مرة بالسنة.
يريبني جدا ما يجري من تحركات فلسطينية إقليمية لتكريس واقع جديد بحجة احقية اجراء الانتخابات. هؤلاء لا يفكرون بمصلحة الشعب وطموحهم أكثر من الحصول على مقعد بالتشريعي يؤمن لهم معاشا وسيارة وحراسة مدى الحياة. هؤلاء يريدون اقتسام السلطة وتصفية القضية بتصفية القدس منها واخراجها من المشهد الفلسطيني. هؤلاء يريدون الهاءنا وسط لهثنا لممارسة العملية الديمقراطية بالانتخابات لينهوا ما لم يستطع أبو مازن انهاءه.
نعم أبو مازن هو المسؤول المباشر والأول والوحيد عن هذا التدهور. ولكن، لن يدفع أبو مازن ثمن هذا وحده. سندفعه كشعب وكقضية لم يتبق منها الا القدس لإبقائها حية.
أتمنى ان نتسم بهذا الوقت العصيب بالفعل ببعض الحكمة. فالانتخابات لا يجب ان تكون غايتنا من اجل اصلاح حالنا. وإصلاح حالنا لا يمكن ان يكون بمعزل عن تنبهنا لما يجري حولنا في المحيط الإقليمي والدولي وترتيباتهم من اجلنا.
اتفاقية إبراهيم الإماراتية لم تنته بزيارات الإسرائيليين الى دبي، ولا بالبضائع الإماراتية (ان وجدت) بالمحلات الإسرائيلية.
ما جرى بالأردن لم يكن شأنا اردنيا صرفا، والتمحور القطري الاماراتي السعودي وان اختلفت ولاءاته يتفق على تصفية لمصلحة إسرائيل. والقدس لا يمكن تجاوزها كتجاوز المستعمرات ومسألة اللاجئين الكارثي. ستبقى القدس محور الحل النهائي، ولا حل بدونها.
والقدس لا يمكن استبدالها او تعويضها بأرض بديلة ولا دولارات الاستثمار وجنسية هنا ومزايا هناك. القدس قلب فلسطين. ولا وجود لفلسطين بدون قلبها.