من القدس إلى غزة: الحقّ سلاحي وأقاوم

من القدس إلى غزة: الحقّ سلاحي وأقاوم 

عندما غنت جوليا بطرس الحق سلاحي بمناسبة العدوان على غزة قبل أعوام، كان صدى كلماتها، كما كانت كلماتها، مدوية عندما هزت الشوارع العربية “وين الملايين” ابان الانتفاضة الاولى. 

بين انتفاضات اصبحت تشكّل المفاصل الحاسمة في مراحل وجود الشعب الفلسطيني، تأتي كلمات الاغنية في مكان يفهم بحرفيّته (حروفه). 

من انتفاضة الي هبّة تتالى المصائب فيها لتسقي الارض دماء شعب ضاعت الارض منه لم يبق له الا جسد يتهاوى من اجل بقاء امام آلية ظلم لا يمكن التغلب عليها. لم يبق الا الانسان الفلسطيني امام همجية طغيان تغطّيه الشرعية الدولية وخنوع السيادة العربية. 

في ظل الانهزامات المتكررة، والهوان الدائم، خرج نبض من تراب الحياة ليشهد العالم بأن المقاومة هي سلاح الحق. والحق سلاح المقاومة.

تتكرر المشاهد اليومية لحياة صارت بالنسبة للفلسطيني هي الطبيعية. هناك جيل من الفلسطينيين لا يعرفوا معنى الحدود بلا جدار فاصل، ولا يفهموا ان الشوارع لا توقفها حواجز، وان المرور بين المدون لا يحتاج الى معابر. هناك جيل كامل لا يعرف شكل البحر مع انه يدرس بكتب الجغرافيا بأن فلسطين يترامى على حدودها شواطئ البحر الابيض المتوسط والبحر الاحمر ويمر منها نهر الاردن وفيها بحيرة طبريا (قبل ان تتغير المناهج لتصبح فلسطين جزيئات متبعثرة لبعض المدن).

من هذا الجيل، خرج من جديد شابّ\ شابّة وراء الشابّ\ الشابة حاملين الحقّ كسلاح.

مع الايام والسنين أصبح الفلسطيني جزءا من حالة التيه السياسي الحاصل. فلم يعد بمقدوره ان يمسك بأي طرف من أطراف القضية.

 اين كنا قبل اوسلو وماذا حل بنا بعدها؟

 ما الذي انجزناه وما الذي خسرناه؟

 كم كان حجم الانجازات المعلنة؟ وكم حجم التضحيات المقدمة؟ 

كم هي صدفة ان يأتي الشعب بانتفاضة تلو الانتفاضة وتكون مقاومته امام جبروت احتلال غاشم وقوى لا تقهر وينتصر لنفسه ولأرضه ثم تأتي المقايضات السياسية لترجعه خطوات كثيرة للوراء. 

في الانتفاضة الاولي اواخر الثمانينيات، شعر الفلسطيني بدنو اجل الاحتلال. استنشق عبير الحرية رغم الغاز والقمع وتكسير الأضلاع والاطراف والقتل والسجن والتعذيب. كانت انتفاضة شعب اعزل وقف بجبروت مليء بالعظمة الانسانية ليكسر حواجز الظلم والعنصرية والاستبداد. 

كان الشعب كله وحدة واحدة تتكتل لتصنع خلايا مطوعة جميعها لخدمة الشعب. كان الحجر بيد الطفل مقدماً بسلّة قامت بتجميع الحجارة فيه سيدة عجوز. كانت الجدة تتصدى للدبابة وكأنها جذع زيتونة عمرها من عمر تراب هذا الوطن. اللجان تشكلت والشعب تنظم بديناميكية خرجت من رحم الشارع. تحولنا الى جيل منتفض يفهم بالسياسة ويعي مفهوم الحرية وينشد كسر القيد للعيش بكرامة. 

كنا مفعمين بالأمل وامتلأت قلوبنا بالتوقعات. كنا ننتظر الشعوب والقيادات العربية لتهب لنجدتنا. كنا نطمح بأن يرانا العالم الغافل ويفهم معنى الذل تحت الاحتلال. 

وخرج نضال الحجارة، الذي أربك وفضح اسرائيل وكشف وجه همجيتها وتعطشها للقتل والفتك ليتم احتواؤه في نفق الاتفاقيات والتفاهمات. فكانت اسرائيل تستجدي التهدئة والحل، ولا يفهم الشعب لغاية اللحظة اي لعنة أخرجت اوسلو. 

جاءت اوسلو بحلم دولة رقعته محدودة وعلم يرفرف فوقها وعودة للقادة المغتربين والمنفيين. باعونا وهم بداية مرحلة استرجاع الحق. صدقنا بان بناء الوطن يحتاج الى عودة من شتتهم اللجوء والاحتلال. وقبولنا بقطعة من الارض سيكون مؤقتا حتى تسوية التفاهمات. صدقنا بأن العودة حق ولن تنتهي المطالبة به لطالما هناك شيخ لا يزال يحمل مفتاح بيته انتظارا للعودة. 

هوت توقعاتنا من وطن كان يحمل خارطة رغم صغرها، حدوده تتسع فيها قلوبنا لتستنشق منه حياة، لأرض تنازلوا عن معظمها ليتم التفاوض على حلم رأيناه يتحول الى كابوس يومي حتى أصبح الكابوس هو الواقع. 

حصلنا على اوسلو بالانتفاضة الاولى وصار الوطن أقل من عشرين بالمئة من المساحة الاصلية يتخلله حواجز ويخترقه شوارع التفافية، غرست فيه مستعمرات من كل الانحاء وفصلت مدنه وقراه وطرقاته بجدار. وظلت القدس عالقة بمفاوضات، واللاجئين على حبال الوهم بالعودة متأرجحين، والاسرى بالسجون يدمًّرون فيتهالكون، واعدادهم تأخذ بالصعود لا النزول. 

وخرجت الانتفاضة الثانية وكان ثمنها اغتيال رئيس وتثبيت للمستعمرات، وتحويل للحواجز لتصبح معابر وامتد الجدار الفاصل للمزيد من الكيلومترات ليلتف على المدن المتبقية والقرى. والقدس سارت الى المذبح بعملية تهويد مبرمجة طالت البشر والحجر والمصطلحات. واللاجئون في كل ذكرى للنكبة نحمل من اجلهم المفتاح ونؤكد حقا بالعودة قد غاب بين اوراق المفاوضات وقد تطاير كما يتطاير الدخان من اعقاب سيجارة. 

وعام تلاه العام حتى صار العقد على عتبة العقد والحال صار محال. فلم تعد هناك ارض للتفاوض على حدودها. والقدس في حالة حرب عارية من دفاع الا بأجساد اهلها العزّل.

 ممارسات قهر تلو الممارسات، من هدم بيوت ونزع هويات وفرض ضرائب وعقوبات جماعية وتنكيل يومي، ومحاولات تهجير قصري يجسد حي الشيخ جراح فيه نموذجا متكررا.

 والقيادة الفلسطينية تجلس على عرش رام الله وكأن الوطن صار متصدرا بالمقاطعة. اصبحت رام الله فقاعة فلسطين الخاوية. فالحياة الطبيعية فاقت الطبيعة حتى نسي اهلها الفرق بين ما هو حقيقي وما هو الفقاعة. وانفصل الوطن بالروح كما انفصل بالجسد وبقي القلب معلقا على اجهزة الانعاش بين انقسام يشده هذا الطرف عن ذاك. 

اصبحت غزة في عزلة لا يصلها الا الله او من شاء له السلطان. والسلطان هو الاحتلال لان سلطان السلطة لا يحكم حتى على حرية التنقل بلا تأشيرة مرور من المحتل. اصبحت تلك التأشيرات (التصاريح) المقدمة لأصحاب النخبة السياسية هي انجازات المفاوضات، واهم تكتيكات الحملات الانتخابية المؤجلة الى اجل غير مسمى الأخيرة. 

والخليل في واد سحيق تفترسه المستعمرات الشرسة في وضح النهار. تنكيل لا يماثله تنكيل، صار اعتياد. 

هدم بيوت وحرق حقول وسحل اطفال على الطرقات. ضرب ودهس وتنكيل امام اعين الكاميرات. 

جرائم توثّق.. واصوات تعلو استجداء واستصراخا لنجاة. 

وما من مجيب من قريب او بعيد. 

وجنين مستباحة ونابلس لتمشيط الجيش كل ما حك رأسه لمسألة نفهمها او لا نفهمها. يخشى المواطن التفكير بمقاومة او نضال، فالتنسيق الأمني وجد لمراقبة المواطن وتسليمه للاحتلال.

 فنحن الشعب في واد، والعالم الذي صنعته السلطة الفلسطينية من تنسيق أمني في واد. 

كيف يدخل الجيش الاسرائيلي اماكن سيادة مفترضة لا يفهم أحد. حتى يأتي الخبر اليقين على لسان رئيس كهل على الكرسي وانتهت صلاحية رئاسته منذ سنوات ليخاطب الاعداء مادّا يده دائما لسلام والتنسيق الامني عنده هو المقدس. ويخاطب الشعب بخطاب هزيل يلوّح بتهديد لحَلٍّ فيه حِلٍّ من اتفاقيات. او يخرج عن طوعه بسبب انشقاقات وتجنّحات في حزبه فينسف الدبلوماسية بمصطلحات نابية يؤكد فيها من جديد ان الحزب بالنسبة لهؤلاء هو الوطن، والوطن ليس الا سوق عكاظهم. يبيعون فيه المواطن كأنه ملك يمينهم، وما بقي من ارض.

ويوم وراء اليوم … وسنة وراء السنة والهوة بين فقاعات الشعب الهائمة على وجهها وتلك المتعلقة بالقيادات تزداد انشقاقا في السماء. فلم نعد نرى من أنفسنا الا اشباه ناس تعيش في فقاعات منعزلة لا تعي الا ما يجري حولها وبداخل فقاعتها. 

انفجرت فقاعات غزة مرة ومرات. وارتطم الجسد بالتراب وغسلت الدماء الارض حتى تدفقت ارتواء من دماء سفكت بلا عدل او حق …الا لرغبة اصحابها بالحياة. 

وغزو تلو الغزو على غزة حتى انتهت بخنادق اغرقت بالمياه وسياج عازل ومعابر لا يخترقها حتى الجرذان. ظلم قيادة منقسمة فاسدة غير صالحة. همّها المناصب وضخ الاموال لجيوب اصحابها ومنتفعيها على حساب شعب يتم تقديم حياته قربانا لمكسب سياسي لا يتعدى المنافع المادية للسيادة الحاكمة. 

وبين غزة والضفة شرخ بحجم الانقسام بين شطري الحكم بين انقلاب وثورة. وكأن العدو هو الاخر والصهيوني لا يخرج الا عندما يبدأ ابادته ليتذكر كل طرف منقسم انه لا يزال تحت الاحتلال. 

حكومتان منقسمتان انتهت شرعيتهما سواء بالانتخابات او الانقلاب. ولا تزالان تحملان الاعيرة الفارغة من تصريحات وتبريرات لانقسام اقترب بدخوله عقدين من الزمن. ولا يزال الحال هو المحال. 

  والقدس لا تزال واقفة شامخة بعد كل تعدّي ومحاولة اغتصاب. ينظر اهلها اليها والعار يحمل نفسه على اكتافهم وما من عين تخجل او قلب يشعر بألم المصاب. 

تزف القدس بطولاتها كمن يرش على الارض ملحا ليخرج الحياء من الحياة. 

باب العامود، الأقصى، الشيخ جراح. 

تحطم القدس بأبنائها حلم إسرائيل بتوحيد مدينة يهودية الشكل والطابع.

وينتفض أبناء الشعب الواحد. فتتحطم كل الفقاعات ويلتئم الشعب ليلتف من اللد ويافا وحيفا الى جنين وطولكرم ونابلس. الخليل وبئر السبع حتى غزة نحو القدس دفاعا مستميتا. وكأن القدس فيها نبض الحياة للإنسان الفلسطيني. 

كأنّ كرامة الاقصى من كرامة الانسان.

كأن العزة كلها بمنبر وقبة شموخها يحكي مسرى انبياء.

كأن التصدي لمحاولة تهجير سكان حي الشيخ جراح، يصحّي بالأذهان والوجدان عملية تهجير وتشريد ممنهجة بدأت مع الاحتلال ولم تنته. لن تنتهي لطالما حياتنا سقفها احتلال.

سرّ كوني يشعل ما تم نسيانه من الحياة ليتدفق خارجا وبقوة، صارخا للحياة. 

ليعيد المعنى للوجود 

لتسقط الارض ربما 

ولكن يبقى الحق هو الأحق

فالحق لا يضيع عند شعب لا يزال ينهض رغم كل الانكسارات 

المقاومة حق 

حق امام الطاغوت مهما كبر حجمه وزاد طغيانه. 

يقتلون الحياة فينا وكأننا اهداف صيد لمواسمهم. 

هذا القتل العلني والاعدامات الظالمة على مرأى البشر 

هذا التنكيل الذي يطال الاحساس والكرامة من ابناء الشعب من شرقه الى غربه 

شماله الى جنوبه 

المقاومة حق  

والحق هو سلاحنا امام الطغيان القائم.

نحن شعب لا يزال ينبض حياة 

وسيستمر بالحياة رغم عنجهية الاحتلال وانصياع القيادة الفلسطينية وغياب الوجود العربي. 

سنستمر بأن نكون 

فوجودنا هو الارض 

وهو العرض 

وهو الكرامة التي اضاعها الحكام من اشتات ما كان وطنا عربيا.

وجودنا مقاومة 

ومقاومتنا سلاحنا 

وسلاحنا صاروخ او حجر او سكين او طلقة او جسد هوت منه الحياة فهوى الى التراب ليكون أقرب الى دمه المنهمر. 

اترك رد