تخطى إلى المحتوى

القائد, الله, الوطن… الشعب  

القائد, الله, الوطن… الشعب  

تابعت بترقب منتظر خطاب الدكتور إسماعيل هنية بالأمس. والحقيقة انه في زحام الاحداث لم أركز كثيرا، فكنت اريد كذلك سماع خطاب او كلمة لخالد مشعل، وكنت أتوقع ان تكون كلمة مشعل من قطر، نظرا لإقامته فيها. وبينما كنت اشاهد خطاب هنية المهم، وكنت اشيد بخطابته وحنكته، سألت نفسي لم الخطاب من قطر. 

وهنا، وقبل البدء اريد ان اشدد انني لا مشكلة عندي مع قطر ولا الامارات ولا السعودية ولا المغرب ولا مصر ولا البحرين. مؤلم مشهد التطبيع والمؤامرات التي تحاك من اجل المنطقة بما يشملنا نحن بالتأكيد، ولكني منذ زمن ولا اضع أملي في قيادات الدول العربية، كما لا اضعها بالتأكيد في القيادات الفلسطينية. فباب النجار مخلع كما يقال. فلا يمكن ان نلوم العالم القريب او البعيد ونحن نفتقر الى معالم السياسة والدعم الحقيقي كقيادة لقضيتنا وشعبنا. 

ومن ناحية أخرى، لا يمكن عدم رؤية كم المساعدات التي تقدمها معظم تلك الدول للقيادة الفلسطينية لكي يستطيع الشعب التحمل… ولو بقطرات ما يصله من مساعدات. 

ستدمر إسرائيل وسيعيد هؤلاء الاعمار. ولكن هل سيعيدون الحياة لمن فقدوها؟ هل سيعيدون الذكريات التي دمرت وسط كل هذا القصف؟ هل سيعيدون البسمة لطفل تيتّم للتو؟ لأم، لأب ثكل بأبنائه للتو؟ 

نحن نرى بام اعيننا كيف يتم التساوم والتقاسم على هذا الوطن من قبل قياداته باسمه وعلى حساب دمنا وابنائنا وحياتنا. 

المهم… 

لم أكن اعرف، وقد أُلام هنا على جهلي، ولكن التمس العذر لنفسي الجاهلة، فالوطن تخر من ارجائه الكثير من الأمور كالماء المنهمر من كل اتجاه لا نكاد نعرف مصدرها. فيبدو انني لم اتابع كثيرا الشأن الداخلي في حماس، وعليه لم أكن اعرف ان الدكتور إسماعيل هنية لم يعد مقيما في غزة منذ وقت ليس بقصير، وعليه فهو مقيم بقطر. وقد رأى البعض ان وظيفة مدير المكتب السياسي للحزب تقتضي وجوده بقطر. 

الحقيقة، ان هذا الامر لا يعنيني كذلك، فهو حر بمكان اقامته، والله فقط اعلم بظروفه. ولكن، بينما كنت اراقب كل حركات حماس السياسية الأخيرة بإعجاب (حذر)، ففي كل مرة تراهم يُدخلون هدفا أفضل في ملعب الخصم السياسي الفتحاوي. ولا يمكن الا نرى الأمور من ناحية السباق الانتخابية الذي لم يحدث، ولكنه لا يزال جاريا. فضربات حماس في كل مرة تكون ضربات معلم. 

فهم يعرفون كيف يغتنمون الفرص المناسبة، وكيف يحرّكون المشاعر الجمعية وكيف يقلبون موازين القوى لمصلحتهم. وهذا فن ودهاء وحنكة تحسب لهم بالتأكيد. 

وهنا، يخرج الامر من جديد عما تدركه عيوننا من حياة يومية، نصارع فيها من اجل الكورونا ونترصد للفساد ونشكو من الانصياع ونراكم الاحداث فنحللها بما لا يتعدى انوفنا. 

وانا، لا زلت تلك المواطنة التي لا تفرق بين حزب واخر الا بما يحققه للشعب على الأرض، او بما يسلبه من المواطن على الارض. ولكني تغيرت منذ الانتخابات الأخيرة -اليتيمة قبل ١٥ سنة، كما تغيرت بعد كثرة الحروب على غزة، وتغيرت بعد مراقبة الوضع على الأرض ورؤية معاناة الناس، وكما تغيرت حماس الى حزب حاكم اخر يمارس أساليب لا تختلف عن الحزب الحاكم الاخر في شق الوطن الثاني. وما جرى من مساومات ومحاولات تقاسمات وتحالفات في خضم المعركة الانتخابية المؤجلة أكد لنا ان الوطن صار بالنسبة لحكامه بشطريه مجرد استحقاق ذاتي لاقتسام ما بقي من وطن لحسابات حزبية وفردية وخاصة. 

يسكت الكلام والتحليل والتمحيص عندما يصبح الانسان هو موضوع مساومة. 

القائد الحقيقي لا يضحي بالشعب مقابل تسويات سياسية.

ما جرى بالقدس بالتأكيد غيّر المعادلة وقلبها بالكامل. لم تبق التحالفات ممكنة بصيغتها التي تم محاولة تمريرها. وفعل الله هنا كان اقوى من فعل البشر كما دائما، فمكر الله اشد. ” ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.” فمن ينظر للخلف برهة يتذكر اننا كنا في الحضيض. كنا في حالة يأس ويقين ان الامر منتهي، وان القضية تم تصفيتها، وان القوة لمن معه القوة والمال، حتى خرج شباب وشابات القدس ليقلبوا الموازين ويقولوا كلمتهم الأولى والأخيرة.

لا اقول انني مفرطة التفاؤل، ولا أقول ان توقعاتي محمولة على اجنحة الامل. فلا يمكن لعاقل يعرف ويعيش حياتنا ألّا يوقن اننا دائما نتقن البدايات ونوليها بعد ذلك للقيادات ليفسدوها. تاريخنا هكذا منذ الثورات والهبات الأولى، منذ ثورة البراق وانتفاضة ال ٣٦ والتقسيم والنكبة وال ٥٦ وال ٦٧، و٧٣، و٧٨، والانتفاضة الأولى، وانتفاضة الاقصى، و٢٠٠٩، ٢٠١٢، ٢٠١٤، وهبة بوابات القدس الى الان. 

شعب يقدم التضحيات وقيادات تركب عليها وتحولها الى مصالح على حساب الشعب وتضحياته. 

واعترف انني مع الزمن تغيرت في الافراط بالتفاؤل. 

انظر الى ابنائي وأتمنى لو تصيبهم الحكمة التي اصابتني الان. ولكن.. لا يمكن ان نغير مجرى نمو ووعي الأشخاص. كل يريد ان يعيش تجربته. 

ولكن… لا يجب ان تكون هذه التجارب على حساب الحياة نفسها.. الا ما قدر الله لها. 

عبارة ارددها بلا كلل، ولا اعرف ان كان ابنائي يسمعونها. ولكني لا اتوقف عن ترديدها. 

“اهم ما يجب ان نحارب من اجله هو حياتنا. هي كل ما نملك. هذا هو خط دفاعنا. الوطن يحتاج لنا احياء لا اموات. يحتاج لنا أقوياء اصحاء لا ضعفاء او مصابين. يحتاج لنا أحرارا لا معتقلين. هم يريدوننا امواتا، ضعفاء، معوقين، مصابين، معتقلين، منهزمين.” 

لا تقولوا لي ان المعاناة تخلق القوة دائما… فقبل رحلة القوة الصعبة نُسحق ونُكسر ونُرمى أشلاء ملايين المرات قبل ان نصبح هؤلاء الأقوياء. فكم منا يُسحق ويُدعس ويُكسر ويُهدم ويُرمى ولا يستطيع الوقوف من جديد والمضي قدما.

اثناء ما يجري بالقدس خفت ككل ام تخاف على أبنائها، وسلمت وحاولت الاستسلام تدريجيا لوهج الشباب وعنفوانهم وايمانهم بما يقومون به. 

انظر الى العشرات من هؤلاء الشباب، بل المئات، وأقول في نفسي: نحن بخير. سنكون بخير لطالما نبض الشباب لا يزال حيا. 

نريدهم احياء اصحاء أقوياء، ليكونوا احرار… ليتحرروا ويحررونا. 

واعترف واقر من جديد، نعم أخاف. 

نعم لا اريد ان أرى دمعة قهر من أحد ابنائي، ولا اريد ان تخدشهم فوهة بندقية او دفشة من مجند، ولا اريد ان يصيبهم مكروه، واريدهم احياء، احرار لا معتقلين مكبلين. 

ليقل العالم عني جبانة، منقوصة الوطنية، ولكن وطني سيكون منقوصا بدون ابنائي. هكذا أرى الأوطان كاملة.. بنا جميعا. 

نحتاج ان نتعلم ثقافة الحياة لا ثقافة الموت. 

هم يريدوننا امواتا.

هذا هو التحدي الحقيقي للاحتلال: ان نكون احياء أقوياء اشداء احرار. 

هذا هو المشهد الذي يعكسه شباب وبنات فلسطين في كل يوم من القدس الى حيفا. من الخليل الى جنين. من الجليل الى بئر السبع. 

وفي غزة العزة، أحيت المقاومة مكامن عزتنا وقوتنا. فالصمود والمقاومة وجهين لعملة واحدة: الحرية.

ما قدمته المقاومة في ردها على العنجهية الإسرائيلية ضد المواطنين العزّل في القدس على مدار شهر، ابلغ رد. صدَقوا اهل هذه المدينة السليبة من كل معالم الحرية المكبلة بأنفاس الاحتلال عليها. 

في المقاومة حياة… فلا مساومة على هذا. 

المقاومة حق. 

المقاومة هي قوتنا الحقيقية. 

لا تأتي الحرية بالتمني وما جرى من رد غزة الى القدس يؤكد قولا واحدا ان الاتحاد قوة. وحدتنا هي قوتنا الحقيقية والوحيدة. 

لقد تمكنوا منا عندما قسمونا وفرقونا واقتسمونا. 

وبالتأكيد، لا يمكن مقارنة هلعنا من قنبلة صوتية بدوي دمار وانفجار وقتل جماعي مرعب كما يجري في غزة. 

اتابع ما يجري، أكلم الأصدقاء واخجل من نفسي عندما اسمع بالطرف المقابل للمحادثة ” كله بهون من اجل القدس” 

هؤلاء يقدمون حياتهم واحبتهم وممتلكاتهم ومدخراتهم وتعب السنين من اجل ان تكون القدس بخير. 

ولكن الألم والخسارة كبيرة. أكبر مما نراه ونسمعه ونتابعه. 

المصاب بالفعل جلل.

الدمار، أشلاء البشر، الإصابات، الموت المحيط من كل جانب، القصف المدوي المدمر من كل الاتجاهات بلا رحمة او رأفة…. لكل هذا ترجمات تفوق وجع الصور. أناس يفقدون احبتهم، حياتهم، ممتلكاتهم، ذكرياتهم. 

لكل صورة تمس وجداننا هناك عشرات الحكايات الإنسانية، بل ربما مئات الحكايات التي فجع أصحابها، تحطمت حياتهم واحلامهم صارت كوابيس، ودوي الانفجارات يدك في اذانهم بلا هوادة. 

أمهات، أطفال، آباء، اجداد، أصدقاء، زملاء…. قلق ورعب وهلع وترقب وخوف من موت مدمر قادم. 

أناس يكتبون وصاياتهم الأخيرة على شكل منشور الفيسبوك. لهؤلاء حياة هم كذلك حلموا ويحلمون بعيشها. 

غزة ليست استباحة لاستعراض قوة أحد. 

غزة بشر يحلمون بالعيش الكريم. 

غزة بشر يتمنون العيش. 

الحياة حق لأهل غزة كذلك.

الحياة حق لأهل غزة… بقدر حقنا لها… بقدر حق الإنسانية للحياة. 

أوقفوا القتل والظلم عن غزة. 

أهل غزة ليسوا أرقاما. 

بيوت غزة وعماراتها ومحلاتها ليست حجارة يعاد اعمارها. 

اهل غزة بشر يستحقون الحياة بعزة وكرامة. 

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading