لا انتصار لشعب منقسم تحت احتلال

لم تعرف التجربة الحضارية في تبعات حركات تحرر الشعوب مشهدا تاليا لانتصار الحرية لم تكن الحرب الاهلية من تبعاته. 

كالبركان اثر التجارب الحياتية الكونية. انفجار يشعل لهيبا متفجرا، يحرق اثناء انشقاقه من فوهته الأخضر واليابس، ولكن يخلف بعده اكثر الأراضي خصوبة. 

التجربة الفلسطينية، لا تختلف في فحواها عن التجارب الأخرى، فالشعب الفلسطيني شعب يسعى الى التحرر من الاحتلال الذي يخيم عليه منذ اكثر من سبعة عقود، الا ان عدم التحرر هو ما يميزها عن باقي حركات التحرر. فنحن التجربة الوحيدة بالعالم الحديث التي أعلنت استقلالها وصار لها سلطة ودولة وهي لا تزال قابعة تحت الاحتلال. 

ولكن لأن التحرر هو هدفنا، فما نمر فيه دائما يرتبط بعملية التحرر وتبعاته. وفي كل محاولة لنا بالتقدم خطوة نحو هذا التحرر، في كل مرة نشعر بها اننا اقتربنا وأننا صرنا خطوة أقرب لذلك الحلم المنشود. نعيش نشوة الانتصار لأنفسنا وننتهي. 

ننتهي بلحظة تالية لمشاريع التحرر الاعتيادية، الحروب الاهلية. 

هبة البراق وثورة ال ١٩٣٦ افرزت قيادتين متناحرتين وكانت النتيجة قرار تقسيم تلته نكبة.

الانتفاضة الأولى أودت بالوطن الى حزبين مهيمنين بعد ان كنا أبناء منظمة التحرير، وانجبت عندما تمخضت أوسلو.

الانتفاضة الثانية قسمت الوطن الى شطرين، وصرنا بدل الحكومة حكومتين. 

الحروب على غزة كرست الانقسام وثبتت الحصار وشرعت المحاصصة فصار الوطن امدادات عون لاعمار ما بعد الدمار.

لم نعش حتى اللحظة حربا أهلية فعلية، وأتمنى الا نعشها، ولكننا بالتأكيد أقرب لها من أي وقت. وكأن بركان الحرب الاهلية أقرب الى التفجر من ذلك التحريري. أقرب لها من كل مرة اقتربنا أكثر الى شعورنا الوحدوي بالتحرر. فلن ينتج عن دمارنا وحريقنا ارضا خصيبة، لأنه لن يكون هناك ارضا متبقية. 

وعليه، يبدو ما يحدث هو الأقرب للفهم. 

بالسابق كنت اسأل نفسي، كيف لشعب لا يزال يعيش تحت الاحتلال وبداخل عملية تحرر ان يفسد؟ ان ينقسم؟ كيف يمكن ان تكون هناك نفوس فاسدة في وطن نريده صالحا خاليا من الاحتلال؟ 

ولكني اليوم تيقنت انه لا يمكن ان نتحرر بينما لا يزال الاحتلال مخيما علينا. 

ليس انني لم اتيقن من قبل، ولكني كنت اراوغ كغيري نحو الإمكانيات المتاحة. كنت ولا أزال أرى مشهد التحرر الوهمي تحت الاحتلال المتمثل في أوسلو كمثل شجرة تنمو في غرفة محاطة بالحيطان ومسقوفة، مهما دخلت الشمس اليها وروينها واهتممنا بها، نموها محكوم بسقف الغرفة، وان نمت عنوة ستلتف علينا وتخنقنا ويصبح الاكسجين الذي توفره من عملية الكلوروفيل لا يكار يكفيها، فتأخذ اكسجيننا لتستمر هي بالنمو. 

من ناحية حاولنا التأقلم، وذواتنا الاحتلال بدلا من ان نتحرر منه. 

الحاجز صار معبرا 

الجدار صار عازلا فاصلا بين الشارع والشارع 

الشوارع الالتفافية الخطرة صارت طريقنا 

شوارع عابرة للمستعمرات صارت فواصل قرانا ومدننا 

القرى، البلدات، الاحياء، المدن تحولت تدريجيا الى معازل

صرنا نحيا بداخل مستعمرة وحاجز واراضي مسلوبة ومسربة من كل اتجاه. 

ونريد ان ننتصر

وننتصر أحيانا 

ولكن النصر لا يمكن ان يأتي بدون تحرر حقيقي. 

ما جرى بعد نشوة الانتصار في كسر المقاومة الفلسطينية لعنجهية الاحتلال كان مستحقا. 

كانت الوحدة الفلسطينية في أبهى صورها. 

كنا وحدة قسمها الانقسام وفرقتها شراهة السلطة واغرقها الفساد، فاستعدنا وحدتنا التي أثبتنا من خلالها مرة أخرى ان القوة تكمن بها. 

صرنا لأول مرة ذلك الحلم الفلسطيني من النهر الى البحر. 

تنفسنا جميعا للحظة تاريخية مصيرية لنا كفلسطينيين اقتراب الحرية بوحدتنا. 

ولكن كما لهفتنا على الانتصار السريع كانت ردة فعلنا للحظة التالية. 

اللحظة التي تحسب بتاريخ الشعوب بعد التحرر بأخطرها، وهي الحروب الاهلية. فكم الاحتقان الحاصل لا يمكن عدم فهمه. 

ما عشناه في القدس على مدار شهر من محاولات غير منقطعة لتثبيت يهودية المدينة من خلال إرساء المخططات المختلفة متمثلة بباب العامود والاقصى والشيخ جراح. 

ما شهدناه من اعتداءات من المستعمرين على البلدات الفلسطينية أعاد لذاكرتنا رعب النكبة.

وما حصل من عدوان على غزة. هذا الدك العنجهي المليء بالحقد والكره للبيوت والعمارات بقدر الكره للبشر. هذا الدمار الكبير والخسائر البشرية العظيمة، تشرد العائلات وتيتم الأبناء وثكل قلوب الأمهات والاباء، وحرق وجدان المحبين والأصدقاء. 

كل هذه الأمور كانت تتطلب منا لحظة تالية أطول من التحكم بانفعالاتنا. 

كيف احتقنت الدماء في البلدات العربية بالداخل على مدار شهر ومن ثم رجل القتل بعد إيقاف العدوان على غزة؟ 

كيف وسعت القدس العالم وكيف ضاق مصلى المسجد الأقصى بالمفتي لمجرد كونه ابن منظومة السلطة التي يحتقن الشعب منها غضبا؟ 

كيف توحدت الاعلام والشعارات بالمظاهرات وكيف رجعت رمزية الشخص هي بقدر رمزية الرب، لا مجال لمخترقها الا الضرب بالنار؟ 

كيف رجعت الطوشة على صفة سيارة او تعليق تافه او اشكال سخيف لتتصدر المشهد وتسفك الدماء وتهدر من جديد؟ 

كيف تحولنا بلحظة من شعب قدم على مدار الأيام المتتالية الشهداء استبسالا وفداء الى شعب يهدر ابناءه دماء بعضهم على نواصي الشوارع اختلافا واقتتالا؟ 

كيف رجع تعليق شيخ بدعابة او بجدية بالحط من قيمة الانثى ليتصدر الصح والخطأ من الفضيلة، والانثى هي تلك الباسلة التي لا يزال الاعلام يتداول مشاهد قوتها وبسالتها وتحديها ومواجهتها وطلاقة لسانه افتخارا وامتنانا؟ 

كيف تحملنا السلطة وفسادها وغياب الديمقراطية وانهيار الامان وغياب القانون والانتخابات، ولم نتحمل وجهة نظر لا اجماع لعليها من الجمهور المتعطش للاقتتال؟ 

بينما لا نزال نتفقد مخاسر المعركة التي تركت خلفها الكثير من الدمار، سمحنا لأنفسنا تنفس الصعداء. تنفس الصعداء كان المقصود لا استئثار النتائج والانتصار ورفع رايات الفصائلية ونصرة حزب على الاخر. ظننا ان معركتنا معركة بدر، وقد تكون في شق ما هلت علينا كذلك. نصرة الوحدة والكرامة على الظلم والتبجح من قبل الاحتلال. ولكننا لم نتعلم دروس أحد ولا درس حنين. وظننا خطيبنا خالد بن الوليد بحنكة الساسة والقادة، ودعونا مع علي وحاربنا ضده، وتركنا بن الزبير معلقا مصلوبا، ورددنا هتافات الفتح المبين لأمير المؤمنين. 

نحن في احوج وقت لنكون موحدين. وكما لا يمكن ان نتحرر بينما لا يزال الاحتلال مخيما على وجودنا. لا يمكننا ان نتوحد بينما نستمر بتجاوز الانقسام ونقبل بتقاسم الوطن ودية دم الشهداء. 

انهاء الانقسام يجب ان يكون عنوان مرحلتنا الحالية، اذا ما اردنا الاستئثار بهذه اللحظة الاستثنائية من وجودنا كشعب لا تزال طريقه نحو التحرر طويلة. 

اترك رد