بين نفاق المساومة وأنفاق القدس: سيطرة محكمة فوق الأرض وتحتها

بين نفاق المساومة وأنفاق القدس: سيطرة محكمة فوق الأرض وتحتها

تابعت كغيري زيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن الى البلاد. الزيارات المكوكية التي يبدو انها ابتدأت من أمريكا الى بريطانيا وسنرى غيرها تباعا، تؤكد على دخول الجميع في نفق مظلم تعذرت به الحلول، ومحاولة الجميع إيجاد طريقة للخروج منه عبر دهاليز تؤكد نفاق العالم وحرصه على عدم تدهور الوضع خوفا على ” امن إسرائيل”. فكما كان من الملفت مصطلحات وزير الخارجية الإنسانية، بتشديده على قيمة الانسان ورؤيته للأمور بكونه اب أولا، كان تشديده وتأكيده على امن إسرائيل بقدر حرصه على ابوته. 

بكل الأحوال، لا نعرف كيف سنخرج من هذا النفق، وربما لا يراد لنا الخروج منه. المطلوب فقط التأكد من قدرتنا على التحمل والبقاء تحت الأنقاض بأقل الخسائر المعلنة الى الخارج. 

وسط هذا النفق، هناك الانفاق الحقيقية التي ارقت حياة سكان أهالي سلوان والبلدة القديمة على مدار سنين كثيرة. تبدو اليوم بينما صار امتدادها بأرجاء واسعة تحت الأرض، قد ارقت من يعملون عليها من مستوطنين. فهذه الاعمال وما يصاحبها من اعمال استيطانية فوق الأرض يُفضّل هؤلاء ان تشق طريقها بهدوء وبلا مشاكل لا يمكن السيطرة عليها. 

قبل الدخول الى رحلة أنفاق القدس، والتي ربما اريد من خلالها بعض الهروب بالتفكير بالتاريخ والحضارة لا بالبشر وبشاعة صنيعهم. توقفت امام جملة جاء بها بلينكن في نهاية بيانه الصحفي:

“كما سنظل ملتزمين بالوضع التاريخي الراهن في الحرم الشريف. يجب أن يكون الفلسطينيون والمسلمون من جميع أنحاء العالم قادرين على الصلاة بسلام في الحرم الشريف، الآن وإلى الأبد. في القدس ومن أي مكان من إسرائيل، إذ أن العائلات الفلسطينية المسيحية والمسلمة تستحق الحق نفسه في العبادة والبناء والازدهار مثل جيرانهم اليهود”

اليوم كان لأهل حي بطن الهوى في سلوان المهددة بيوتهم كذلك بالاستيلاء والهدم موعد اخر مع المحكمة التي أرجأت الحكم في القضية. 

ولكن ما استوقفني تقارب تصريح بلينكن بتصريح موشيه ديان مباشرة بعد حرب حزيران سنة ١٩٦٧ الذي شغل منصب وزير الامن حينها، بأن “الحرم الشريف” سيبقى تحت مسؤولية الأوقاف الإسلامية. واعتبر هذا التصريح بمثابة موافقة من إسرائيل على الحفاظ على مكانة الحرم كموقع اسلامي. ولكن تصريح بلينكن على الرغم من ظاهرية ايجابيته، كحليفه الإسرائيلي السابق، يحمل في طياته المشهد الواقع للأقصى بينما يمر الإسرائيليون والأجانب اليه عن طريق الجسر المقام على مدخل باب المغاربة في تخوم حائط البراق. 

فكما استمرت إسرائيل بفرض وقائع عل الأرض، بتغيير المكانة المستقلة للحرم ومكّنتها من التأثير على ما يحدث فيه خصوصا من خلال السيطرة على أبواب الحرم وعلى ما يحدث بالقرب من اسواره. يبدو بهذا التصريح ما يمكّن إسرائيل أكثر من اجل تفنيد أي خطة متعلقة بالمسجد الأقصى – الحرم الشريف- متى أمكنها ذلك. 

ولكن حتى ذلك الحين، فان ما يجري تحت الأرض من توسيع وضم وفتح للأنفاق يجري من خلاله خلق تاريخ لتثبيت القصة الإسرائيلية التوراتية الطابع لما تحت الأرض لتثبيت القبضة فوق الأرض، وتثبت النفاق تحت مسميات الحقوق والعدالة والسعي الى سلام منشود.

تستمر إسرائيل منذ عبارة موشيه ديان إلى يومنا هذا بلا كلل بعملية تطوير في محيط الحرم وبداخله، حيث يسعى كل من الأوقاف الإسلامية وإسرائيل الى تغيير تفاهمات ١٩٦٧. فحفر الانفاق المؤدية لحائط البراق، وتأهيل المصلى المرواني، وبناء جسر المغاربة هي نماذج بارزة لهذه المساعي لتغيير الوضع القائم. بالإضافة الى هذه المشاريع، هناك نشاطات عينية تخلق واقعا جديدا في محيط الحرم (فيما تطلق عليه إسرائيل جبل الهيكل). كما ان الحفريات المتواصلة في البلدة القديمة وسلوان لها الأثر الكبير على مكانة الحرم والتوتر المستمر فيه. [أ‌]

منذ الكشف عن الحفريات تحت البلدة القديمة في القدس في أوائل الثمانينيات (١٩٨١) والتي كانت تجري بطريقة سرية للغاية، بدأت الحرب الدائرة تأخذ موقع تدحرجٍ إلى القاع بحثاً عن تاريخ يُثبِّتُ قدَم ويُهدِّد كيان.

يشتمل مشروع الحفريات الدائر على خمسة مشاريع وهي: أنفاق الحائط الغربي (البراق) والتي تؤدي من الحائط الغربي(البراق) ومحاذاة الشمال ومن تحت بيوت الحي الاسلامي (طريق الواد)  إلى بداية طريق الآلام ( فوق المدرسة العمرية)، وأنفاق هيرود والتي تبدأ من سلوان وتنتهي بالبلدة القديمة (هذه الأنفاق عبارة عن قنوات للصرف الصحي كانت تمر تحت المدينة بعصر هيروديس)، ونفق ينتهي إلى مغارة سليمان( صدقيا)[ب‌] على مشارف سور القدس ويمر تحت الحي الإسلامي كذلك، ونفق يبدأ من الحي الإسلامي ويتجه شرقا نحو الحائط الغربي (حائط البراق)، ونفق آخر في سلوان تحت ما يسمى بحديقة داوود ( حي البستان).[ت‌]

الملفت في هذه الحفريات (وهي جزء مخطط شاليم الذي يهدف إلى ربط المواقع في سلوان (بهذه الجزئية من المخطط) لتشكيل مدينة تاريخية واحدة فوق وتحت الأرض) أنها تجري في معظمها تحت جمعيات يمينية استيطانية متطرفة (إلعاد، عطيريت كوهنيم) وجمعية تابعة لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بشكل مباشر (مؤسسة تراث الحائط الغربي) وسلطة الآثار التابعة لبلدية الاحتلال بالقدس.

 استمرت الحفريات سراً وعلناً خلال السنوات، على الرغم من الشكاوى الرسمية التي قدمت من قبل الأوقاف الإسلامية وأصحاب البيوت التي كانت الأشباح تتسابق ليلا على نبش ترابها. وبعد مرور ما يقرب من عقدين أعلن نتانياهو (كان رئيسا للوزراء في حينها كذلك) افتتاح أنفاق القدس (الحائط الغربي) المحاذي للمسجد الأقصى والذي يمر بالأساس في معظمه من تحت حارات الواد (الحي الإسلامي) المأهولة بالسكان المسلمين.

كان ذاك الافتتاح شعلة اندلاع الانتفاضة الثانية، التي توقفت خلالها عملية السلام الوليدة أو ما يسمى بعملية السلام وانتهت بحصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وموته (أو لنقل مقتله إن صحت رواية البعض) لاحقا. إلا أن النفق افتتح بعد إغلاقه مؤقتا ليصبح لهذا اليوم من أهم المعالم السياحية الموجودة في المدينة.[ث‌]

لقد صاحبت الأساطير الدينية الحفريات منذ القرن الماضي، وكان أهم اكتشاف لنفق في تاريخ المدينة قد تم على يد عالم الآثار البريطاني تشارلز وارين في الستينات من القرن التاسع عشر، حين اضطر لإخفاء الحفريات المتاخمة للمسجد الأقصى خوفاً من الحكومة العثمانية.[ج‌]   

لن تستطيعَ التفكير بأخذ جولة بداخل الأنفاق، قبل أنْ تدور بجولات متداخلة كالأحجية التي تزداد تعقيداً كلّما اقتربت بذهنِك من الوصول لحلّ لها. فلا بد أن تقف مشدوداً إن كنت متفرّجاً فقط إلى الصراع الدائر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كلّ يشدّك إلى طرفه ليقنعك بصدق قضيّته وروايته. 

فالرواية التوراتية تخبّئ تحت الأقصى التابوت الذي يحمل سر أمناء الهيكل منذ موسى.

والأقصى يحمل قصّة إسراء نبي المسلمين والذي عرج منه للقاء الأنبياء جميعاً بالسماء. 

وإن كنتَ جزءاً من هذا الصراع، مثلي، فإنك لن تستطيع إلا أن تتوغل دون الحاجة إلى أيّ عمليّة شدّ من أي اتجاه بمكنونات الأمور. فلن تحتاج لرواية تثبّت قصتك أو تصنع لك تاريخاً. ولن تحتاج لتبرير ما تفعل وما لا تفعل. فأنت ابن المكان وجزء من صناعة هذا التاريخ. فما يشدّك هو تاريخ أنت محوره وصانعه حتى أصبحت جزءا من هذا المكنون الكبير، الذي من الصعب إدراكه …فقط تستطيع أن تعيشه وتندمج في ماهيته السحرية…

هذه هي القدس …

على أرضها التي تمشي فوقها أو تلك التي تحتها، أم الفضاء الذي عرج إليه الأنبياء …. تأخذك عنوة إلى مكان لا تستطيع فيه لمس الشعور ولا إدراك أي من المحسوس.. فقط تصبح جزءا من هذا السحر السرمدي الذي لا يزول.

كنت ولا زلت أشكّك في نوايا الاحتلال بما يضمرونه وما يعلنونه لنا كشعب. والقدس معركة مختلفة، تتضاعف وتتوالى وتتشابك بأساليبها، والاختلاف على موضوع الحفريات كذلك. فللاعتراض وجوه سياسية واجتماعية حقيقيّة تعزّز من فرض إسرائيل سيطرتها وتفرّدها في صناعة الواقع وفرض زمام قوّتها كيفما تشاء. وفيه تهديد حقيقيّ على السكان الذين يعانون أصلا من تهميش اقتصادي واجتماعي في أماكن تخلو من الخدمات الحقيقيّة والعادلة.

ولكن ناحية أخرى، ما تكشفه الأنفاق يشكل اكتشافا مهما لتاريخ المدينة والذي لا يجب أن يخفى. وما يجري من حفريات على الرغم من خطورته وهدمه للكثير من التاريخ الذي لا يعلمه بهذه الحالة إلا من يحفر، وهو المحتل. 

 أذكر تفاعلي وغضبي الشديد قبل بضع أعوام عندما كنت أمشي في طريق الواد بدءا من طريق الآلام عندما وجدت أن الحجارة الرومانية الضخمة قد أزيلت واستبدلت ببلاط مستحدث. رحت مسرعة لأستاذي الذي كان يمشي ورائي مع مجموعة الطلاب لأشكو له وهل المصاب، كيف أن هذا الاحتلال اللعين لا يكتفي فقط بسرقة الأرض واحتلالها، بل يزيف أيضا التاريخ. لا بد أنهم سرقوا تلك الحجارة الرومانية لوضعها في مكان سيختلقون من خلاله رواية كاذبة جديدة. نظر لي أستاذي نظرته الهازئة الطيبة الدائمة قائلا: “رويدك، لا تزعلي نفسك كثيرا. فتلك الحجارة التي تحبين لم تكن وليدة ذلك المكان أيضا. فلقد تم تجميعها في الثمانينات كغيرها ووضعت فقط لسد الفراغ لا أكثر.” 

في تلك اللحظة انهارت أحلامي بذلك التاريخ. ففي كل مرة أمشي من تلك الطريق أقف عند تلك الحجارة واسترجع عبق تاريخ لا أعيه … 

حينها كنت في بداية برامج الدراسات المقدسية، وكانت المحاضرات مع أستاذي صاحب النظرة الهازئة الطيبة تذكرني دائما بجهلي. كنت أدخل إلى محاضره “القدس عبر التاريخ” جاهلة وأخرج في كل مرة وبكل فخر أكثر جهلا. كنت أظن أن وعاء المعرفة الذي أحمله تجاه القدس ممتلئ، وكنت أتفاجأ دائما بنقص ما يحتويه وعائي.

    في يوم وقبل سنوات طلب منا أستاذنا زيارة النفق. اعترضت في البداية بشدة متسائلة كيف نذهب إلى مكان هبّت بسببه انتفاضة كلفتنا عشرات الشهداء ومئات الجرحى والأسرى وآلاف المنكوبين. وليس هذا فقط، فهذه الأنفاق وجدت لهدم الاقصى وإيجاد الهيكل المزعوم.. 

هدم الأقصى والهيكل المزعوم ……

رحلات جديدة مع دراسة تاريخ المكان في محاولة لغضّ الطرف عمّا يكبّلنا من خناق، يُجبرنا فقط على لفظ الأنفاس من أجل البقاء. 

عندما تبدأ جولة أنفاق القدس، يأخذك كما فوق النفق، كلّ إلى روايته. 

هذه المرة إلى رواية مَن كان هناك حتى قبل التاريخ. 

تبدأ رحلة النفق الأخير (انفاق هيرود) من “مدينة داوود” والتي تستقبلك بالهيكل الحجري الكبير الواقع أسفل مركز الزوار والذي يعرض (بنسخة غير حقيقية) على انه من بقايا قصر الملك داوود

تشمل هذه المواقع قلعة نبع جيحون التي تتشكل من غرف في الصخر وتلتقي بالشارع المتدرج على طول الطريق من بركة شيلوح / سلوام إلى موقف جفعاتي. تكشف الحفريات عن مسار شارع متدرج من العصر الروماني يقود من بركة شيلوح / سلوام باتجاه الحرم. ثم تمر عبر الشارع المتدرج لتدخل بنفق “طريق الحجاج” الذي يزعم ان هذه الانفاق  خدمت الحجاج اليهود في طريقهم إلى الهيكل. (لا يوجد أي دليل يثبت هذا الادعاء). الا ان الحفريات بالتأكيد كشفت عن قناة الصرف تحت الشارع المتدرج التي تعود للعصر الروماني المتقدم. وتخرجك امام اسوار المدنية والحائط الغربي الذي يعلوه شبابيك متحف المسجد الأقصى وتحيط به بقايا القصور الاموية…. 

قبل ان تدخل من جديد الى النفق الأول ( انفاق القدس -الحائط الغربي). حيث الصراع محتدم على اثبات الرواية بصيغة أقرب الى العقائدية هذه المرة …

الجولة تبدأ بمعلومات عامة عن المكان، يقول لك فيها الدليل الإسرائيلي في لحظة ما قبل أن تبدأ تلك الجولة بأن ما يجلس عليه الأقصى اليوم هو ما كان تحته الهيكل الثاني. وإن كنتَ مسلما، لابد أن يقشعر بدنك حينما ترى يد الدليل أمامك يزيل مجسّم الأقصى ويضع مكانه الهيكل.  

ويقول لك الدليل الفلسطيني همساً، إنّ الرواية الإسرائيلية تقول إن هناك الهيكل المزعوم. 

تشبه هذه الغرفة غرف غسل الدماغ إذا ما كان لغسل الدماغ غرف.

 فقبل أن تبدأ جولتك الاستكشافية والتي لا تحتاج الى الدليل. فأنت ترى بعينيك ما كتبه التاريخ من تخليد يفوق قدرة الإنسان على التدوين والتأريخ والتزييف.  

 قد يكتب كل ما يريد، قد يتشاجر العالم من فوق ومن تحت كيفما استطاع.. إلا أن حقيقة المكان تغلب على أيّ واقع يريد أيّ أحد أن يثبته. 

أدرك جيّداً نوايا الاحتلال البغيضة من تلك الحفريات. فما نشهده من حفريات فوق الأرض يشهد على بغض النوايا وظلمها للبشر كما للحجر.

 فهمْ بحفرهم تحت الأرض يبغون هزّ ودكّ وجود من فوق الأرض. 

يستثنون من حفرياتهم وينكرون ويخبّئون ويشوّهون ويعيدون طمس ودثر ما لا يناسبهم من موجودات واكتشافات. 

يبسطون سيطرتهم تحت الأرض كما فوق الأرض. 

يحاولون تغيير التاريخ وتشويهه.

إلا أنّ الحجارة لا تكذب. وما كشفته الحفريات لا يستطيع طمسه استرجاع تاريخ مقتطع لمرحلة بعينها. 

وأن هناك تاريخ لا يمكن دثره مهما طال الزمان حتى ولو تم تدميره مؤقتا.

فهناك شهادات حُفرت لتبقى.

فالطبيعة بجبروتها لم تستطع محو ما صنعه التاريخ في هذه المدينة المقدسة. 

تأخذك القدس تحت أرضها، كما فوقها، لطبقات من “الأقداس” التي تشعر بها وكأنّك تعبر في رحلة داخل التاريخ رغم أنف كل من يحاول كتابة تاريخ يُغيّر فيها التاريخ.

تنزل أو تصعد في لحظات، ويصبح النزول في طبقات المدينة صعوداً مقدّسا كاسم المدينة. تشعر بالتاريخ يعبر من خلالك وأنت في كل زاوية وممر وحجر وصخرة أو عامود. تشم فيه رائحة الزمن الماضي الباقي بما كان رغم تغيّر الوجوه. 

من قدس إسلامية تبدأ من عثمانية وتنزل بك إلى مملوكيّة وعباسيّة وأمويّة وراشديّة عمريّة إلى قدس بيزنطية ورومانية هيرودية وهيلاينية. 

وبينما لا يزال الدليل يأخذك في “مسحٍ” إلى روايته … تستمر المدينة بأخذك في جولة عبر تاريخ لعصور لا تزال تتفتح أمامك نزولاً داخل أنفاق تستشعر في ملامستها ما كان زلزالا مرّة. ما كان قناة لمياه المدينة أو قنوات صرف صحي. ما كان خندقاً وما كان مخزناً للخمور في زمن وللزيوت في زمن آخر. ما كان ممراً لقاعة تأخذك إلى رواق قصر، وما يأخذك إلى اسطبل خيول.

حتى الحجارة بألوانها وأحجامها وبروزها تدخلك في دروس تاريخ لم تكن لتعرف عنه إلا ما تراه عينيك. 

  تستمر بالمشي قدما … ولا تعرف ما الذي يأخذك ومن الذي يقودك، هل هو الدليل أم الجاذبية الخارقة المحيطة بالمكان، إلى أن تجد نفسك فجأة وبعد ساعات تبدو بنفس اللحظة بحجم لحظة وبحجم زمان لا يقاس واقفا أمام بداية ما يعرف بطريق الآلام تحت فضاء يحمله بلاط الشارع المصاحب لسليمان القانوني… زمن يبدو حديثا مقابل ذلك الزمن الذي خرجت للتو منه. 

تخرج لتفكر صارخاً لا متأمّلا، مدرِكاً ولأول مرة … 

بأنّ القدس ليست مجرد مدينة يقتتل على السيطرة عليها مدّع تراكض عليه التاريخ منذ نشأة الأنبياء فيحاول اليوم إدراكه. وبين وارث لتاريخ عُمْرٍ وأدرك مكنونات هذه المدينة التي وازت بقدسيّتها أقدس مقدّساته وحُرُماته. 

بأنّ القدس ليست مجرّد مدينة بُنيت فوقها مدينة…

وليست حضارة بُنيت من خلالها حضارات.. 

ولكنّ القدس تاريخ … مرّ من خلالها حضارات وشعوب وأمم.. احتضنتهم بالرغم من نزاعاتهم، وأبقتهم.. بل وخلّدتهم بالرغم من المذابح التي اقترفوها… وصَنعت منهم وبهم تاريخ مدينة بطريقة سحرية يصعب فهمها، تاريخ انسانيّة … تبدأ منها، إنْ لم تستمرّ الحضارات لتبقى علامة فارقة في صناعة التاريخ … على الرغم من بشاعة أصحابه بمعظم الأحيان.. إلّا أنّ المدينة كالرّب أو الأب الحكيم تُضفي قدسيّة روحها على المكان دائماً وأبداً على ما يبدو.


[أ‌] جبل الهيكل/الحرم الشريف ومحيطه – خلفية أثرية وسياقات سياسية. https://emekshaveh.org/ar/جبل-الهيكل الحرم-الشريف-ومحيطه-خلفي/

[ب‌] يقع كهف صدقيا- مغارة سليمان، تحت البيوت الشمالية للحي الاسلامي

مدخله خارج سور القدس بين باب العامود وباب الساهرة (هروديس). يخضع الموقع لسلطة شركة تطوير القدس الشرقية. خدم الكهف كمقلع- محجر- لمئات او الاف السنين. ويرجع اول دليل على استخدامه كمحجر الى القرن الثاني قبل الميلاد، وبقي مستخدما حتى القرن الخامس عشر. يعتبر هذا الكهف من أروع الكهوف التي صنعها الانسان وتم استخدامها على فترات متلاحقة ومختلفة من الحضارات والحكام ولأغراض مختلفة.

[ت‌] بدأت الحفريات بسلوان بشكل متواضع في منطقة عين ام الدرج، وتحولت في عام ٢٠٠٤ لتكون مركزية مكثفة عندما تم

الكشف في منطقة عين الحلوة عن بركة قديمة وبقايا طريق روماني مؤدي منها نحو جبل الهيكل (الحرم الشريف). ومنذ ذلك الحين تعاونت سلطة الآثار مع المنظمات الاستيطانية- العاد- وغيرها التي تعمل على تطوير منطقة حائط البراق ومنتزه مدينة داوود الوطني وبدأت في تحقيق خطتها لربط مدينة داوود بساحة حائط البراق في منطقة واحدة تحت الأرض. يستمل النظام على صالات عرض محفورة، قنوات صرف قديمة، ومساحات كبيرة تحت الأرض تم تنظيفها من محتوياتها. بين السنوات ٢٠٠٥- ٢٠٠٨ بدأت سلطة الاثار الإسرائيلية بإجراء حفريات بأنفاق سلوان وحول حائط البراق. حيث تم استخدام نفق للربط بين كنيس خيمة إسحاق وأنفاق حائط البراق الجنوبي من سلوان. في حفريات نفق جانبية، تم الكشف عن اجزاء من الشارع الروماني القديم الموثق من قبل بليس وديكي. بالإضافة الى ذلك تم خفر عمود من الأعلى في أنفاق بليس وديكي للكشف عن مجرى مغطى مبني بالحجارة. تمتد القناة أسفل شارع وادي الحلوة والمنازل المجاورة، وتستمر الحفريات في جبل الهيكل\الحرم الشريف (مركز ديفيدسون)، وتستمر شمالا أسفل ساحة حائط البراق.

[ث‌] في المرحلة الأولى من تطوير النفق كان على الزوار الدخول والخروج من خلال فتحة واحدة بالقرب من حائط البراق. في عام ١٩٩٣ تم الانتهاء من توسيع أنفاق الحائط البراق حتى طريق الآلام في الحي الإسلامي، على الرغم من تأجيل افتتاحه حتى عام ١٩٩٦. كانت هذه الأيام الأولى لولاية ناتنياهو كرئيس وزراء، وايهود أولمرت رئيس بلدية، تفرر فتح النفق الشمالي على طريق الآلام. اثار فتح النفق- صخرة وجودنا- مظاهرات واشتباكات عنيفة في جميع انحاء الضفة الغربية، قتل فيها العشرات. مع توقف المواجهات، بدأ صندوق تراث الحائط الغربي في استخدام المخرج الشمالي من النفق من اجل زيادة عدد زوار أنفاق الحائط الغربي، وبهذا وسع الصندوق مساحة سيطرته حتى قلب الحي الإسلامي.

[ج‌] قام النقيب تشارلز وارن سنة ١٨٦٥) بحفر ممرات عمودية على مسافة ما من جدران جبل الهيكل\ الحرم الشريف، وواصل الحفر في “صالات العرض”- الأنفاق الافقية التي تم حفرها على طول الجدران القديمة. حفر وارن بجانب حائط البراق من منطقة قوس روبنسون في اتجاه بوابة باركلي (أحد بوابات جبل الهيكل\ الحرم الشريف)، في نقاط تشكل اليوم جزء من شبكة “أنفاق حائط البراق”. كشف عن باب قديم ينسب الى مجمع هيرودس -القرن الأول قبل الميلاد- والذي أدى الى جبل الهيكل\ الحرم الشريف نفسه. اعتمد مشروع حفر وارين كذلك على خريطة توثق الابار وأنظمة المياه في جبل الهيكل\ الحرم الشريف سنة ١٨٦٢. حفر وارين وفريقه كذلك في قرية سلوان المجاورة وكشفوا عن أجزاء مهمة من شبكة مياه تعود الى القدس في عهد الكتاب المقدس. تمت هذه العلميات بالسر وبعيدا عن اعين السلطات العثمانية. تعرف الممرات والانفاق والقنوات اليوم باسم عمود وارين.

One comment

اترك رد