تخطى إلى المحتوى

في ذكرى اغتيال فرج فوده… الحقيقة لا تزال غائبة امام الجهل العارم

في ذكرى اغتيال فرج فوده… الحقيقة لا تزال غائبة امام الجهل العارم 

في مثل هذه الأيام، في ٨ حزيران١٩٩٢ اغتالت ايدي التطرف والجهل باسم الاسلام الدكتور فرج فودة، بعد مناظرة عن الدولة الدينية والمدنية أقيمت بمعرض الكتاب من نفس العام.

شارك د. فودة بتأسيس حزب الوفد الجديد، وشنت ضده جبهة علماء الازهر هجوما كبيرا وطالبت بعدم ترخيص حزبه (المستقبل)، واصدرت بيانا بتكفيره بجريدة النور سنة ١٩٩٢. 

كان فودة مدافعا عن الدولة المدنية وكرس جل كتاباته بالتحذير من الاسلام السياسي الذي اعتبره مبطّنا بالإرهاب من قبل الاخوان المسلمين.  ومع هذا لم ير ان الاسلام السياسي تيارا واحدا، بل قسمه الى ثلاثة اقسام: التيار التقليدي المتمثل بجماعة الاخوان المسلمين، التيار الثوري المتمثل بالجماعات الاسلامية المسلحة التي نشأت في اواخر الستينات، والتيار الثوري المتمثل بأصحاب الثروات المتضخمة التي تكونت نتيجة العمل في السعودية او في مصر بعد الانفتاح الاقتصادي في السبعينات.

فرج فودة صاحب “الحقيقة الغائبة”، غاب وظهرت حقيقة ما حذر منه، وما دفع حياته ثمنا في محاربته. 

على الرغم من ان فوده كان حاصلا على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية الا انه كان يقول:” ما انا الا مسلم يجتهد في دينه لدينه… لكني ادعي الأمانة في عرض الرأي والرأي الآخر.”

اعتمد فودة في نهجه على مبدأ “ان الحقيقة ضالة المؤمن اولا، فالطريق الى الحقيقة لا بد ان يمر بالتعرف على الرأي والرأي الآخر. الحقيقة لا تكون ابدا بطمس آراء الاخرين او تسفيهها او الهروب من مواجهتها، اما جهلا بها او استعلاءا عليها او رفضا للنتائج من البدء. وثانيا، ان أسوأ خصائصنا الفكرية تتمثل في الاعتقاد بالصواب المطلق حتى في فروع الفروع وتفصيلات التفصيلات. مما يترتب عليه الخطأ المطلق لمن يختلف معنا. فمن اسوأ خصائصنا التفكيرية هو اسلوب التفكير الاحادي الاتجاه. فالحقيقة المطلقة سبيلها فقط من خلال اسلوبنا نحن فقط في التفكير، ولا احترام لأسلوب الآخرين، ولا اعتقاد بان لهم منهجا وعقلا واسانيد. فالمنهج لدينا ما ننهج. والعقل في مفهومنا هو ما نعقل. والاسانيد في تصورنا هو ما يساند افكارنا ومنهجنا ونتائجنا… 

اما ثالثا، فهو اننا نعرف كيف نتفق ولا نعرف بعد كيف نختلف.” 

حذر فودة في كتاباته من خطورة الاستناد لاجتهادات عصور سابقة، واكد بالوقت ذاته الى الحاجة لاجتهاد معاصر. اعتبر ان هناك عدة مآزق يجب الحذر منها: مثل الدعوة للعودة الى الجذور دون مراجعة، وكذلك استلهام النص وحده دون إعمال العقل. الفصام بين الاصولية والمعاصرة، فالأولى نقل والثانية عقل. والمأزق الذي يقود اليه تقييم نصوص السنة على اساس السند وليس المتن.

اعتبر فودة ان خلاف المسلمين (يشير الى الخلاف بين السنة والشيعة) فيما بينهم كان خلافا مؤسفا، لا طائل يجنى منه سوى تمزق الصفوف، دون محاولة لرتق الخلاف وتلافي اسبابه. فالحقيقة ضاعت بين الجهل والتجهيل والتجاهل بين الفرقاء. وقد يكون كتابه عن زواج المتعة من ابلغ الكتابات التي تكلمت عن الاختلاف بين السنة والشيعة. حيث أشار بالإضافة الى المآزق أعلاه الى مأزق التناقض بين قضية فحواها الاباحة ومضمونها الحرية، وبين اجتهادات اخرى في قضايا تتصل بها، فحواها القيد، ومضمونها التشدد. 

التشدد الذي قتل فرج فودة، ولحقه جرائم أخرى مشابهة، تكفير نصر ابو زيد، والهجوم على اسلام البحيري، ويوسف زيدان واغتيال ناهض الحتر وغيرهم، لا يزال يسيطر على تصرفاتنا ووعينا. 

اذكر عند اغتيال فرج فودة وتكفير نصر حامد أبو زيد، انني صفقت وهللت مع المهللين، وصرخت مع الصارخين. فكل من كان يتعرض للإسلام بكلمة كان عدوي الشخصي. وقد اتكلم عن هذا الغباء بشجاعة لصغر سني حينها وليس فقط لجهلي. ولربما حينها ايضا، لم تكن التكنولوجيا متوفرة لمعرفة الحقيقة من كافة ابعادها كما هو الوضع اليوم. في المحصلة كنت قد دخلت الجامعة وانا مقتنعة ان ما كان من التاريخ قبل الإسلام كان جاهلية، وما كان بالجاهلية لا يعد من التاريخ. 

كبرت وزاد وعيي قليلا، وتشرفت بدخول عالم المعرفة من خلال فرج فودة ونصر ابو زيد في بعض الحيثيات. وكرست نفسي في مواضع عدة بالدفاع عنهما تعويضا عن جهلي السابق وحكمي المبني على التلهث والالتفاف وراء جمهور الأبواق المرددة بلا فهم ولا عقل. ومنذ زمن وعيت على الفرق بين ما يقال وبين ما كتب، وبناء على ذلك مشيت على درب الحقيقة التي سرعان ما تيقنت انه درب استثنائي لا يسلكه المعظم. 

وعلى ما يبدو بان مفاتيح قصور المعرفة الماضي بيد البعض من العارفين لم يكن سببه قلة الامكانيات التي تتوفر اليوم. ولكن الجهل المتأصل فينا. وفي كل يوم يزداد تساؤلي عن هذا الجهل بينما نعيش في زمن يزداد فيه عدد المتعلمين وحاملي الشهادات العليا وكأننا في سباق نحو العلم تحت اسم الشهادة. الا انه يبدو ان السباق فقط نحو لقب فارغ من كل واي مضمون. 

فالعلم نور كما قيل لنا عندما كبرنا. ولكن اي علم مقصود واي نور؟ فكل شيء يبدو معرّفا في مفاهيمنا الا المعرفة الحقيقية. مع الاسف لم تساعدنا المعرفة من خلال الشهادات التي نجتهد ونحرص على اقتنائها على ان نعرف. بل حاصرنا أنفسنا في زوايا شهادات لا تخرج معرفتنا عن كلماتها. وتركنا المعرفة بأيدي اصحاب المعرفة السابقين. واكتفينا بمعلومات لا تتعدى الجمل القصيرة عن موضوع علمي هنا وآخر ثقافي هناك. وجلسنا بانبهار امام الشاشة نتثقف بعض البرامج الحية التي لا حصر لها لغسل ذنوبنا من انبهار الاضواء بين فضائح مشاهير وعري اجساد مغنيات وراقصات لنستمع الى الدعاة من كافة الاشكال والاصناف وتبعناهم تبعية الولاة والصالحين من السلف. وأصبح الاسلام على الشاشة ينقل مباشرة من فم الرسول علية الصلاة والسلام والصحابة على لسان ذلك الداعي وذاك الشيخ والمفتي. فتصدرت لنا الفتاوي عبر رسائل قصيرة وتغريدات وأحيانا بصورة بيان. والشاطر ذلك الذي ينقل عن هذا الصحابي او ذاك. 

وتدحرجنا في سباق سلفي وآخر تقدمي نحو من هو الأحق وما هو الأصلح. نتمسك في مكان ما بدواخلنا بإسلام يرجعنا الى حضيض القرون بلا وعي، بينما نترك القيم الأبدية برسالة هذا الدين الحنيف. نتمسك بالتخلف على انه الأصل، ونترك التقدم المهول الذي قدمه هذا الدين للشعوب كأنه طفرة.

يكتفي الجميع بالهجوم، او الشجب، او التشجيع، او التأييد بالاستماع لذلك الشيخ او المفتي الذي ينتمي الى المعسكر المؤيد او المخالف. ولا يفكر احد منا بالرجوع الى المصادر والاصول للتأكد من صحة أي معلومة. 

فقد اكون من المبتعدين والمنتقدين للكتب التي صارت تسمى قديمة للسلف الصالح وغيره، وقد يكون كلامي وبفضل الله مبني على سنوات من البحث والدراسة في هذا المجال، الا ان ابسط ما يمكن ان يقال هنا، بأنه من الاجحاف رمي ما حمله التاريخ الثقافي الممتد في الاسلام في هاوية التاريخ. كما هو مجحف في حقنا كمسلمين التمسك بما كتب بحرفيه هكذا بلا وعي ولا دراسة. 

والمتعمق في هذا المجال يعرف ويعي تماما بان الحديث عن هذه الامور لا يأتي بتقليب صفحات كتاب ولا التبحر في فكر فقيه. الا انه وفي كلتا الحالات، لا بد من الاقرار بأهمية ما كان. ولكن الاهم هو التعقل في كيفية اخذنا له. فأتفق بان الكثير مما جاء بالصحيحين قد لا يكون صحيح، لانتفاء المنطق في الكثير من المواضع. ولكن مما لا شك فيه ان الجهد الذي بذل من اجل وضع تلك الكتب كان عملا جليلا وتنتفي الضغينة منه في معظمه. الا اننا يجب الا ننسى ابدا والا نتغاضى عن الظروف التي وضعت وكتبت فيها تلك الكتب. 

وما ينطبق على البخاري ينطبق على الجميع. 

هذه كانت رسالة فرج فودة الدائمة. 

لكن مع الاسف اننا معشر العرب المسلمين في هذا العصر لا نزال نفتقد الى الاعتقال الى العقل. ندعي بان الاسلام كان خلاص الجزيرة العربية من الجهل، ولا زلنا لا نعي ما هو المقصود من ذلك الجهل. ولا نحاول ان ننظر حولنا وبدواخلنا لنفهم بان الجهل ليس بعبادة صنم او حجر، ولكنه بالضبط بما نفعله اليوم، بترك كلام الله الحقيقي (القرآن) والذهاب الى الوسطاء ليدلونا على دروب الايمان. ولست اقلل في شأن كل من يحاول من شيوخ وعلماء. ولست ادعي سهولة الفهم ومعرفة الشرائع والقوانين. ولكننا في ظل التهافت الذي يجري حول هذه الامور مطالبون بالاجتهاد الشخصي من اجل الرجوع الى الكلام الاصيل. الى العبادة الحقّة. فلطالما عشنا على اننا كنا “خير امة اخرجت للناس”، فكان هذا عندما أصر الرسول على محاربة الجهل والثبات امام الخالق بلا وساطة. فتعرض لما تعرض اليه من نبذ ورفض وسخط بسبب ايمانه بالحق. فكيف نقبل على أنفسنا اليوم بمحاربة او اتباع من يجتهد ليقول كلمة حق قد يكون مخطئا او محقا في فهمها او سردها. الم يع المسلمون بعد لم قال الله في كتابه الذي ندّعي قراءته وحفظه وتلاوته ” انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظين” ولمَ قال ” ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.” فلماذا تركنا القرآن لكل من يدعي العلم واكتفينا بأن نكون فقط تابعين مرددين. أليس من الاجدر ان يكون الرسول هو قدوتنا؟ اليس من الاجدر الاقتداء بتلك البطولة التي رفعته الى منازل الانبياء بسبب صموده وتحديه وايمانه بما لم يتفق مع عشيرته وقومه وحتى سلفه؟ واليوم كما فعلنا بالأمس بفرج فودة نهاجم هجوم الوحوش وندافع بشراسة عن كل ما يقول كلمة حق اتفقنا بشأنها او اختلفنا. والحق ليس مجرّدا بادعاء او اثبات. الحق هو كل اجتهاد شخصي في محاولة الوصول الى الحقيقة. فلمَ نصرّ على قمع الاصوات التي تحاول فهم حقيقتها حتى ولو اخطأت.

 الاسلام بني على الاجتهاد الفردي. من اجل هذا طولبنا بالرجوع الى قلوبنا عند اشتداد ازمات فهمنا، فكيف نقوم بالحكم على من قال رأيا مخالفا لما نفقه او نفهم ونصر على محاربته كأنه يعادي الله. لمَ كل هذا الاستهزاء بهذا الدين والاصرار على اهترائه بالتمسك بما لا ينفع ولا يجلب لنا الا التخلف بدل التقدم ويؤكد على اهترائنا كأمة. لقد اعزنا الله بالإسلام واصرينا ونصر ان نذل أنفسنا والاسلام بالتمسك بجهلنا. 

العالم يرفع بالمحاولة والخطأ. العلم يبنى على النظريات الخاطئة والمحاولات الفاشلة المتعددة والمتكررة. الانسان يصلح حاله بعد النهوض من كل وقوع. هكذا نتعلم ونصبو الى خير ما خلقنا لأجله. ليس من خلال ترديد شعارات لا نفهمها حتى بين شجب وتشجيع. بين اسقاط ورفع لأيٍّ حاول ويحاول ان يقترب خطوة نحو الحقيقة التي من اجلها وجدنا ولأجلها نريد ان يصلح حالنا….

الحقيقة الغائبة التي اظهرها فرج فودة بحياته، وتجلت بموته. حقيقة يغلب فيها الجهل وتفقد القلوب بصيرتها. وتتجلى الحقيقة كالنور الساطع من عين الشمس بأشخاص لم يطفئ الحقد ولا الجهل نورهم.

رحل فرج فودة، وبقيت شهادة المجرم الذي اغتاله ليسجلها التاريخ علينا، عندما سأله المحقق: ” بناء على أي نص قتلت الرجل؟ قال انه قتله بناء على فتوى للدكتور عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية بقتل المرتد، فسألة المحقق: لكنك قلت في التحقيقات انك امي لا تقرأ وتعمل  ببيع السمك فكيف قرأت الفتوى. فرد قائلا لم اقرأ لكنهم قالوا لي.”

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادية حرحش

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading