فهرنهايت ٤٥١…حالنا اليوم

ما يثيرني تماما عند قراءة روايات تتمتع بسمة الخيال العلمي والديستوبيا بمنتصف القرن العشرين، هو مدى تطور الزمن الذي تحاكيه الروايات في حبكاتها وتفاصيلها. بالعادة نسمي روايات الخيال العلمي بهذا الاسم لان ما جاءت به ضرب من الخيال. نفكر في مدى سعة خيال الكاتب وشطحاته. الصحون الطائرة والمخلوقات الفضائية وغيره. ولكن في روايات اتسم الخيال العلمي بها مع ديستوبيا مثل ١٩٨٤ لجورج اورويل وفهرنهايت ٤٥١ لراي برادبري، لا يمكن الا ان نفكر ان كان ما نظنه تقدما تكنولوجيا اجتاح عالمنا فقط بنهاية القرن العشرين وما نعيشه اليوم من تقدم يجعل ما كنا نعتقد خيالا تحقق عمليا ونعيشه. المثير بالروايتين انهما كتبتا ونشرتا بين ١٩٤٨ و١٩٥٢، بينما رسم الكتاب زمن احداث روايتهما بعد تلك الأعوام بعقود. مما يجعلني أتساءل كم كانت التكنولوجيا متاحة بالفعل او بالأحرى متداولة ومعروف عنها لدى الناس. بالتأكيد كانت الأمور قيد تجارب وابحاث، ولكن لا يمكن الا تكون تلك الأبحاث قد شكلت نماذج وصلت الى بحث هؤلاء الكتاب فتوقعوا ان يتسم العالم بعد عدة عقود بها. 

بالمحصلة تلك الفترة نجم عنها القنبلة النووية والذرية… فما شهدناه من دمار كان بالتأكيد نتاج تقدم تكنولوجي لم تكن وسائل التواصل قد تطورت لترينا إياه وتجعلنا جزء من التجربة.

مرعب ان نقرأ عن التقدم التكنولوجي بخيال منتصف القرن العشرين ونرى انه يفصل ما نعيشه اليوم بعد أكثر من سبعة عقود. وصف التقدم التكنولوجي مثير جدا عند قراءته من خلال زمنه في قياسه مع اليوم. كيف تحول الهاتف الى دكي، واير بود، وكيف صارت الشاشات تتكلم والمجسات تعمل على قراءة الأفكار. وكأن الرواية تحاكي عالمنا اليوم وسط الايفون والايربود  وكل وسائل التكنولوجيا التي كانت قبل عقدين او ثلاثة ليست الا ضرب خيال بالنسبة لنا. 

تتناول فهرنهايت ٤٥١ العالم المتخيل للكاتب، حيث تصبح القراءة ممنوعة وتحرق الكتب أينما وجدت. 

الرواية كانت في حينها انعكاسا لما قام به ستالين من حملات قمع سياسي أطلق عليها التطهير العظيم، حيث تم القبض على الكتاب والشعراء وتم اعدامهم. وكذلك ما تعرضت له المانيا من حرق كتب على يد النازيين. 

بالتأكيد فترة الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تشكل جديد لأنظمة وانهيار لأنظمة شمولية بعينها مثل النازية والفاشية، واستعلاء أنظمة بقبضة أكثر شمولية متل صعود الشيوعية بحكم ستالين

وحكم ستالين لم يكن اقل ضراوة وشراسة في استحكام قوته من استبداد وقمع من حكم هتلر. ولكن بينما تخلص العالم من دكتاتور كان دكتاتورا اخر قد استحكم وبسط نفوذ قوته.. واستهلت أمريكا صعودها الى العالم الأول بضربها هيروشيما ونكازاكيي، وتعتيم اعلامي كان “الأخ الكبير” قد بدأ فرضه برعاية مكارثي حينها. 

وكأن الأخ الكبير خرج من رواية اورويل واخذنا الى وزارة الحقيقة وخصص إدارة حرق الكتب لأبطال برادبري.

الممتع بقراءة هذه الرواية هو محاكاتها لما نعيشه اليوم تحديدا. ولقد صارت الرأسمالية والنيوليبرالية بالفعل تتحكم بالعالم بحكومات تتجه الى الشمولية تدريجيا. لقد تحول الانسان منا الى مستهلك، يتحكم به الراتب والقرض، يجلس امام شاشة مندمج ببرنامج سخيف يناقشه وينشغل به ويجعله حديثه ومرتع أفكاره. دولة تقدم “السعادة” لأفرادها عن طريق الهائهم بكل ما هو غير مهم وابعادهم ومنعهم عن كل ما يجعلهم يفكرون. ربما وزارة السعادة التي ابتكرتها حكومة الامارات قريبة جدا من فهم هذه الحكومات. كثيرة هي النماذج المشابهة التي يمكن ان نفكر بها.

في تلك المدينة تمنع الكتب التي يقر منعها النظام، ويشغل رجال الإطفاء من اجل حرق الكتب. يكرس اهل المدينة أنفسهم للتبليغ عن أي كتاب ممنوع. ترى المجتمع بأسره مغسول الدماغ يأبى ان يفكر، منشغل بمزايا الحياة من سيارة وتقنيات اكسسواراتيه لحياتهم تتباهى بها النساء في جلساتهم الصباحية او المسائية الفارغة من كل مضمون، ويجلس الرجال ببلاهة يستمعون. 

لا يشغل أحد رأسه بأي شيء، لا يتكلمون عن السياسة، ولا يأبهون لما يجري حولهم، ولا يتأثرون بالقتل اليومي الناجم عن الحرائق. الدولة تعرف أفضل. بطل الرواية- (مونتاج) اطفائي تابع للنظام يعيش حياة هادئة وآمنة بسعادة مع زوجته، 

يتأثر في حريق أخير عندما ترفض صاحبة بيت سيتم حرقه بسبب بلاغ عن كتب فيه الخروج من البيت. فتصيبه صحوة ما، ويشعر بالغضب. ويحاول ان يفهم سر الكتب. 

يعترف امام زوجته انه قد خبأ بعض الكتب على مدار عمله كرجل إطفاء حيث كان يسرق أحيانا كتبا يستحسنها، ولكنه ابدا لم يقرأها. يشارك زوجته بالسر لكي يجعلها شريكته في وجود الكتب الا انها تبلغ عنه ويصبح مطاردا. 

في حديث يدور مع مديره يقول له الأخير انه “لم يعد هناك حاجة لرجال لإحراق الكتب، فالناس أنفسهم توقفوا عن القراءة بإرادتهم. حتى حاجة لحرق الكتب لان الناس لم يعودوا يقرأون.”

بين نظام يفكر عن المواطن ويقرر له كل شيء ويتحكم به تماما، وبين مواطن يفتقد تدريجيا الى القدرة على التفكير، نرى كيف تتوه الشخصيات بالرواية في تصرفاته بين غباء وخوف. فكل ما يحصل من حرق ومحاولة انقاذ لما يمكن إنقاذه من الكتب يدخل القارئ في تيه يسببه هذا العالم الجديد في عملية مسح التفكير المستقل للإنسان. المطلوب الانصياع الكامل لم يقدمه النظام الشمولي بفرح وغبطة وتقدير. النظام يفكر عن المواطن ويتصرف عنه ويقرر له. 

يؤكد كذلك الكاتب انه ليس بالكتاب وحده تحفظ البشرية. علي الرغم من أهمية ذلك، الا ان تعاطي الانسان مع الطبيعة بتقربه منها أكثر وبالتالي تقربه من نفسه وفهمها هو ما يحفظ البشرية، لا ذلك الانفصال الحاصل ما بين الانسان وطبيعته، والانسان والطبيعة. 

لا يحاول الكاتب كذلك رفض التكنولوجيا ولا البرامج الاذاعية، ولكنه يشدد انها قد تكون جيدة إذا ما كان مضمونها جيد. كما الكتب. الكتب السيئة والفارغة من المحتوى المهم والمفيد لا تختلف عن البرامج السخيفة التعبوية. فالأصل هو المحتوى والقدرة على انشائه بعقل قادرة على التفكير باستقلالية. 

وكما الشخصيات ليست ذات ذكاء عالي، فنجاة الطل تبدو بالصدفة او بالأحرى بالقدرة الإلهية، كما الشخصيات التي تساعده بالقصة سواء الأكاديمي او الرجل الذي ينقذه عند النهر في النهاية. وذكاء النظام ومديره كذلك به محدودية، فتبدو العلاقة بين النظام والمواطن في هذه الحالة كمثل رزق الهبل المجانين. 

الامر نفسه بالنسبة للمشاعر، فالبطل لا يعرف ان كان يحب زوجته او لا، وان كان لأي شخصية القدرة على التعبير على مشاعرها بطريقة مقنعة. سواء كان هذا يدلل على حنكة من الكاتب ام انه تجسيد واقعي لطبيعة المجتمع الأمريكي، ام ثغرات في الرواية فالأمر سيان. هناك حالة عامة تجعل القارئ يشعر بعدم الراحة من الشخصيات مع رعب قادم ينتظره لهيب حريق.

فهرنهايت ٤٥١ ديستوبيا واقعنا اليوم الذي نعيش فيه قمع حرية الفكر والتعبير. ربما لم يحرقوا الكتب، ولكنهم حرقوا القلوب. 

بالتأكيد لم يوفروا السعادة ولا الأموال للمواطنين، ولكنهم سيطروا على المواطنين بالرواتب وسطحوا احلامهم وامالهم. 

اترك رد